ألسودانيون يشغلون أنفسهم بالقشور دائماً ولا يلتفتون إلى جواهر الأمور، يوم أمس فاضت الأسافير بالكثير المثير حول ملبس وزيرة المال وقبل عقدين من الزمن انصرف الناس وانشغلوا بمصطلح (التوالي السياسي) الذي ابتدعه المرحوم الترابي، وهكذا نحن نستهلك الطاقات في الأحاديث الممجوجة والمواضيع الإنصرافية التي لا تخدم المنفعة العامة ولا تدفع بعجلة التنمية شبراً واحداً للأمام، في علم الاقتصاد السلوكي نجد التفسير المقنع لحالتنا السودانية هذه، و نعرف لماذا أتخذت حكوماتنا القرارات المضادة لمصالح البلاد العليا، ونفهم كيف أن اتجاهات الفرد النفسية والسلوكية تؤثر سلباً وإيجاباً على مخرجات الانتاج والعمل، و تؤدي إلى نتائج تراكمية تحدد المحصلة الكلية لسلوك المواطنين حيال الأنشطة المضاعفة لقيمة الناتج القومي الاجمالي، فالصين الشعبية لم تنهض إلا بنهضة الفرد العادي ولم تبني هذه الامبراطورية العظيمة إلا بتفاني مواطنيها على مستوياتهم الفردية، وجديتهم ومثابرتهم المضنية في سبيل رفع كفائتهم الانتاجية، سواء كان هذا الفرد مزارعاً أو صانعاً أو تاجراً، ونفس الحال ينطبق على اليابان وكوريا الجنوبية وجميع البلاد التي اعتصر مواطنوها خلاصة طاقاتهم البدنية والذهنية بميادين المصانع والمزارع والمتاجر والمعامل.
ألتطبيع الذي ابتدرته مصر مع اسرائيل في عهد رئيسها الراحل أنور السادات، استمر قطاره ولم يتوقف وشمل بلدان عربية أخرى لم تكن بأي حال من الأحوال أقل شأن من مصر جمال عبد الناصر، وحتى اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة اسرائيل يمثل في حد ذاته منتهى التطبيع بين عدوين لدودين يعلمهما القريب والبعيد، وفي كل الظروف إن العلاقات بين الحكومات رهينة لضرورات العيش المشترك والفائدة المرجوة من التبادل التجاري، ولا يحق لدولة ما أن تكون وصية على أخرى لتحدد لها جدوى تعاملاتها الخارجية وكيفية تحقيق مصالحها الأقتصادية، فالتمسك بالمشروعين العروبي والعقائدي من قبل الطبقة السياسية في البلدان العربية والاسلامية في تعاطيها مع إسرائيل والتي من بينها السودان، ما عاد لهذين المشروعين مقبولية لدى هذه الشعوب المنادية بتوفير خدمات الصحة والكهرباء والتعليم، فالعصبية الدينية لا تمنح المتشنج خبزاً أو دواء كذا والحمية العنصرية والعرقية، فالسودان وباعتبارات عمقه الإفريقي عليه أن لا يكون ملكياً أكثر من الملك، وأن لا يرهن مستقبله الاقتصادي ومصيره السياسي لشعارات بائدة مثل (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) و(خيبر خيبر يا ياهود).
ألسودان قضى سنوات طويلة في غيابة جب الإستلاب العرقي والثقافي واضطرابات الهوس الديني، وآن الأوان لأن يخرج من مهزلة مشاريع الصرف الصحي الفكرية المستوردة، كما ظل يصنفها زميلي عادل أمين، وهي البعثية الأممية السورية – العراقية والماركسية اللينينية السوفيتية والإخوانية المصرية، هذه الأيدلوجيات الوافدة سلبت السودان هويته وسحبت منه مرجعيته الحضارية وأضاعت ثرواته الطبيعية من ذهب وبترول إرضاءًا لخاطر صفوة بلاد الرافدين واستسلاماً لنخب أم الدنيا حاضنة رشيد ودمياط، فمن يريد أن يتغول على ثروتك يستتبعك له ويخضعك لمحدداته الحضارية، في الخرطوم يربى النشأ على المشاهد الثقافية والنفسية للقاهرة عبر المسلسل التلفزيوني المسائي اليومي، وعندما يصبح هذا الناشيء حاكماً لبلاده لا يرى غير قاهرة المعز قاهراً له ومثلاً أعلى يقتفي أثره، فيهبها اللحوم السودانية الطازجة لتعرضها في فترينات اسواق المنطقة مطبوع عليها ديباجتها، فمن يستلب وجدانك المعرفي والنفسي يسيطر على عقلك الواعي والباطن ويسهل عليه امتلاك مقدراتك الاقتصادية، ويتمكن من إحكام قبضته على مراكز انتاج سعادتك الروحية وسلعتك الاستراتيجية، لذا ننادي بالخروج من هذه الغيبوبة الاستلابية والنظر إلى العلاقة مع اسرائيل من زاوية واحدة لا ثاني لها، هي المنفعة الاقتصادية المباشرة دون وسيط ولا وكيل أو سمسار.
ألوعي الكامل بأحوال الأزمات المالية التي ضربت أسواق العالم يفرض على حكوماتنا إعادة تموضعها على الخارطة الجيوسياسية، والتخلص من الإرث الثقيل لمآلات مؤتمر اللاءات الثلاث وكل الأحمال الكبيرة التي حمّل بها الشعب المسكين والتي ليس له فيها ناقة ولا جمل، مع وجوب التماهي مع اقتصاد السوق الذي لا يكترث لمعتقدات الناس الدينية ولا لأعتزازاتهم الجاهلية بهوياتهم العرقية المتوهمة، هذا الاقتصاد المولود من رحم المدرسة الرأسمالية الجشعة التي لا ترحم الصغير وانما تعزز وجود من يملك رأس المال الكبير، لكل ذلك على اقتصاديي بلادي أن يضعوا لبنة الأساس للاقتصاد (البراغماتي) الذي أطلق عليه الدكتور حمدوك هذا الوصف عندما جاء للسودان متقلداً حقيبة رئاسة الوزراء، ففي الحالة السودانية لابد من وجود عقل اقتصادي مبدع ومبتكر وليس عقلية (قشرية) سطحية زائفة تهتم بتمازج الألوان وتهمل توالد الأموال وتكاثرها، عقل لوزير المال والأقتصاد يقدم الأطروحات الجديدة المنقذة للانهيار المالي المزلزل وليس تلك العقلية المنجرفة خلف (القشور) وموضة عروض الأزياء الباريسية، فالبلاد تمر بمجاعة وشح في الضروريات الممسكة لأبجديات أسباب الحياة.
ألدولة الإسرائيلية لها باع طويل في تصنيع الآليات الزراعية، و بما أن السودان يمثل سلة للغذاء العالمي ورئيس وزراء حكومته خبير في الاقتصاد الزراعي، فليتم تطبيع العلاقة مع هذه الدولة المصنعة لمعدات المشاريع الزراعية اليوم قبل الغد، وعلى الرافضين من تجار الدين أن يعودوا إلى الوراء ليتفحصوا علائق التجارة وروابط الأقتصاد بين اليهود ورسول الرحمة، أما الممانعين من اليسار العروبي عليهم أن يعلموا بأن الجدار العازل بين اسرائيل وقطاع غزة دارت شبهات حول مشاركة شركات تابعة لبعض رموز السلطة الفلسطينية في تشييده، لذلك نعيد ونكرر ونقول لا تكونوا ملكيين أكثر من الملك.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
2 اكتوبر 2020