منتصر ابراهيم الزين
لم تهدأ جبهة جبل مرة وما حولها منذ عشرات السنين ،ولم يشملها وقف إطلاق النار الذي أعلنته الحكومة مؤخراً ،كما لم تشهد تسوية سلمية حيث لم يدخل الفصيل الرئيسي لحركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد الذي يعتبر جبل مرة المعقل الرئيسي له ، في أي تسوية مع الحكومة منذ تفجر النزاع في 2003 .فمنذ 86ظلت جبل مرة في حالة حرب دائمة ، بلغت زروتها في 2003 ، لتستمر لخمسة عشر عاماً ،حيث أشارت نتيجة لذلك إحصائيات وكالات الإغاثة الى نزوح 11 الف نتيجة لتجدد موجة جديدة من القتال في الأيام الماضية . وفي فبراير من العام الماضي قدرت منظمة العفو الدولية عدد النازحين بربع المليون من المدنيين ، إذ توجد ألف وخمسمائة قرية في جبل مرة.
لعنة الأركيولوجيا :
أطلق الدكتور محمد سليمان محمد في كتابه السودان حروب الموارد والهوية لعنة الأركيولوجيا على ما تهبه الطبيعة من ميزات وإمكانات ،ومن ثم تتحوَّل هذه الميزات الى سبب لجلب المتاعب ؛فالطبيعة حينما تمنح هباتها وخيراتها ،تجلب معها متاعبها ومشاكلها والتى تنزل في شكل شقاء دائم ونطبق ذلك على جبل مرة .فالجبل كما يحلو لأهله أن يسموه ، آية طبيعية في الجمال ،حيث تمتد سلسلة جبال بركانية ترتفع 3000متر فوق مستوى البحر،ويغطي مساحة 21.800كلم ، ويتكون من سلسلة من المرتفعات بطول 240كلم وعرضه 80 كلم ، تتخلله الشلالات ، والبحيرات البركانية .يتمتع جبل مرة بطقس معتدل يغلب عليه طابع مناخ البحر الأبيض المتوسط ،حيث تهطل الامطار في كل فصول السنة تقريباً ممايتيح الفرصة لنمو الكثير من الأشجار الغابية و البستانية مثل الموالح والتفاح الأخضر والأشجار الغابية المتشابكة كما ان هذه الأمطار الغزيرة توفر إمداد مائي مستمر للأراضي الزراعية مما يجعل تربتها صالحة للزراعة بصورة مستمرة .
جبل مرة ،وهو جبل قبيلة الفور المقدس ،حيث تمثل مركز ثقل القبيلة ومصدر إعتزازها وحصنها الحصين منذ عهد السلطنة في منطقة طُرة الأستراتيجية .فقد واجهت القبيلة العديد من الحروب ولعب الجبل لصالحها كحصن إستراتيجي .
أصبح الجبل قبلة لرحلات الهاربين من سعير الجفاف الكبير الذي ضرب الساحل الأفريقي في ثمانينيات القرن الماضي ،وقد مثلالجفاف عاصفة في وجه التعايش ومنطق الحياة العامة في دارفور الذي كان يحكمه الإعتراف بالحدود القبلية على النمط الذي إختطته السلطنة منذ أمدٍ بعيد ،ولكن قاد الجفاف الى إختلال هذه العلاقات ،وواجه الفور نتيجة لذلك حرب التحالف العربي بغرض الإنتفاع بالأرض والمراعي ،حينما تحالفت 27قبيلة عربية ضدها في حرب شرسة راح ضحيتها اثنين ألف من الفور والآلاف من القطعان ،وأجج بالتالي الإنقسام وسط الصفوة السياسية الدارفورية ،وسادت نتيجة لذلك عمليات القتل على أساس الهوية العرقية ، وتم حرق القرى والتهجير على نطاق واسع في مناطق وادي صالح وأزوم ،والتى تم التأريخ لها في كتاب دارفور تاريخ حرب وإبادة ،وهي الفترة التى شهدت تدفق السلاح من ليبيا ،وساعدت تبعات الحرب التشادية وعدم الإستقرار السياسي كأسباب مساعدة ؛ كتدفق السلاح عبر الحدود ، والإستقطاب القبلي ،الى جانب عدم إستقرار النظام السياسيالذي اعقب سقوط الجنرال نميري مما أتاح لمحور طرابلس القذافي مساحة حركة واسعة ، أصبحت فيها دارفور وكأنها خارج سيادة الدولة السودانية . تضافرت كل هذه الظروف لتمهد للعنف الذي تفجر لاحقاً في 2003 بصورة أكبر .
الحرب ضد الفور ..هل هي لعنة الأركيلوجيا فقط ؟
في توصيفه للعنة الأركيولوجيا يصف دكتور محمد سليمان تضافر عاملي الهوية والبيئة الطبيعية أو الموارد في تغذية النزاعات في دارفور ، وفي ذلك ظلت قبيلة الفور تتعرض للأستهداف الممنهج من نظام الإنقاذ منذ مجيئه للحكم في 1989 وحتى الآن ،وذلك لأن للقبيلة قوتها السياسية كأكبر قبائل الإقليم ، وبالتالي قوة سياسية لا يستهان بها في دارفور ، وسيظل السؤال قائماً عن لماذا ظلت هذه القبيلة هدف لحرب الأيديولوجيا الإسلامية منذ إستيلاء الجبهة الإسلامية على السلطة ، ماهي خطورة هذه القبيلة على نظرية وبنية الدولة التى تريدها حتى تظل في مرمى نيران حربها على مدى الثلاثين عاماً الماضية ؟.
في الثمانينيات عاشت دارفور إضطرابات وظروف كارثية من ويلات الجفاف جر عليها إختلال في موازين التعايش مع القبائل العربية التى تمتهن الرعي ،فتفجرت الصراعات القبلية ومن ثم تصاعد حِدة الإستقطاب السياسي داخل الطبقة السياسية من أبناء دارفور ، وراج مفهوم الزٌرقة والعرب ،وبطبيعة الحال كانت قبيلة الفور في صدارة قيادة معركة دارفور السياسية ضد المركز وفي مواجهة الإستهداف العروبي الذي كان يدعو له القذافي في المنطقة ،وإنشق أبرز قادة الجبهة الإسلامية من ابناء الفورممثلا في داؤود يحي بولاد الذي كان قد ترأس إتحاد طلاب جامعة الخرطوم عن الجبهة الإسلامية وأحد أبرز قادته السياسيين .
انشقاق بولاد والإستعانة بالحركة الشعبية لتحرير السودان كان بمثابة الإسفين على جسد المشروع الذي كان يتأهب للحكم ،ومثَل بالتالي أقصى تجلي لصراع الأضداد بين المشروعين – الحركة الإسلامية والحركة الشعبية ،لذلك سارع النظام الى تصفية بولاد فور القبض عليه ،وظلت قبيلة الفور منذ ذلك الوقت تتعرض الى مايشبه الإبادة حتى تفجرت حقيقة التصفية العرقية التى يتعرضون لها بعد إندلاع الحرب في 2003 ،والتي بلغت ذروتها باستخدام السلاح الكيميائي،وقبل ذلك عمل التخطيط السياسي على ضرب مركز ثُقل الفور السياسي والإجتماعي وذلك من خلال إعادة تخطيط الوضع الإداري في دارفور بإعادة تقسيم ولايات دارفور بغرض جعل القبيلة أقلية في كل ولاية ،وذلك باضافة ولاية وسط دارفور كولاية خامسة عقب إتفاق الدوحة . .
في 14 فبراير من العام الماضي . فقد كشف تقرير لمنظمة العفو الدولية نُشر على نطاق واسع عن إستخدام الأسلحة الكيميائية في جبل مرة ،وأشار التقرير الى أن العلامات والأعراض السريرية لكثير من الضحايا تتفق الى حدٍ كبير مع حالات التعرض لفئة من الحرب الكيميائية تسمي المركبات المسببة للحويصلات أو البثور، التى تضم اللويسيت ،والخردل الكبريتي ،والخردل النيتروجيني ،وفوزجين او كسيم . وقد أوضح التقرير أنه وبعد أربعة عشر عاماً من الحرب جاء هجومٌ عسكريٌ كثيف على جبل مرة،عثرت بعده المنظمة على أدلة دامغة على أرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ، شملت القصف العشوائي ضد المدنيين، وإستخدام السلاح الكيميائي . وكان أن دعت محكمة الجنايات الدولية الى إرغام الحكومة السودانية للسماح لليوناميد ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بالوصول الى الجبل دون قيود ، لإجراء تحقيق شامل في إدعاءات الهجمات ضد المدنين هناك .
لكل ذلك فانه حرياُ بنا أن نقول أن الحرب في جبل مرة تضمر أبعاداً خطيرة تستهدف قبيلة الفور في وجودها البشري والإنساني، الى جانب السيطرة على أرضها ،وأن هناك توجه لدى الدولة لإبادة الفور بشكل كامل ، يظهر ذلك من مؤشر إستمرار الحرب والذي أخذ منحى أكثر وحشية من خلال إستخدام السلاح الكيميائي حسب ما نُشر في تقرير منظمة العفو الدولية في العام السابق . وطالب الإتحاد الأوروبي بالتحقيق حوله ،الى جانب إستمرار النزاع خلال الأيام الماضية حيث شهد فرار أكثر من أحد عشر من قراهم في شرق الجبل وماحولها .
لكل ما سبق فانه لزاماً علينا أن نناهض هذه الحرب الموجهة ضد الفور ،والتى إكتملت كل عناصرها كحرب عنصرية لها أبعادها الإستراتيجية وتقاطعات المصالح ،ولابد أن هناك أبعاد خفية لم تتضح بعد ،لكن يجب إعلان أعلى درجات المناصرة لوقف هذه الحرب ،فلا سلام او إستقرار في دارفور بمعزل عن الفور كقبيلة أصيلة لها وجود تاريخي عظيم .