عبدالعزيز النور
لقاء السيد صلاح عبدالله قوش مدير أمن النظام في السودان مع السيد يوسي كوهين رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) في الفترة ما بين (15 – 17) فبرائر المنصرم و الذي كشفت عنه صحف غربية بينها صحيفة ميدل إيست آي البريطانية يدحض كل سرديات السيد صلاح قوش السابقة حول مؤامرات إسرائيلية تخدمها أياد سودانية من الشباب الثائر ما أدى إلى إعتقالهم و قتلهم على يده بينهم الطالب “صالح يعقوب عمر سليمان” الذي أغتيل في منطقة الدروشاب ديسمبر من العام الماضي فضلا عن إعتقال و تعذيب آخرين في سنار و جبل أولياء و أمبدة و كسرهم و إجبارهم أمام كاميرات التلفزيون الحكومي على تبني قصص جهاز أمن النظام و الإدعاء بها، و بهذه المناسبة، هل تحركت روابط و هيئات المحامين السودانيين و مجموعات حقوق الإنسان الإنسانية المحلية و غير المحلية لإنقاذ ما تبقى من شباب دارفور المعتقلين وفقا لقصص صلاح قوش عميل الموساد الإسرائيلي الحقيقي، هل تحركت بعد لإنقاذ هؤلاء و مقاضاة صلاح قوش؟.. هذا من جهة، و من الجهة الأخرى نجد أن بيان جهاز أمن النظام ضد قناة الجزيرة العربية – التي ظلت داعمة للنظام وفقا للسياسة القطرية على حساب الشعب السوداني حتى قبل ظهور خبر لقاء (قوش كوهين) – و إتهام هذه القناة بالفبركة في محاولة منه للتملص من حقيقة هذا اللقاء، هذا البيان يشير إلى تراجع وضعية جهاز أمن النظام ضمن منظومة الحراك الحالية و ربما يعكس طبيعة صراعات قوى النظام فيما بينها، بحيث أن جهاز امن النظام ظل في موقع صانع الأفعال و اليد الطولى الباطشة و الغول المقتدر على فعل كل شئ، بينما ببيانه ظهر صلاح قوش و جهاز أمنه أضعف مما تصور الكثير من السودانيين، و كذا الحال في لقاءه التنويري لقواته بتاريخ 26 فبرائر المنصرم و الذي زعم فيه صلاح قوش أنهم (رسل محبة و سلام) رغم البطش و التنكيل بالشباب و الشعب السوداني الأعزل، حيث إتهم قوش جهات لم يسمها بأنها تسعى إلى تخريب سمعة (الجهاز) و كأنه لم يشاهد مناظر و أفعال جهاز أمنه في دهس الشباب و الأطفال و السحل و إقتحام البيوت و التحرش بالشابات و الشباب السوداني و ممارسة القتل عبر السمبك (…) ناهيك عن الضرب الإنتقامي و الإعتقالات التعسفية و الإبتزاز و القتل المباشر بالرصاص، فما الذي يفسر ظهور صلاح قوش بهذا الضعف و مظهر الضحية؟، ثم لماذا يحتاج صلاح قوش للقاء (الموساد) إذا كان يرغب في الإنقلاب على البشير؟، ما الذي يهم الموساد إذا كان في السلطة السودانية صلاح قوش أو عمر البشير؟، لماذا لم يناقش هذا الأمر مع ممولي النظام في كل من قطر و إيران و تركيا من جهة و الإمارات و السعودية من جهة أخرى؟..
لو أخذنا تصريحات صلاح قوش الأخيرة بأن “هناك جهات تسعى لتشويه سمعة الجهاز” على أنها حقيقة، و بذات القدر أخذنا تصريحات الرئيس عمر البشير بوادي الحمار بعطبرة “إذا الجيش دق صفارته كل فأر يدخل جحره” على أنها غير موجهة للشعب السوداني و إنما لجهات أخرى و كذلك إرهاب علي عثمان محمد طه من خلال قناة سودانية 24 و إعلانه عن “كتائب الظل التي تدافع عن النظام مهما كلف الأمر” أيضا غير موجهة إلى الشعب السوداني و إنما لغيره، فما الذي يدور بين قوى النظام المختلفة؟. هل إرهاب علي عثمان كان المقصود به الجيش و على رأسه البشير؟، و هل كانت غطرسة البشير في الجزيرة و الساحة الخضراء و وادي الحمار ردا عليه؟، و من يقصد صلاح قوش بـ الجهات التي تسعى إلى تشويه سمعة الجهاز؟، هل هناك توتر بين الجيش و قوات صلاح قوش خصوصا بعد تصريحات عوض بن عوف المعين حديثا نائبا أول للرئيس بأن قانون الطوارئ ليس المعني به المظاهرات و إنما الإجراءات الإقتصادية؟، و في إطار الجيش، لماذا لم يظهر السيد كمال عبدالمعروف رئيس هيئة أركان الجيش المشتركة في إحتفالية البشير التي أعلن فيها عن إنقلابه الظاهري على الحركة الإسلامية بعد أن قال في وقت سابق أنهم حركة إسلامية كاملة الدسم؟، هل لذلك علاقة بتقرير سابق لصلاح قوش أورد فيه ضرورة مراقبة كمال عبدالمعروف و زعيم مليشيا الجنجويد (الدعم السريع) محمد حمدان دقلو (حميدتي)؟ و كيف يفسر ظهور حميدتي في ذات الفعالية ضمن خمسة آخرين من ضباط الجيش بالزي الرسمي مع غياب عبدالمعروف؟ هل يعني ذلك إمكانية ضم قوات الدعم السريع إلى الجيش مقابل حل جهاز الأمن إذا صدق حديث قوش الأخير حول تشويه صورة الجهاز و كان المقصود من حديث قوش هو الجيش؟..الخ. هذه الأسئلة و غيرها قد تكون مدخل لقراءة سليمة لمصير هذه الجيوش المختلفة. فحديث علي عثمان ربما جاء بعد تسريبات للبشير يقول فيها أن العالم ليس لديه مشكلة مع البشير نفسه و إنما مع الحركة الإسلامية، و ربما كان علي عثمان يهدد الجيش و تحذيره من الإقدام على خطوة الإنقلاب عليهم.
البشير رغم إنقلابه الظاهري على الحركة الإسلامية و عسكرة الحكومة بالكامل إحتفظ ببعض العناصر المدنية منها السيد أحمد هارون و محمد طاهر إيلا، و أوكل للشخصين مهام ليست بالسهلة إن كان بالفعل هناك مهام حقيقية لرئيس الوزراء، بينما فوض صلاحيته في حزب المؤتمر الوطني لأحمد هارون دون نافع علي نافع أو علي عثمان أو الجاز أو غيرهم من عناصر الحركة الإسلامية الذين بناهم و أظهرهم هذا التنظيم دون هؤلاء الذين مرغهم في جرائم الحرب و الإبادة و الفساد و غيرها، ليكون بذلك أعلى هرم النظام مطلوب للعدالة الدولية في كل “البشير، عوض بن عوف و هارون”.. لماذا إختار البشير هارون دون غيره؟، هل لإرضاء هارون الذي شاع عنه رفض التخلي عن ولايته للبشير أم أن المؤتمر الوطني أصبح خرابة يريد التخلص منه و من هارون مرة واحدة أمام الرفض الشعبي العام، أم أنه يريد الإحتفاظ به كل لا يسلم نفسه للجنائية و بالتالي إضفاء المزيد من الأدلة و تحريك ملف الجنائية في هذا الظرف الحرج ضد البشير و نظامه؟، و الأغرب من ذلك أن السيد محمد طاهر إيلا إحتاج لتعطيل المجلس التشريعي لولاية الجزيرة و إدخال الولاية تحت قانون الطوارئ حتى يتمكن من القيام بمهامه كوال ليأتي تكليفه رئيسا للوزراء و كل السودان تحت قانون الطوارئ، فما الذي يمكن أن يقوم به إيلا تحت هكذا ظروف و في حكومة يعرف شخوصها غير إصدار التعليمات و الأوامر. لماذا يحتفظ البشير بإيلا و هارون دون غيرهم؟؟.. هل خسر البشير كل أعضاء مذكرة العشرة التي شقت صف الحركة الإسلامية نهاية تسعينات الألفية المنصرمة؟.. و خصوصا مع تصاعد أصوات تنتدي بتنازله عن السلطة و عدم ترشيحه لنفسه مرة أخرى.
سيناريو تسليم السلطة للجيش كنا قد أوردناه ضمن سيناريوهات النظام للخروج الآمن و قد الرئيس البشير نبوءتنا هذه بتاريخ 23 فبرائر الماضي. يلاحظ أيضا أن البشير يود حل المؤتمر الوطني من خلال حزبه الجديد الذي أعلن عن إنشاءه في الأيام المقبلة، و هذه الخطوة قد لا تختلف كثيرا عما حدث في ما سمي بالمفاصلة في الرابع من رمضان 2000م حيث وقع إنشقاق الحركة الإسلامية على أساس إثني محض رغم رفض أتباعها ذلك، و من ثم طرد الترابي و المقربين من السلطة و تصعيد عناصر أخرى كانت خافتة، فيما لم يتغير توجه الحركة الإسلامية الجديدة “المؤتمر الوطني” حينها عن توجهات الإنقاذ كما لم يتخلى البشير عن أطروحاتها. ربما يحاول البشير مرة أخرى تكرار التجربة السابقة لإيهام الشارع بأنه أقدم على تغيير حقيقي من جهة و معالجة الإختلالات و مواجهة القوى الصاعدة داخل النظام من جهة أخرى. يبدو أن البشير يود أن يلعب دور الضحية في هذه الأثناء كما كان إبان مفاصلتهم الشهيرة، و يحاول أن يبرئ الجيش و هو على رأسه من المشكل السوداني و تقديمه للشعب السوداني على أنه ذو أياد نظيفة أمينة حارسة للوطن دون أن ينتبه البشير على أن ذاكرة الشعب تزخر بدور الجيش السياسي المدمر، و أن السودان حُكم أكثر من خمسين بواسطة الجيش حيث حكم الجنرال إبراهيم عبود 6 سنوات، و العقيد جعفر محمد نميري و سدنته 16 سنة و الجنرال عمر البشير و حركته الإسلامية 30 عام، و أن الجيش هو ذات الجيش الذي ظل يشن الحروب على مواطني السودان في كل مكان و قتلهم و تشريدهم بطريقة عنصرية دون أدنى إلتزام بقسم الجيش المعلن في وقت يتم إستقطاع السودان في كل جانب من أراضيه و شعبه و ثرواته. أعتقد أن البشير – في حال أراد الإستمرار في عملية تجييش السلطة – فإنه سيكون مضطرا لإيجاد وضعيات رسمية للمليشيات ضمن الجيش، و أعني بهذا الجانب مليشيا الدعم السريع التي ربما سيتم حلها من خلال دمجها في الجيش و تعيين قائدها حميدتي ضمن قيادته، و بالتالي التخلص منها كقوة مهددة و إنهاء دورها السياسي التي يمكن أن تلعبه ضمن قوى النظام المتصارعة، و لكن ما الذي سيفعله البشير حيال جهاز الأمن الذي أصبح مكروها كما البشير وسط الجماهير السودانية بسبب البشاعات التي يرتكبها في حق المواطنين، و كذلك قوات النظام الأخرى كما في الأمن الشعبي و الدفاع الشعبي و “كتائب ظل علي عثمان” و غيرها. هل سيتم تكليف أي المقربين مديرا لجهاز الأمن خلفا لقوش عقب خبر (قوش-كوهين) الأخير و مناقشته مع (الموساد) سودان ما بعد البشير. و فوق كل ذلك، الواضح أن البشير لم يعي حجم و طبيعة الحراك الجماهيري المنتظم و الذي لا يسعى إلى إسقاط النظام و حسب و إنما يسعى لبناء دولة آمنة مستقرة يستحفها الشعب السوداني الكريم.
الحراك الجماهيري من جانبه ظل في حالة نضوج مستمرة و تحرك ثابت نحو أهدافه في إسقاط النظام و ليس النظام العام أو جهاز الأمن الذي أذل الشعب السوداني، و لهذا لن تحد قوانين و محاكم الطوارئ و إجراءاتها من خروج الجماهير الشعبية إلى الشارع من كل مدينة و بلدة و حي و قرية فج و زقاق. الوقفات الإحتجاجية في (25، 26، و 27 فبرائر) و موكبي (24 و 28 فبرائر) شيعت قوانين الطوارئ الرئاسية الأخيرة إلى مثواها الحتمي، و لم تقتصر هذه الوقفات على مناطق سيطرة الحكومة السودانية و حسب و إنما تعدتها لتشمل المناطق المحررة تحت حكم الحركة الشعبية – شمال في كل من جنوب كردفان و النيل الأزرق رغم البذات العسكرية التي إعتلت رؤوس الولايات و مظاهر مجلس البشير. و الواضح أن إنقلاب البشير الحالي لم يجد أذن صاغية وسط الجماهير، كما أنه لم يمثل أولوية بين أجندة قوى الحراك خارج نطاق السخرية، و أكثر من ذلك لم تعر قوى الحراك و الشباب الثائر لإنقلاب البشير أدنى إهتمام غير أنه وقود إضافي لدفع عجلة الحراك نحو الهدف الرئيسي و هو “تسقط بس” و ما دعوات موكب الثوب الأبيض غد و الأيام التالية و تظاهرات بروكسل العاصمة البلجيكية اليوم الثاني من مارس 2019م إلا تأكيدا لذلك، و خصوصا بعد لقاء “قوش-كوهين” الذي قضى على فزاعة المؤامرات الإسرائيلية التي يستخدمها النظام لتبرير بشاعاته و جرائمه و أسبابه في شن الحرب على المواطنين و قتلهم و تشريدهم و تعذيبهم و إحتجازهم غير القانوني.
أعتقد أن البشير و في إطار إحكام تنفيذ سيناريو الجيش كمخرج آمن، سيعمل على المزيد من توحيد و ضبط قوات النظام المختلفة لتكون تحت إمرته دون غيره، و ربما تجريد جهاز الأمن من بعض الصلاحيات و الآليات العسكرية و تحجيم دوره لضمان عدم وقوع أي صدامات محتملة من عناصر القوى المتصارعة داخل النظام. الشئ الآخر هو الرئيس البشير – و كما أسلفنا – ربما يقوم بحل قوات الدعم السريع من خلال دمجها في الجيش، و من ثم الإستمرار في سيناريو تسليم السلطة للجيش إن رغب البشير الإنسحاب أو بقي على قيد الحياة، أو التنصل من إلتزاماته بوقف اطلاق النار آحادي الجانب و إعلان الحرب و بالتالي كسب المزيد من الوقت حال بقاءه في السلطة.
تجمع المهنيين السودانيين من جانبه ربما يحتاج إلى المزيد من العمل بعيدا عن القوى التي تحاول إيجاد موطئ قدما في قيادة الحراك لتتمكن من التفاوض مع النظام للمواصلة في سيناريو الهبوط الناعم، كما يحتاج التجمع تطوير وسائل الحراك و دفعه لمراحل أكثر تقدما بينها العصيان المدني و رفض تنفيذ القوانين النظامية (الحكومية) و عدم الإمتثال لأي من أوامرها و الإمتناع عن دفع أي من المطالبات المالية الحكومية في كل الجوانب فضلا عن الإعتصامات أمام المؤسسات العامة و الخاصة من قبل العاملين و غيرهم في الميادين العامة، و مواصلة الضغط عبر الحراك الداخلي و الخارجي و فرض الحراك السوداني ضمن الأجندة الرئيسية للمؤسسات الإقليمية و الدولية و مؤسسات الإعلام العالمية، و ممارسة الضغط المحلي و الخارجي من خلال فضح فساد النظام بالوثائق و الدور المدمر الذي لعبته المؤسسة العسكرية في إقعاد السودان و إعاقته من أن يصبح دولة آمنة مستقرة، و بالتالي إنهاء دور المؤسسة العسكرية السياسي في السودان و إرجاعها لثكناتها كغيرها من المؤسسات العسكرية في دول العالم، و من ثم العمل على إنزال الأهداف الواردة في إعلان الحرية و التغيير على أرض الواقع في سودان المستقبل.