شهدت بلادنا فى الفترة الممتدة منذ نوفمبر 2016م وحتى يناير 2017م متغيرات وأحداث سياسية متلاحقة تتطلب الإنتباه والمراجعة وإعادة قراءة الواقع السياسي لاستكشاف سبل إنهاء الأزمات التي تطبق بخناق البلاد.
ناقش المكتب السياسي لحزب المؤتمر السوداني وقائع الأحداث السياسية فى هذه الفترة نقاشاً مستفيضاً، ويود أن يطرح للرأي العام بعض الرؤى حول هذه القضايا لفتح نقاش لاستبانة معالم الطريق نحو المستقبل الذي تنشده قوى التغيير في السودان.
1. المشهد السياسي العام:
فى نوفمبر 20166م قام النظام باتخاذ إجراءات إقتصادية لمواجهة عجزه وفشله الاقتصادي من خلال اللجوء كعادته إلى جيب المواطن وقوته فارضاً زيادات على أسعار بعض السلع والخدمات الأساسية. واجه شعبنا هذه الزيادات بالرفض والمقاومة، واتخذ حزب المؤتمر السودانى موقعه وسط الجماهير رافضاً ومقاوماً لهذه الزيادات الأمر الذى ترتب عليه اعتقال أكثر من 60 عضواً من قيادات وأعضاء الحزب -ولا يزال الأستاذ عبد المنعم عمر رئيس مكتب الحزب بالخارج يدفع ثمن هذا الموقف الشريف حبيساً في سجن كوبر- وهو المصير نفسه الذى واجهه أعضاء وقيادات من القوى السياسية والمهنية التى رفضت الإجراءات الاقتصادية، فيما أشهرت الجماهير سلاح العصيان المدني في 27 نوفمبر و19 ديسمبر الماضيين.
أظهرت تجربة العصيان المدني علامات بارزة فى مسيرة المقاومة لهذا النظام، فقد كشفت التجربة عن رفض شعبي واسع للنظام وأظهرت أن قطاعات كبيرة من الحركة الجماهيرية بدأت تغادر نفسية الانتظار وتشحذ إرادتها نحو الإنحراط المباشر في فعل المقاومة لإنجاز التغيير، كما أكدت التجربة أن النظام لا يملك غير الخيار الأمني فى مواجهة المقاومة الشعبية عبر ممارسة القمع المفرط بالإعتقال والتعذيب والتهديد وغيره من أنواع الإرهاب المسنود بترسانة القوانين القمعية وفيالق الأجهزة الأمنية .. لم تكن تجربة العصيان المدني معزولة عن سياق التعبئة الشعبية والسياسية العامة وهي وان كانت قد ادخلت إلى الساحة السياسية مجموعات جديدة لكنها لم تستثنِ القوى السياسية التي أيدت ودعمت العصيان ووفرت له الغطاء السياسي والإعلامى فى تناغم كبير يمكن أن يتطور لاحقاً إلى شكل أوسع للتنسيق بين القوى السياسية والمهنية والفئوية لاتخاذ مواقف نضالية تتراكم في مسار معركتنا ضد النظام.
كما كشفت تجربة العصيان عن الموازنة الشعبية بين الرغبة الأكيدة فى التغيير وتكلفة المقاومة في اتساق مع تجربة مقاطعة الانتخابات فى العام 2015، وهذه من المسائل التي تتطلب الدراسة والتعامل معها بجدية باعتبارها واحدة من معالم الحراك الجماهيري في زحفه المقدَّس نحو التغيير .. إن تجربة العصيان تستحق الدراسة والتقييم من كل قوى التغيير لمعالجة أسباب القصور التي صاحبتها وتلافي تكرارها في مسيرة شعبنا النضالية التي لن تتوقف حتى يحقق أمله في العبور إلى الوطن الذي يشتهي.
2. التحالفات السياسية:
منذ إعلان إنهاء علاقة أحزاب قوى نداء السودان بالداخل بتحالف قوى الإجماع الوطنى وابتعاد قوى الإجماع عن نداء السودان، ورغم الحرص المعلن من كافة مكونات المعارضة على تحقيق وحدتها، لم يشهد حراك هذه المكونات خطوات جادة تتجاوز العلاقات العامة والبيانات إلى التنسيق الفعلي فى القضايا الوطنية المتفق حولها. في هذا الإطار، كان مأمولاً أن يتم لقاء تشاوري مهم بين قوى نداء السودان وقوى الإجماع فى باريس فى 16 يناير الماضي غير أن اعتذار قوى الإجماع عن حضور الاجتماع حال دون إحداث أي إختراق فعلي فى جدار العزلة بين التحالفين، وهو الأمر الذي ينطبق على لقاء مماثل كان من المفترض أن يتم مع قوى المستقبل للتغيير. إلى جانب ذلك، فإن هنالك حالة من العجز عن الإرتفاع إلى تطلعات شعبنا لا فى وحدة القوى المعارضة فحسب بل فى قدرة هذه التحالفات على إنتاج مواقف تتسق مع تطور الحراك الجماهيري. إن أوجب واجبات تحالفات المعارضة هو صناعة الأمل الذي يستنهض الهمم للتغيير، ولن يتأتَّى ذلك إلَّا بتوحدها حول خدمة هدف التغيير – وإن اختلفت الوسائل – وتقديم رؤية واضحة تقنع جماهير التغيير بقدرتها على عبور مستنقع الأزمات وتشكيل المستقبل.
جاءت مقررات اجتماع نداء السودان الأخير بباريس معبرة عن ضرورة الحفاظ على وحدة قوى النداء وهو إنجاز مع أهميته إلا أنه أقل من الحد الأدنى من التطلعات التى يضعها شعبنا على عاتق هذا التحالف. فالمطلوب من هذا التحالف هو تفعيل حضوره الجماعي فى ساحات الحراك الجماهيري وتقوية قنوات تواصله مع الجماهير ومع تحالفات المعارضة الأخرى حتى يرتفع إلى مستوى المساهمة المرجوة منه، لا فى حلبة الصراع على إسقاط النظام فحسب، بل على مستوى المستقبل الذي ينتظر بلادنا بعد سقوط النظام.
إن لنداء السودان قيمة تتجاوز التعامل مع الراهن السياسي .. هذه المظلة العريضة التي تعبر عن قوى سياسية واجتماعية رئيسية في البلاد لها قيمة استراتيجية تتمثل في منح أية عملية تغيير في البلاد بعداً اكثر عمقاً واكثر جذرية واكثر استدامة، لذا فاننا سنعمل بجد والتزام على تجاوز كوابحه الذاتية والموضوعية وتحقيق أهدافه المتواثق عليها.
ولعله لا خلاف بين اثنين في أن فاعلية التحالفات الحالية لا تنال رضا القاعدة العريضة من الجماهير المتعطشة للتغيير، لذلك نتطلع إلى أن تعتمد مبدأ النقد والمراجعة لتجاوز السلبيات والبناء على الإيجابيات مع استصحاب معالم النهوض الجماهيري المقاوم والمتغيرات داخل أحشاء النظام إلى جانب التعاطي الحصيف مع المتغيرات في المجتمع الدولي والإقليمي بما يخدم مصالح شعبنا وتوقه للتغيير، منطلقين من حقيقة أن عملية التغيير هي بأيدي السودانيين لا سواهم وأن النصر حليفهم لا محالة.
3. استمرار المعاناة العامة:
تزداد معاناة المواطن السودانى يوماً بعد يوم فى مناطقه المختلفة بسبب سياسات وخيارات النظام ويمكن الوقوف على جوانب من هذه المعاناة فى المحطات الآتية :
أولاً: استمرار نزيف الدم بدارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ومعاناة المواطنين فى معسكرات النزوح واللجوء ومناطق الحرب، هذه المعاناة التي تطاول أمدها وسط صمت محلي ودولي تعد المأساة الأكبر في بلادنا اليوم، وتعجل من أهمية إنجاز التغيير الذي يوقف عذابات الملايين ويعالج جذور قضايا التهميش والإقصاء التي قادت لتفجر هذه الحروب.
ثانياً : حروبات السيانيد والسدود، حيث يواصل النظام فتح جبهات عدائية جديدة لحروبه ضد المواطن، فعقب مقاومة اتسمت بالبسالة والصمود لمواطني المنطقة النوبية بالشمالية ضد مشروعات إغراق المنطقة وطمس تاريخها وهويتها وتهجير الأهالى عبر السدود، هاهم يواصلون مقاومتهم رفقة مواطني ولايات جنوب كردفان ضد مصانع الموت التى تستخدم مادة السينايد القاتلة فى استخلاص الذهب.
ثالثاً : الأزمة الصحية الشاملة التي قابلها النظام ببرود وبتدابير أمنية منذ إضراب الأطباء عن العمل احتجاجاً على سوء بيئة العمل. وانتشار وباء الإسهالات المائية التى يشتبه فى كونه وباء الكوليرا الفتاك بالنيل الأزرق و تمدد ليشمل ولايات سنار ومدن فى ولاية الجزيرة والقضارف والخرطوم وليعلن عن نفسه بقوة فى ولاية البحر الأحمر، وإلى جانب ذلك ارتفعت أسعار الأدوية ليكون الوضع الصحي كارثياً بينما النظام عاجز عن القيام بما يجب أن تقوم به أية حكومة رشيدة.
رابعاً: الوضع الحقوقي الذي يشهد أسوأ تجلياته، حيث يتم تحريم الحراك السياسي السلمي المفتوح وتنتهك الحريات الدينية ويتعرض المعارضون للاعتقالات والملاحقات والاستدعاءات وتتعرض الصحف وكافة أجهزة الإعلام للتضييق الأمني.
4. العقوبات الأمريكية:
بسبب سياسات النظام وخياراته المحلية والدولية عانى شعبنا من العقوبات الأمريكية التى بدأ فرضها منذ العام 1997. نظام العقوبات الأميركية على السودان ارتبط بقضيتين هما دعم النظام للإرهاب الدولى، وحروبه المتعددة داخل وخارج البلاد وخصوصاً الوضع فى إقليم دارفور حيث تم إدراج إسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب إلى جانب سن الكونغرس عدة قوانين مثل قانون سلام السودان وسلام دارفور. ظل رفع العقوبات هدفاً عزيزاً للنظام يسعى إليه سراً وعلانية، وارتبط تحقيق هذا الهدف بالنسبة للولايات المتحدة بجملة مطلوبات تتعلق بالإرهاب والوضع الداخلى وتطور الأمر بتضافر مسائل عدة مثل الدور فى جنوب السودان والإقليم. مؤخراً أعلنت إدارة أوباما قبيل انصرافها قراراً بتعليق العقوبات لستة أشهر عللته بالتقدم الملحوظ للنظام في بعض القضايا المحلية والدولية وهو تقييم تجاهلت فيه أهم القضايا المحلية كوقف الحرب وإغاثة متضرريها واحترام حقوق الإنسان مستعيضة عنها بتعاونه في الملفات الأمنية لصالح الولايات المتحدة في الإقليم. تم تصوير هذا القرار كانفراج سينعكس إيجاباً على حياة مواطني البلاد وهو أمر مستبعد نظراً لأن أهم أسباب ضائقة البلاد الاقتصادية هو تدمير قواعدها الانتاجية بسبب سوء الإدارة والفساد وإهدار الموارد في الصرف الأمني والسياسي البذخي.
5. الخيارات السياسية:
تراكم المقاومة الجماهيرية المفضي لإزاحة كابوس نظام الأنقاذ عن صدور شعبنا هو خيارنا الأساسي وسلاحنا الأمضى. وهو، في أول مقام، واجب وطني في سبيل القيام به نبذل الوسع وما فوق الوسع وعلى استعداد لمقابلة أية تضحيات يتطلبها مهما بلغت قسوتها، كما نمدُّ أيدينا لكل قوى المعارضة باختلاف أطروحاتها لتوحيد الجهود لإنجاز هذا الواجب .. ومع ترحيبنا بالمشاركة في أية عملية سياسية تكون (مؤهلة لانتاج حل سياسي يفضي لتغيير حقيقي) يُصفِّي الشمولية ويُنهي دولة الحزب الواحد ويضع مداميك راسخة لبناء وطني جديد يتجاوز خيبات الماضي وبؤس الحاضر إلى رحاب دولة المواطنة التي تسود فيها كل شروط الحياة الكريمة، فإن حزب المؤتمر السوداني سيظل تحت كل الظروف وفياً لخيار المقاومة الجماهيرية السلمية ولن يتزحزح عنه قيد أنملة حتى يتحقق فعلياً انزياح الكابوس الجاثم على الصدور، ونستند في ذلك على قناعة تامة بأن المقاومة الجماهيرية السلمية هي السبيل الوحيد لانتصار شعبنا، إما ب إسقاط النظام والعبور لذلك التغيير.أو بحمله وإجباره على قبول الحل السياسي المفضي للتغيير الحقيقي الشامل.
6. الموقف من خارطة الطريق:
من المعلوم أن خارطة الطريق وثيقة قدمتها الوساطة الإفريقية للمساعدة في الوصول لاتفاق وقف الحرب وإغاثة منكوبيها ثم توفير منبر لمناقشة قضايا إجرائية تمهد الطريق للدخول في عملية حوار وطني شامل ومتكافيء حول الأزمة الوطنية بغرض التوافق حول كيفية معالجتها .. منذ توقيع قوى النداء على خارطة الطريق اتخذ النظام خطاً للتنصل عنها، وقد تبدَّي هذا التنصُّل واضحاً في تعنته في الوصول لاتفاق فتح مسارات الإغاثة ووقف العدائيات وفي الانتهاك المستمر للحريات الأساسية الذي جاء احترامها ضمن توصيات حوار وثبته الكذوب، إلى جانب خطابه وسلوكه اللذين يؤكد بهما مسعاه لإحداث تغيير شكلي عبر اكتفائه بتوصيات حوار الوثبة باعتباره يمثل “إرادة أهل السودان” كما يزعم.
خلال الأيام الماضية، أشاعت بعض الجهات أن مفاوضات ستجري بين النظام والمعارضة لتشكيل حكومة مؤقتة وكتابة دستور جديد على أساس توصيات حوار الوثبة .. فيما يخص نداء السودان، فإن هذه الشائعات لا أساس لها من الصحة. فنداء السودلن لم يشارك في حوار الوثبة ليكون طرفاً في تنفيذ توصياته !! وقد أعلنت قوى النداء في ختام اجتماعها الأخير أنها خاطبت الوساطة معلنةً عدم مشاركتها في أية عملية سياسية لا تتأسس على الإيفاء الكامل للنظام بمستحقات الحوار وتهيئة المناخ المناسب له، كما أعلنت أن الوساطة مثلما شاورت النظام فعليها أن تشاور قوى النداء للتعرف على رؤيتها لتصميم جديد يضمن إلتزام جميع الأطراف بخارطة الطريق وبقرارات مجلس السلم والأمن الإفريقي في جلستيه رقم 456 و539 وكلها وثائق تدعو لبداية الحل السياسي عبر وقف العدائيات وفتح مسارات الإغاثة، ثم إجتماع تحضيري للاتفاق حول ما يحقق شمولية الحوار وتكافؤه وصدقيته، ولعله من نافلة القول أن ذلك لن يتحقق إلَّا بعد تنفيذ مطلوبات تهيئة المناخ الأخرى ومن أهمها ضمان الحريات الأساسية وإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين سياسياً بالإضافة للمسائل الإجرائية مثل أجندة الحوار ورئاسته وكيفية تنفيذ نتائجه .. من هنا يصحُّ القول بأن النظام هو المسؤول عن انسداد طريق الحل السياسي عبر خارطة الطريق، وذلك لافتقاره لأية إرادة لمقابلة استحقاقات الحل السياسي الذي ينتج تغييراً حقيقياً.
ختاماً … فإننا نؤكد أن خيار شعبنا هو التغيير الشامل الذي يذهب بنظام الإنقاذ إلى مزبلة التاريخ ويوقف الحرب ويعالج جذورها وانعكاساتها ويصفي الشمولية ويضع البلاد على طريق استدامة الديمقراطية والتنمية وهو خيارنا الذي سنعمل له ليل نهار لا يثنينا عنه شيء، وهو ما يحملنا على وضع عدد من الواجبات بغية تحقيقها :
أولا : اتفاق أطراف المعارضة والجماعات المهنية والمطلبية الفاعلة على العمل معاً وفق أهداف محددة وبرنامج للعمل يقوم على التنظيم والتعبئة والتنسيق من أجل إنجاز التغيير.
ثانياً : تفعيل تحالف قوى نداء السودان باعتباره التعبير الأكثر شمولاً عن أطراف متنوعة من المعارضة، وتطوير أجهزته من حيث الشكل والمحتوى ليكون مؤهلاً للعب دور أكثر تأثيراً وتحديداً في ساحة المقاومة الجماهيرية التي يجب أن تستمر في كل الأحوال حتى زوال نظام الإنقاذ .. وفي مسار الحل السياسي ينبغي أن يتمسك نداء السودان برفض المشاركة في عملية الحل السياسي قبل تنفيذ مطلوباتها كما حددتها مواثيقه وبياناته وأن يظل على موقفه الرافض لأية عملية سياسية لا تنتج تغييراً حقيقياً، وأن تواصل أطرافه إلتزامها برفض الدخول في أية اتفاقات ثنائية مع النظام.
ثالثا: الإنتقال من مرحلة الشعارات إلى العمل الميداني .. إن واجب القوى المعارضة هو انتزاع حقها في النشاط الجماهيري المفتوح وتقدم الصفوف في أداور إقتحامية في مواجهة جدار الاستبداد عبر الحضور الفاعل بين الجماهير .. ذلك يتطلب محاصرة النظام بالأنشطة الجماهيرية السلمية مثل الندوات فى الميادين العامة والمخاطبات في الأماكن العامة والوقفات الاحتجاجية والمطلبية وغير ذلك من وسائل العمل الجماهيري وأدواته، والتي تحتاج للتنظيم في مواقع السكن والعمل في كل مدن السودان وقراه ومحاصرة النظام بتحويل مصطلح المقاومة إلى ثقافة شاملة من أجل العبور للهدف المنشود.
حزب المؤتمر السوداني
المكتب السياسي
5 فبراير 2017