لعل كثيرين لا يدركون كيف تكون المكون الاجتماعى الحديث فى جبال النوبة بعد أن كانت أثنية النوبة هى المكون الوحيد الذى يشكل 100%… الأمر الأكثر غرابة أن كثيرين لا يدركون أحداث تاريخية مهمة مرت بالاقليم، ولكن كثير من المثقفين من أثنية النوبة وغيرها من الاثنيات الأخرى وخاصة الحوازمة والمسيرية، قد أجرى بعضهم بحوثا ميدانية كما قمنا نحن وخاصة المتخصصين فى مجال علم الاجتماع والانثروبولوجى وكذلك الذين عملوا فى منظمات دولية.
واقع التركيبة السكانية الحالية فى جبال النوبة الذى يشكل فيه النوبة الأغلبية الكبرى، جاء نتيجة لمعركة البركة بالقرب من الأبيض والتى دارت بين الرواوقة وبعض المجموعات العربية الأخرى، مما جعل زعيم الرواوقة الملقب بحامد ابو إيدا دم والذى كان يرعى موسميا في بعض المناطق في جبال النوبة دون الاستقرار بها لدرجة وصفته القبائل العربية باسم كرداى وفى الغالب يعنى النوباوى، ليقرر بعد المعركة والهزيمة الذهاب ومقابلة الإدارة الأهلية للنوبة والاستقرار هنالك…وعندما لمم أطراف القبيلة واتجه نحو جبال النوبة وصفه العرب بالقول” كرداى طلع حجرا” اى النوباوى طلع جبلو.
واستمرت المجموعات العربية إلى وقت قريب فى سفرها من الخرطوم ومدن أخرى إلى جبال النوبة تطلق على المنطقة اسم الحجر أو الجبل أو الجبال دون أى حساسية تقلل من وجودهم، ولكن وجد البعض ضالته السياسية دون حقيقية واقعية بأن مصطلح جبال النوبة يميز أثنية النوبة عن غيرهم وبالتالى فإن جنوب كردفان ستعطيهم أحقية أكثر وخاصة إذا نفذوا خطط المركز الظالم.
أما قصة الشوابنه فمعروفة وقد استقر بهم المقام اولا فى منطقة الغرق وناسبوا قبيلة كدقلى لينتهي بهم المقام أخيرا فى السمة..كما ان اول فلاتى دخل الى منطقة كلبا عند مدخل مدينة كادقلى كان يسمى سعيد طنطى مكه ” اى سعيد ود بنت مكه “، وبعدها جاء العمدة شريف ليستقر فى الشعير اولا ثم البرداب وهى مناطق كانت تتبع لإدارة كدقلى.هذا بالإضافة إلى دخول الاغاريق والأقباط والذين جاءوا من شمال و وسط السودان..وهنا نريد ان نذكر ان كل المجموعات الاثنية التى دخلت الجبال لم تدخل بالقوة ولم تخترق الاعراف والمواثيق بما فيها ملكية الارض ولا يهمنا ذكر متى دخلت وما هى مهنتها…بقدر ما يهمنا انها اصبحت جزء من المكون الاجتماعى المحترم لعادات واعراف وقوانين الاقليم، وتبادلت مع النوبة الحرف والثقافة بما فيه تعلم بعضهم لغة النوبة وممارسة الفلكلور وخاصة المصارعة واستخدام بعض وسائل التفاعل الرمزي Sympolic Interactions كالبوق والنار والاصوات.. و تاريخيا تبادلت الإدارة فى بعض جبال النوبة بين كدقلى وميرى…طبعا قصدنا هذه المنطقة، مع العلم بمناطق جبال النوبة عامة باداراتها وبالكثير من الأحداث فى مناطق مختلفة وثورات فاقت أكثر من 23 قادها النوبة ضد المستعمر فى كافة أنحاء جبال النوبة، وذلك لطبيعة موقع حدث الحجيرات، وظهور بعض من يريد أن ياجج النيران، دون النظر فى تفعيل المكانيزمات الاجتماعية كوسائل للضبط الاجتماعى كما فعل الأجداد على الرغم من خرقها فى أغلب الأحيان يتم عبر مجموعات متفلتة من القبائل العربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر مقتل العمدة زكريا فى حرزاية زكريا بمنطقة ميرى بعد أن قبض على تاجر الرقيق الشين الحبرجك، وكذلك استخدام المجموعات العربية وبعضا من النوبة فى حملة حمدان ابو عنجه التى سميت بالتاديبية، بالاضافة الى المجموعات التى استخدمت ضد ثورة السلطان عحبنا، كما يحفظ لبعض المجموعات العربية الوقوف تعاطفا مع ثورة الفكى على الميراوى ويحفظ لشابو الأعور فى تضليله للانجليز عندما سئل عن مكان الميراوى…ويمتد التعاون عبر الاحلاف وغيرها ليتطور فى العمل السياسى فى الستينات عبر اتحاد عام جبال النوبة الذى ترأسه الأب فلب عباس غبوش وناب عنه اللكى ناظر عموم الرواوقة فى ظاهرة سياسية متفردة أغضبت المركز وجعلته يعمل بكل جهد لضرب النسيج الاجتماعي وبالتالى ضرب اى تقارب سياسى، باعتبار أن الجميع يشترك فى التهميش وان اى تنمية تحدث من بنيات تحتية وخدمات وتنمية بمفهومها الشامل يستفيد منها الجميع بغض النظر عن اثنياتهم…
ضرب النسيج الاجتماعي بدأ بتجييش المراحيل فى عهد حكومة الصادق المهدى والذى كان مهندسها اللواء فضل الله برمة ناصر، ولكى يتم ضرب أواصر التقارب بين المجموعات الاثنية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وكانت حادثة القردود شماعة علقت فى النوبة ويوسف كوه كمؤامرة للانتقام من النوبة، و للحقيقة والتاريخ لم يشارك النوبة فى تلك الاحداث، كما ان يوسف كوه كان وقتها سفيرا للحركة الشعبية لتحرير السودان فى اليمن، ويوسف كوه نفسه من عمل على دعم أسواق السلام وتبادل المنافع مع الرواوقة والمسيرية الأمر الذى أدى إلى انخراط العديد منهم فى الجيش الشعبى، بعد أن أدركوا أن المركز يستغلهم لضرب التعايش السلمي والاستقرار في المنطقة.
رغم الحرب الاولى التى توقفت باتفاقية سويسرا فى عام 2002 وتوجت باتفاقية السلام فى 2005، إلا أن عقلية المركز فى استخدام المجموعات الاثنية العربية استمر بصورة قلت تدريجيا لا الكثيرين أدركوا أن استغلال المركز لمجموعات بعينها ضد سكان الاقليم واتعظ الناس من فتوى الجهاد ضد النوبة وقتلهم وتكفيرهم وسبى نساءهم ونهب ممتلكاتهم فى عام 1992 بالابيض، وبالتالى اتجه الكثير من مجموعات الحوازمة والمسيرية إلى الانضمام للحركة الشعبية، ومارس بعضهم تجارة أسواق السلام ” سمبك”، وقاوموا الحكومة ليقتل على ازرق فى خور الحمرة على يد الاستخبارات السودانية، و يسجن العشرات من أبناء الرواوقة فى كونتيرنات Containers فى كادقلى وكان ذلك فى التسعينات من القرن الماضى، وقد تعاطف أهل كادقلى لدرجة كبيرة مع وضعية المعتقلين في تلك الحاويات. وهو الشئ اى التعاطف الذى لم يجده أبناء النوبة حينما يتهمون زورا وبهتانا بالطابور الخامس أو التعاطف مع الحركة ويقتلون وتجر جثثهم فى ميدان الحرية ويسجنون وينقلون خارج الاقليم ظلما وتحل مؤسساتهم، بل قصد المركز أن يجعل معظم الاستخبارات من العناصر العربية وتوجيههم لتصفية العنصر النوبى وهو ما حدث فى خور العفن وام دورين فى الحرب الاولى وما حدث فى كادقلى والدلنج وغيرهما من مقابر جماعية قريبا، بالاضافة الى حالات الابادة المستمرة و احد اسواها حادث أطفال هيبان الذى قطع أجسام عدد من الأطفال إلى اشلاء.. حيث لم تجد تلك الحملة الابادية اى نقد أو مساندة من المجموعات العربية باستثناء الموجودين داخل الحركة الشعبية وقيل من الذين تحرك الدافع الإنسانى في قلوبهم…فقيام الحرب الأخيرة فى يونيو 2011، بجانب القتل حدثت عملية نهب وسرقة منظمة وهدم للمنازل وسرقة أبوابها وزنكيها وهدم بعضها. .الخ وتشريد أهلها من قبل بعض المجموعات العربية.
سردنا لتلك الأحداث على الرغم من عدم تفصيلنا لها للتذكير بخطورة استغلال الحرب لتدمير الشعوب والأحداث الأليمة الظالمة لا تمحى بسهولة من ذاكرة الشعوب، ولعل تجربة إبادة هتلر لليهود مثال يدرس لليهود ويتفاعل معه الكبير والصغير منهم كأنه حدث بالأمس وأقيمت له متاحف فى اروبا وأمريكا وغيرهما … كما ان اشارتنا هنا لما سبق تهدف الى انه أن الاوان لعدم استغلال الحرب للأغراض الشخصية، بل المطلوب تكامل الأدوار نحو بناء الاقليم، ولن يكون ذلك إلا بتقديم جميع الأطراف تنازلات تقود إلى الحقيقة والمساءلة والمصالحة، وذلك بتغليب الحنكة الاجتماعية على الطموحات الشخصية أو الغنائم والماثر التى لن تدوم، بل هى عبارة عن خميرة عكننة يستغلها ضعاف النفوس بفهم سياسى ضيق و مضلل لخدمة أجندة لا تخدم المواطن البسيط بل تسعى إلى قتله وزعزعة أمنه واستقراره وتنميته…وعلى الدولة أن تساعد على ذلك بدلا من تاليب عنصر على الاخر ولى عنق الحقيقة لأهداف سياسية كما حدث فى حادث الحجيرات، وهو ما يؤكد عجز الدولة عن حماية مواطنيها وبالتالى تلجأ للتخمين وإرسال الوفود بدون فهم رجال دولة للمعالجة وليس لتاجيج الصراع.
للذين لا يدركون طبيعة الحرب الاولى والتى انتهت بوقف العدائيات إطلاق النار عبر اتفاق سويسرا فى 19 يناير 2002 ورغم الانتهاكات البسيطة التى حدثت فيها الا ان حنكة الجنرال النرويجي وليامسون وفريقة واستخدام الطيران وفرق مراقبة أرضية وجويه وتقويم وتقييم دورى، قاد إلى اتفاقية سلام واتفاقا أمنيا وسياسيا وتنمويا انعكس فى اتفاقية السلام الشامل وبرتكول جبال النوبة/ جنوب كردفان والنيل الازرق على الرغم من أنه دون طموحات شعب الاقليمين، إلا أن النظام فى الخرطوم عمل على عدم تطبيق هذه البرتكوكلات بصورة سليمه جداولا زمنية وتنفيذا بجانب ابيي، ومساوما فى ذلك ببرتكول مشاكوس الذى وقعه فى يوليو 2002 والذى منح فيه جنوب السودان حق تقرير المصير…بمعنى أراد النظام تمرير اتفاقه وإعطائه الجنوب حق تقرير المصير -بدلا عن العمل على الوحدة الجاذبة- بمساومة سياسية وامنية على حساب الإقليميين وبالتالى عمل على خرق الاتفاق الأمنى بمحاولة حل الجيش الشعبى فى نهاية مايو 2011 وتزوير الانتخابات فى جبال النوبة فى يونيو 2011 والهجوم على الجيش الشعبى فى ام دورين فى 5 يونيو 2011 وعلى القوات المشتركة والحركة الشعبية فى كادقلى والدلنج وبقية محافظات الولاية فى 6 يونيو 2011، وبعدها منى النظام بهزائم نكراء فى كل المعارك التى خاضها بجيشه ومليشياته..للذين لا يعرفون الجيش الشعبى فى فترة الحرب الاولى من حيث العتاد والتدريب والعقيدة القتالية مقارنة بهذه الفترة عليهم أن يعيدون طريقة تفكيرهم فى الزج بمواطنيين أبرياء من كافة المجموعات الاثنية فى أتون حرب غلبت الدولة وارهتقتها، رغم استخدام الطيران والمدفعية والأسلحة المحرمة دوليا، بل ان عتاد النظام عسكريا كان مغنم أساسى فى تزويد وتقوية الجيش الشعبى الذى له أكثر من 30 سنة خبرة قتالية وروح معنوية ومعرفة تفصيلية بجغرافية وطبوغرافية المنطقة وفوق ذلك إرادة وهدف نحو التغيير فى الإقليم والسودان، فليس من السهل تغيير قناعات شعب يحمل هذه العزيمة إلا بحل سلمى عادل ومنصف، وهو الجانب المفقود عند معظم الحكومات المركزية التى حكمت السودان.
لذلك الرسائل التي نريد ارسالها:-
1- النضال المسلح استثناء وهو وسيلة وليست غاية في حد ذاتها تنتهى بحل عادل ومقبول.
2- للحرب افرازاتها السلبية التى تؤثر على المواطن العادى…و وقفها مسؤولية الدولة فى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس الميل إلى تاليب جماعة أثنية ضد الاخرى، لضرب النسيج الاجتماعي والعلاقات البينية بين المجموعات.
3- تحويل الحرب من مواجهة لسياسات الدولة الظالمة إلى صراع اجتماعى بين مكونات الاقليم…سيحدث نتائج سلبية للغاية فى قضايا الأمن والاستقرار والتنمية وممارسة الأنشطة الاقتصادية.
4- لا يوجد اشكال بدون حل، ولذلك على جميع مكونات الاقليم أن تضع يدها فى بعض من أجل الضغط على المركز لإيجاد حلول عادلة يستفيد منها الجميع.
5- الموت سواء كان للأطفال أو النساء أو العجزة أو اى مواطن عادى عملية غير مقبولة، وبالتالى على الجميع ضبط النفس وتدارك الأمر حتى نحافظ على العنصر البشري رأس مال التنمية الاساسى، وذلك عبر تفعيل مكانيزمات إجتماعية واعراف وقوانين يضعها من هو مدرك بطبيعة الاقليم وتكون ملزمة فى حالة حدوث خرق لها أو ارتكاب جرائم.
أخيرا حاولت أن أكتب بصورة مغايرة للعديد من المقالات أو البيانات وما يتداول فى الاسافير الإلكترونية، لناكد للجميع ان اى قضية لها حل وأى خطأ لا يعالج بخطأ، وان ينظر الشعب إلى القضايا المستقبلية الكبرى التى تجنبه خسارة اى انسان برئ أو الانتقام بجريرة اخر..والمجتمع جدير كما علمنا التاريخ والانثروبولوجى أن يضع المكانيزمات الاجتماعية التى تنظم شؤونه وهى أن طبقت بصورة سليمة أقوى من القوانين التى تضعها الدولة، فهل حكم الجميع الحنكة الاجتماعية للوقوف فى وجه كل من تسول له نفسه للتلاعب بأرواح الناس…
نقطة أخيره النظام فى الخرطوم أمام امتحان دولى واقليمى صعب فيما يتعلق برفع الحظر الاقتصادى الجزئى المرهون بخمسة نقاط، خرق اى واحدة منها إلى يوليو يعنى تراجع الإدارة الأمريكية عن الموافقة فى تمرير رفع الحظر الجزئي وبالتالى مزيد من التضيق الكامل، وعدم النظر فى إعفاء الديون ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، وها هو النظام يحرك فى الياته ويشن هجوم على المشايش فى خرق واضح لوقف إطلاق النار …وعدم الشروع الجاد لإيجاد حل سلمى عادل يلبى تطلعات المناضلين وشعب الاقليم…بالإضافة إلى وجود خلايا إرهابية فى اركويت ومواقع اخرى…العالم أصبح قرية صغيرة ونحن هنا نرصد كل صغيرة وكبيرة من أجل مستقبل ومصير شعبنا…
وثورة حتى النصر. ..
أمين زكريا-قوقادى