شاهدنا معركة حامية الوطيس بين كوادر الجبهة الديمقراطية (الشيوعيون) وانصار حركة العدل والمساواة (الكيزان)، كانت ساحتها ميدان جامعة بحري (جوبا سابقاً)، اعادت للأذهان العنف التقليدي لهذين التنظيمين الشبيهين، ومع تدشين فترة الانتقال الداعمة لشعار الحرية والسلام والعدالة يدشن الغريمان ساحات الحوار والفكر وتبادل الرأي بالافلاس الفكري كعادتيهما، ما حدا بالفريقين لان يرفعا الكراسي على اسنة الرماح في مواجهة بعضهما بعضا لتبدأ غزوة بني قينقاع، هكذا عوّدانا الحزبان الكارثيان بالسودان منذ أول يوم وطأت فيه اقدامنا مدارج الجامعات، تنظيمان خائضان ووالغان في الدماء دون وازع ضمير انساني ولا تحذير ربّاني، عرفهما كل من تدرج في سلم التعليم العالي داخل وخارج البلاد، ارتكبا اكبر جريمتين عبر الحقبة الحديثة باستغلال المؤسسة العسكرية للوصول للسلطة، ناحران بذلك حيادية هذه المؤسسة الوطنية وزارعان فيها الكادر السياسي المنتمي والمتحزب، ما جعلها مؤسسة معطوبة لم تستطع حماية الدستور من الانتهاك ثلاث مرات، بحسب معرفتنا بهذين الكادرين الغادرين انهما لا يتخذان من حرية التعبير ديدناً كما تزعم اجنداتهما.
المشهد المروّع الذي نقلته كاميرا بعض الطلاب الناشطين بالجامعة، ينذر بخطر ماحق هو استمرار حلول ثقافة العنف محل ثقافة الحوار، وربما اراد الله لقطاع الطلاب الجامعيين أن يشهدوا هذا السلوك المنحرف جيل بعد جيل، فالعنف قبل ان يبدأ بالضرب بارجل الكراسي هو فكرة مجنونة مخمّرة في العقول، والبذرة السيئة التي وفدت للسودان عبر هذين الحزبين العقائديين شبيهة بالفاكهة المنزوعة من شجرة الخلد المزعومة، التي انزلت آدم وحواء الى جحيم ارض الخطيئة، فمنذ أن اتى المبشرون بمباديء الفكرتين العابرتين للقارات حل باقوام السودان السلوك المشين ديناً وادباً واخلاقاً، وسوف يظلان سبباً مقيماً لزرع ارض التسامح بالكره والبغض وعدم تقبل الآخر، وسيدعمان كل السبل المؤدية الى تخلف الأمة السودانية بالابقاء على مقومات التخلف والتقهقر والتراجع القيمي، ولن تخلو سوح الجامعات السودانية من بذل الدماء بدلاً عن تدافع الآراء ما دامتا هاتان الملتان تغذيان عقول الطلاب بالكراهية، فديدن ودليل التنظيمات العقائدية هو الاصرار على توطين الموجهات المكرّسة لافراد العضلات في منابر الفكر والسياسة ومحراب الدين.
حركة العدل والمساواة هي الخاسر الأكبر في هذه المعركة القينقاعية، لأنها حركة حملت السلاح من أجل جلب السلام وتغليب صوت العقل على قعقعة المدافع، وهي الآتية لتوها من ميدان القتال الى ديوان الحكم والسلطان، هذا السلوك البربري لمنسوبيها من الطلاب المطلوب منهم تقديم انموذج مختلف عن ذلك التاريخ الاسود لحزبهم الأب بزعامة الراحل الترابي، يكونون قد وضعوا اولى ترسانات الصدود والسدود المانعة للآخر الطالبي من الانضواء تحت لواء حركتهم الثورية الناشدة للعدل والمساواة واحقاق الحق، فبهذا الاتجاه الاصولي المتطرف ستزداد عزلتها وسط اكبر شريحة مستنيرة، فثقافة الغاب لا تتناسب مع المرحلة التي يبشرون فيها الناس بالسلام ورفع الرايات البيض، لا سيما وأن المجتمع قد لفظ التجربة الاسلاموية التي ينطلقون منها برمتها، والتي اصبح الانتماء لها مذمة ومنقصة لكل راغب في الدخول الى ساحات العمل العام، اذ ما تزال الاصوات عالية تندد بتولي بقايا النظام البائد الحقائب والمكاسب السيادية والسياسية، فعلى الطلاب الناشطين من اتباع الحركة الاسلاموية أن يعلموا بأن المستقبل ليس للتطرف والتشدد والاصولية.
الجبهة الديمقراطية التي ينشط تحت ظل جناجها كادر الحزب الشيوعي، عليها أن تقود حواراً سياسياً واعياً وناضجاً مع القوى السياسية، باعتبار أن المنظرين والمستشارين بقمة الجهاز التنفيذي الانتقالي يتبعون لهذا الحزب العجوز، وأن يخرجوا من العباءة القديمة الملوثة بالدماء والدموع التي خلّفت العديد من اليتامى والثكالى والارامل، فماذنب خالد بابكر النور سوار الدهب أن يعيش حياة اليتم المبكر الذي أثّر في تكوينه الوجداني فترك في عمقه جرحاً عظيماً لن يندمل؟، على الحزب العجوز أن يغادر محطة الغبن التاريخي والحنق الثأري القديم وان ينتقل لمرحلة جديدة عمادها التسامح وتقبل الآراء المختلفة، لا أن يحرّض كادره الطلابي على الاحتفاظ بالسكين تحت غطاء منطال الجينز طوال الوقت، لقد شبعت الشعوب السودانية من مآسي معارك البسوس القديمة المتجددة، وما عادت لحمة الوطن تحتمل المزيد من الطعن واللعن وكسر الجبيرة، التي كلما استبشر الناس بقرب شفاءها وطأها عسكري مسكون بحمى احدى هاتين الايدلوجيتين ونكأ الجرح القديم لينهال الصديد من جديد.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
28 اغسطس 2021