العلاقات بين البلدان تحددها المصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة، ولا مكان للعاطفة الساذجة بين الروابط الجامعة بين الدول والحكومات، خاصة بعد تفشي وباء العولمة واجتماع اقطار الدنيا تحت سقف غرفة صغيرة، وما الدعاية السياسية المغطاة بثوب التبادل الثقافي المزعوم الا مجرد تمويه لتمرير الاجندة الاقتصادية والسياسية، وعلى ذات الدرب تسير الاغراض المرتجاة من التكرم بالمنح الدراسية والدورات التدريبية من الدول القوية الى البلدان المتواضعة، اضف لذلك الغزو الثقافي المبرمج لعقول الناشئة في البلد المراد تدجينه وترويضه للأنصياع للأوامر الناعمة الآتية من البلد صاحب اليد العليا، فلا يمكن أن ترفد قنوات بثك التلفزيوني بالمسلسل الدرامي السوري والمصري والتركي اليومي، ولا تعير اهتماماً للرسائل الموجهة والمدروسة بعناية لغسل ادمغة المراهقين وتكوين تهيئات ذهنية مستسلمة حاطّة من قدر ثقافتهم الوطنية، ورافعة من قيمة الموروث الدخيل والوافد على متن مركب المنتجات السينمائية الأخرى، اذا اخذنا الامريكان كمثال نجدهم قد رسموا تصوراً خرافياً على جدران عقول صبية العالم، يجسد رمزية بطلهم الاسطوري الذي لا يهزم (رامبو) منقذ الاسرى وحارق معسكرات العدو، فعلوا ذلك تدعيماً لمشروعات الدولة الكبرى العابرة للقارات والمتجاوزة للمحيطات.
الأنهزام النفسي الذي نراه رأي العيان في شخوص ممثلي حكوماتنا تجاه مصر لم يكن وليد اللحظة، لقد بدأ مبكراً مع الحاق بلادنا بميثاق جامعة الدول العربية وما تلا ذلك من تهورات اتخذها حكامنا بتخريب علاقاتنا مع الاسرة الدولية بلعب دور (الــــــــــعبد) الذي يموت فداءًا لسيده في الاقليم، ومؤتمر المخازي الثلاث كان المفتتح لدخول قادتنا نادي السادة من خلال شغل وظيفة الخادم والبواب المطيع، هذه الارهاصات لن تولد غير الخزلان والهزيمة النفسية المقيمة، فالمربي الممسك بعصاه المرفوعة وكتابه المقروء الذي يلقنه لتلاميذه، يعي جيداً حتمية ولاء هؤلاء الطلاب لمشروعه حينما يصيرون وزراء وحكام في بلادهم، هكذا فعل المستعمر الأوروبي الفرنسي بشعوب الغرب الافريقي، مما جعل مقدرات بلادهم الاقتصادية رهينة لدى خزائن بنوكه المركزية على الرغم من ان اصحاب الأرض هم المنتجون، فترى الانقياد الأعمى للسنغالي والقابوني للتوجيهات القادمة من مدينة الفن والجمال المتفيئة لظلال برج ايفيل، لقد جنى الفرنسيون اليوم ما زرعوه بالأمس في ادمغة الافارقة الاغرار مطلع القرن الماضي، انه نفس التحدي الذي يواجه السودانيين مع جارهم، لقد وجدوا انفسهم على حين غفلة منهم مستقبلين لموجهات هذا الجار كمطبوعات ومقررات دراسية للسلم التعليمي الذي وضعه (المصري) محي الدين صابر.
التراشقات الكلامية والكتابية عبر منصات التواصل الاجتماعي المتبادلة بين الناشطين السودانيين ورصفائهم المصريين، ابرزت ملمحاً واضحاً لحالة الاستلاب الثقافي الذي يعانيه شباب السودان، وذلك في ضعف الحجة التي يقاوم بها السودانيون السيل الجارف للتصورات المصرية عن السودان، واهم اسباب هذا الضعف هو أن الناشط السوداني يعتمد على الادوات والمحددات الثقافية التي تشربها من المُلقِّن المصري، الامر الذي يضع المثقف السوداني المنبهر بالقاهرة في موقف لا يحسد عليه، إذ أنه لا يعقل لمقاتل او محارب ان يستخدم ذات السلاح الذي صنعه عدوه الذي يعرف كيف ومتى يبطل مفعول هذا السلاح، مثلما حدث لدولة عربية تسلحت بمقاتلات امريكية فاحتج الصهاينة لدى الامريكان، لكن سرعان ما هدأ روعهم بعد علمهم بأن خزانات وقود المقاتلات يعوذها الحجم الكافي لملئها حتى تتمكن من الوصول الى مضارب تل ابيب، هذا هو حال الحكومات السودانية وشعوبها، تقاتل بسيوف من خشب رخو وهش مصنوع في حاضرة المعز لدين الله الفاطمي، بلادنا مخترقة امنياً منذ أن تربعت مؤسسة الري المصري على قلب العاصمة المركزية، ومن عجائب حكام السودان السابقين والحاضرين أن ملجأهم حين التقاعد او الطرد هو ضفاف رشيد ودمياط، رئيسنا الأسبق جعفر نميري قضى زمناً في ضيافة الجار الشمالي لأنه يعتقد جازماً أنه في وطنه وبين اشقائه، للأسف.
الاثارة المصاحبة لنقاش مآلات العلاقة مع مصر لا جدوى منها في حال تمتع الحكام والمحكومين بتحرر وانعتاق الذات، حينها يفعل السودانيون ما يريدون ولن تجدهم يكترثون لغضبة رمسيس ولا لجلبة النجاشي، لكن العقدة الاستلابية تحول دون تحقيق المصالح العليا للبلاد، واكتظاظ مؤسسات الدولة بالعملاء والمغفلين النافعين لبلاد الحبوبة هاجر يعرقل مسيرة الوطن نحو الانعتاق، اذا أراد الوطنيون الشرفاء رفعة هذه البلاد عليهم القيام بمهمة تنظيف جهاز الدولة من هذا المغفل النافع الساذج الذي لا يقيم وزناً لسؤدد وشرف بلاده، وأول هؤلاء رأس سنام الدبلوماسية، فالحلول ممكنة ومتاحة لكنها بحاجة الى وقفة رجل شجاع، كوزير المالية الذي اوصى ووجه بغلق الحدود مع الجارة الشقيقة منعاً لتهريب الثروات، وهذا حق مكفول لكل البلاد ذات السيادة المصانة والمحفوظة، فأن تكون لك هذه السيادة الكاملة على ارضك عليك التحلي بالشجاعة والمصادمة فداءًا للعزة والكرامة الوطنية، لا أن تكون مهزوماً ومهزوزاً تدعو الناس لاستعمار ارضك بتقديمك لطلب خائب خاسر تستجدي فيه السابلة لفعل ذلك ولا تراعي حقوق مواطنيك.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
12 مارس 2021