عثمان نواي
حتى لا تتحقق نبوءة ان يموت فى العشرين، قاتل جيل الالفينات بشجاعة فاقت عمره الغض لكى يعيش ويهدى للوطن حياة أخرى. فمن الأرقام الصادمة ان ما لا يقل عن ٢٨ شهيدا من شهداء الثورة كانوا من الأطفال دون ١٨ سنة. وهؤلاء الشهداء فى معظمهم لم يتم قتلهم فى منازلهم او ضربتهم رصاصات طائشة بل هم فى الحقيقة كانوا متظاهرين وحراس للترس وقادة الحراك فى مناطق عديدة. ونعلم ان معظم الشهداء وبنسبة تفوق ٨٠ فى المائة كانوا من الشباب دون العشرين فى ثورة ديسمبر. هذا الحراك الذى كان طليعته طلاب مدارس الثانويات والاساس فى الدمازين وليس طلاب الجامعات فقط كما جرت العادة يعطى كثير من الفضل فى هذه الثورة الى هذا الجيل الالفينى خاصة وان بعضهم فى السنوات الأولى فى الجامعات أيضا .
كما ان الناظر للمظاهرات والمواكب خاصة فى الأحياء يجد هذا الجيل شبابا وشابات يشكل وجود كبير، مع العلم ان السودان يشكل فيه الشباب بين ١٦ و٣٥ اكثر من ٤٠ فى المائة من السكان. لكن جيل الالفينات كان أكثر قدرة على التحدى وصنع النجاح الذى لم يستطيع إكماله جيل الثمانينات الذى حاول قيادة حراك موازى للربيع العربى فى ٢٠١١، او جيل التسعينات الذى حاول قيادة هبة سبتمبر ٢٠١٣ أيضا التى بدأت من طلاب الثانويات وقتها وقدموا تضحيات كبيرة. ما يميز جيل الالفينات انه رغم التحديات المتراكمة والازمات الكبيرة لكنه جيل كان فى مواجهة مباشرة مع الموت فى المستقبل العاجل، فعند بلوغ الثامنة عشر، او الوصول للجامعة او قرب التخرج منها لا توجد خيارات فى ظل اقتصاد متهالك ودولة فاسدة سوى خيارات الموت فى العشرين. فالمستقبل يحمل خيارات الموت اكثر من الحياة والقيام باصعب المجازفات فى سبيل الحصول على حياة كريمة. بداية من خيار الموت فى اليمن عبر التجنيد فى الدعم السريع، او التجنيد فى جهاز الأمن واحتمال الموت فى إحدى مناطق الصراعات او موت الضمير وهذا هو موت لا يقل سوءا عن الغياب عن الدنيا بالجسد. هذا إضافة الى انواع الموت الأخرى التى تشمل الموت فى الصحراء تنقيبا عن الذهب او تسمما بالسيانيد، او الموت فى قوارب الموت المتجهة الى أوروبا او الموت من الجوع وسوء التغذية بأمراض عديدة لا تنتهى مع انعدام الادوية خاصة فى الأطراف او معسكرات النزوح، اوالموت يئسا عبر المخدرات او الدخول فى ظلمات أدوات التغييب العقلى والتيه النفسي .
لذلك فى المواجهة الحتمية مع كل هذا الموت كان هذا الجيل اكثر اصرارا وصمودا وقدرة على الثبات والمواجهة مع خيارات الموت الأخرى وهى الموت كشهداء فى سبيل تحرير الوطن وتغيير الأحوال قبل العشرين. والمميز فى هذا الجيل الراندوكى قلبا وقالبا، انه يعرف كيف يختصر الطريق لمواجهة الأمور ببساطة و بشجاعة أيضا. فهو يصنع ويقلب مفاهيم المجتمع السوداني أيضا فى كثير من المسلمات الاجتماعية من علاقة النساء والرجال والعلاقة بالدين والفن وحرية التعبير وغيرها. فجيل مواقع التواصل الاجتماعي متعود على أن يعيش حياته فى العلن ومواجهة العالم بمشاعره وافكاره وشكل حياته وملابسه وشعره واغانيه وهذه أيضا مواجهة تتطلب الشجاعة ،نقيضة تماما لتقاليد المجتمع السودانى المحافظة تجاه حرية الرأى والتعبير خاصة عن المشاعر والأفكار والمظهر الشخصى، سواء كانت عامة او شخصية. لكن هذا الجيل لا يخشى هذه المصادمة مع المجتمع ولا يخشى ان يعيش فى الضوء وكل حياته مسجلة على التايم لاين وفى حالة انفتاح ومشاركة دائمة مع الآخرين حتى الذين لا يعرفهم بشكل مباشر.
هذه القدرة على الانفتاح والمباشرة والتشاركية العالية قد كسرت كثير من مفاهيم التأمين والغتغتة والدسديس التى كانت يتبعها الاجيال السابقة خاصة فى العمل السياسي. كما ان قدرات المواجهة والتشبيك والمشاركة المكتسبة من الحياة على السوشيال ميديا كسرت القيود وبنت جسور التواصل حتى بين مناطق وثقافات السودان المختلفة. حيث أصبح من الممكن لهذا الجيل القادر على قبول الاخر والقادر على مواجهة نفسه والمجتمع ان يصنع علاقات بشكل اسرع وأقوى جعلت الفعل الثورى العام ممكن التنظيم عبر صفحة فيسبوك واحدة. اذن الثورة المفاهيمية سبقت الثورة السياسية واسست لها.
وربما هذا الجيل لا يعرف كثيرا عن تاريخ السودان الحقيقي الذى لم يدرس فى المدارس، ذلك التاريخ الملئ بالجرائم والأخطاء والتمييز والفساد. ولذلك ربما لم يكن ولا يزال لا يملك الوعى السياسى التاريخى الكافى لكى يستطيع ان يتعرف على كل اعدائه وبعض أصدقائه. وربما يتم او تم استغلال هذا الجهل التاريخى المقصود الذى صنعته المناهج والنخب والنظام الحاكم، حيث ان بعض الجهات او القوى التى هى نفسها سبب فى مشاكل السودان حاولت ان تركب موجة التغيير على ظهر هذا الجيل. ولكن ما لا تعرفه النخب المزيفة انها لاتستطيع إخفاء الحقيقة كثيرا، وقد بدأت الأقنعة تتساقط تباعا وسيكتشف هذا الجيل سريعا كل ما تمت محاولة تجاوزه واخفاؤه. لكن ماهو مؤكد ان هذا الجيل قد استشعر وفهم تماما ان الفشل هو العنوان العريض لكل المشاريع السياسية والوطنية فى السودان منذ الاستقلال. هذا الفشل هو الذى عاشه جيل الالفينات من انفصال الجنوب فى باكورة وعيه ومجازر دارفور وحتى صفوف الخبز والبنزين.
اذن فإن أجيال صناعة الفشل اى كانوا هم فى مواجهة الان مع أجيال صناعة التغيير. وهذه المواجهة محسومة مسبقا، لكن فقط الثمن الذى سيدفع يعتمد على قدرة صناع الفشل على الاعتراف بفشلهم التاريخى وان ينزاحوا طوعا من طريق التغيير، والا فإن جيل الالفينات الذى قاتل لكى لايموت فى العشرين، وقاد دفة الوطن نحو ولادة جديدة بدلا عن هاوية الاستسلام التى كانت اجيال الفشل تقودنا إليها، هذا الجيل الجديد لن يسمح لهم بأن يقتلوا حلمه الذى انتزعه بكل شجاعة ولازال يقاتل لأجله. وهو يبنى قدراته وكفائاته فلم يعد مهما ان ينتظر الإنسان حتى يشيب راسه حتى يصبح خبيرا او حكيما، فلقد تغير العالم وهذا ما لأ يدركه أجيال صناع الفشل الذين لازالوا يتسبثون بالاستمرار فى قيادة البلاد للدرك الأسفل. التحية والتقدير لهذا الجيل الالفينى الذى لديه ما يفخر به مبكرا ولكن أمامه الطريق طويلا وسبيل الانتصار الوحيد هو مواصلة ركوب الراس حتى تحقيق النجاة له وللوطن الذي هم مستقبله.
[email protected]