أحمد يعقوب
بعد الاستقلال، اصطدمت النخب السياسية بالمهام التأسيسية لبناء دولة السودان الوطنية المستقلة. وكان واضحا أن تلك المهام معقدة وصعبة جدا، بالنظر إلى الدرجة العالية من التنوع والتعدد التي تتميز بها البلاد في الأعراق والإثنيات والقوميات والديانات والثقافات واللغات والحضارات والتقاليد، ومستويات التطور الإجتماعي. وللأسف، فشلت كل النخب السياسية المدنية والعسكرية التي حكمت البلاد،حتى اللحظة في إنجاز تلك المهام ومنها بالطبع توحيد الضمير والوجدان المنقسم على نفسه. لذا، نقول أن الأزمة السودانية مزمنة، تمتد جذورها إلى فجر الاستقلال، دون أن يعمينا ذللك عن الدور الكبير الذي لعبه نظام الانقاذ في تفاقمها. فالحزب الحاكم لم يكتف باحتكاره للسياسة وبسيطرته على كل مفاصل أجهزة الدولة، وإنما أدغم نفسه في الدولة ذاتها، موصلا الأزمة، إلى مداها الأقصى، ممزقا ومفتتا البلاد، وقاذفا بها إلى مرحلة «دولة اللادولة». مظاهر الأزمة، والتي أصابت أيضا الاقتصاد والمجتمع والقيم وحياة الناس الروحية، واضحة كشمس نهار صيف السودان، ويعايشها الجميع يوميا، وقُتلت وصفا وتشخيصا. لكن، يمكننا القول بأنها، تتجسد في أربع حلقات رئيسية تلخص مسيرة تاريخ السودان الحديث: الديمقراطية والسلام والتنمية ووحدة الوطن. وهي حلقات متشابكة ومتداخلة ومترابطة، ولا يمكن حل أي منها بمعزل عن فض الأخريات. ومنذ فجر الاستقلال، كان واضحا أن التصدي لتلك المهام التأسيسية، أي فض الحلقات الاربع، لا يمكن أن ينجزها حزب واحد أو ائتلاف أغلبية أو نظام عسكري يدعي الصرامة والجدية وسرعة الحسم دون ان يكون هناك برنامج وطني يلتف حوله اهل السودان ويرتضون به وما نره الان من التفاف كل قوى المعارضة حول تجمع المهنيين السودانيين نعتبره البداية الاولى لتصميم برنامج وطني تشارك فيه كل فئات الشعب مما يمكننا من الوصول الى اتفاق حول كيف يحكم هذا الوطن بكل اعراقه واثنياته وثقافاته دون اي اقصاء او نفي او استبعاد .
ان الحراك الجماهيري الذي تشهده بلادنا هذه الايام سوف يحدث تغييراً جذرياً كاملا في تاريخ الحياة السياسية السودانية وسوف يشهد صعود قوى الهامش التي اُبعدت عن ممارسة اي دور سياسي في السودان منذ ما يسمى بالاستقلال هذه القوى التي عانت لفترات طويلة من كل الذين تعاقبوا على سدة الحكم في السودان ، كانوا وقوداً في كل الحروب التي خاضتها الدولة السودانية ضد نفسها وباعتبارهم اداة وميكانيزماً للصراع وهذا لايعني استبعاد الاخرين ولكن من اجل اللُّحمة الوطنية حان الوقت لكي تلعب اقاليم الهامش دورها الطبيعي والتاريخي في شئون البلاد بعد ان مورست تجاهها شتى انواع الاضطهاد من الابادة والتشريد وسياسات الارض المحروقة وكان التمييز ضدها على اساس اللون والدين والعرق.
ان فكرة توحيد الوجدان الجمعي للشعوب السودانية كانت ولا تزال احد اعمدة مشروع السودان الجديد الذي يدعو الى احترام التنوع بشقيه ( التاريخي والمعاصر) مما دعا القائد د. جون قرنق الى صياغة مفهوم ( الهوية السودانوية) لمحاربة الغلو المفاهيمي والفكري والقائم على ما اسميه (عرقنة واثننة )الهوية وهي بالطبع سوف تكون اقصائية واحادية مثلما يظهر في الخطاب السياسي للنخب الحاكمة التي بدأها اسماعيل الازهري ابان استقلال السودان بوصفه للدولة الخارجة لتوها من ظلام ٍ استعماري طويل على انها دولة عربية اسلامية،الان نرى الشعب السوداني كله وهو يلتف حول الثورة مردداً شعاراتها وموّحِداً رؤيته تجاه حكم الانقاذ الذي ادخل البلاد في كارثة – انها اللحظة التاريخية التي يمكننا فيها توحيد الشعوب السودانية على اسس جديدة متمثلة في توحيد وجدانها وضميرها وكذلك وحدة القضايا المصيرية المتعلقة ببناء الوطن وكذا مناقشة جذور الازمة السودانية التي افضت بالبلاد الى ان تدخل في حروب اهلية طويلة الامد انتهى جزءاً منها بانفصال جنوب السودان العزيز.
ثورة ديسمبر العظيمة سوف تاتي بالعديد من التغييرات على كافة الاصعدة ومنها بالطبع وحدة الضمير والاتفاق حول قضايا البلاد المصيرية وايقاف الحرب ومن المهم جداً اصلاح ( قفة الملاح) وسوف تكون هناك تغييرات جزرية على مفاهيم عديدة مثل قضايا المواطنة والعدالة والمساواة والحريات، هذه الثورة منتصرة ونرى الان ملامح السودان الجديد الذي بدأ يتشكل– سودان ما بعد الكيزان.
نواصل
# تسقط – بس