بقلم عثمان نواى
الثورة السودانية الى حد كبير هى مولود شرعى ليس فقط للوعى السياسى ،ولكن لما يمكن تسميته بالوعي الكونى المرتبط بانفتاح أجيال الشباب على العالم عبر تكنولوجيا الاتصالات والفنون والرياضة العابرة للحدود. فمنذ بداية انتشار نوادى المشاهدة قبل اكثر من ١٩ عام فى مناطق السودان النائية والاحياء الفقيرة وحتى دخول التلفونات الذكية قبل عدة سنوات، فإن الشباب السودانى يتعرض لثقافة بصرية، سمعية متنوعة لا محدودة فرضت عليه وضع نفسه فى مقارنة مع العالم فى كل المجالات . كما ان اتساع نطاق الهجرة خارج الوطن كان له دور أيضا فى صناعة جسور جديدة بين الشباب السودانى فى المهجر والاغتراب وبين الوطن الام.
هذه المعطيات كلها ادت الى صناعة تناقض كبير بين واقع السودان مجتمعيا وسياسيا وبين طموحات وتطلعات الشباب، ناهيك عن رغبتهم فى ان يكون لهم وجود ذاتى وبصمة فى هذا العالم المفتوح المتحرك. لذلك كانت ثورة ديسمبر هى ثورة تحطيم القيود من أجل الانطلاق نحو المستقبل. حيث لم تعد شروط الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى يفرضها السودان بشكله القديم قابلة للاستمرار لتحكم حياة الاجيال التى لا تعرف الحدود. واول المتمردين على النظام بالطبع كانت المجموعات الأكثر اضطهادا فى المجتمع والتى تعيش على الحافة. خاصة النازحين، النساء ،المتاثرين بالحروب ، الشباب فى كل فئات المجتمع. ولم يكن غريبا ان يكون أبناء الطبقات العليا والحزب الحاكم فى قلب دعوات التغيير، اذ انهم الأكثر قربا وقدرة على الاتصال بالعالم، لذلك هم الأكثر تأثرا به وأيضا كانوا الأكثر ضيقا من قيود السياسة والمجتمع والدين التى قيدت فرصهم فى الإبداع والانطلاق.
والحقيقة ان هذا التحالف العريض بين أصحاب المصلحة فى الثورة والتغيير فى السودان مبنى على المستقبل اكثر من الماضي. وكل الذين يراهنون على التعامل مع واقع السودان برؤية ماضوية سيجدون أنفسهم أمام واقع يلفظهم بشكل مستمر. فنجد ان علامات انتصار الثورة الكبرى ليست بالضرورة موجودة فى القصر والحكومة او حتى فى التلفزيون القومى. لكن هناك انتصارات حقيقية فى عملية كسر القيود التى هى المحرك الرءيس للثورة. حتى الأزمة الاقتصادية، فمن اهم مسبباتها ليس فقط الفساد وسوء الإدارة للموارد المادية ولكن سوء إدارة الموارد البشرية أيضا. غلق أبواب الإبداع والانطلاق امام الرؤى الجديدة والمختلفة ، كان سبب فى إهدار فرص كثيرة للإنتاج الاقتصادى والفنى والثقافي التى كان بإمكانها تغيير خارطة الاقتصاد ككل.
من انتصار فيلم ستموت فى العشرين للشاب أمجد ابو العلا المولود فى دبى وفوز فيلمه فى مهرجان فينيسيا وانتصاره المرتقب فى مهرجان تورنتو، الى انتصار غناء الزنق على الإقصاء طوال سنوات عبر اكبر حفل جماهيرى يشهده المسرح القومى منذ عشرات السنين احيته هبة جبرة وغيرها من المغنيات ، الى تقدم فريق الكرة النسائي السودانى نحو شرعنة وجوده، الى الانتصارات الرياضية فى الأيام الماضية، إضافة الى عشرات الكليبات والاغنيات والإنتاج الفنى والبصرى الموثق للثورة من جداريات الشوارع وحتى حملات إصلاح المستشفيات والمدارس وغيرها كل هذه اللبنات فى بنية الساحة الاجتماعية والثقافية والفنية، هى التى تصنع تحولات ثورية فى عمق المجتمع وروحه وعقله ووعيه. وهى التحولات التى صنعت ثورة ديسمبر، وهى كذلك هى التى سوف تواصل توطيد جذور التغيير مجتمعيا وثقافيا حتى تصل الى قلب السياسة حتى تعمل فى اتجاه تغييرات المجتمع والشباب ولن يكون الشباب وابداعهم فى خدمة الساسة كما يحلم معظم السياسيين. ولذلك لن يستطيع الساسة مهما استخدموا من آلات للقمع من تخطى التحولات العميقة التى تجرى فى المجتمع السودانى على مستوى الشباب الذين هم قوة دفع الثورة .
ان عملية اقتلاع الكيزان لم تتم بشكل سياسي ولكن تمت بشكل ثقافى اجتماعى من داخل وعى المجتمع السودانى ،حيث أصبح تجار الدين اخر من يمكنهم الوصول لاى نوع من السلطة فى المستقبل. لذلك فإن توجه السودان الجديد نحو صناعة الدولة المدنية تتخطى مجرد مسألة الفصل بين العسكر والمدنيين او بين الدين والدولة حتى على مستوى أوسع ، انها تحديد علاقة جديدة بين السلطة والشعب. علاقة لا يمكن فيها بيع الاوهام سواء كانت دينية او عرقية او ثقافية من أجل السيطرة على وعى الشعب وشراء صمته او تأييده ، فمن يستطيع كسر القيود والحدود ويقدم قاعدة انطلاق صلبة وحرة لهذه الاجيال الشابة المتطلعة للعالم والمستقبل هو فقط من سيبقى.. والبقية تنتظرهم مزابل التاريخ.. التى يبدو انها ستمتلئ عن آخرها مقبل الايام. لذلك فإن الرهان على الخروج من أزمات الواقع الذى صنعه الساسة الان لا يقع فى يد الساسة لاننا لا يمكن ان نبحث عن الحل عند من صنع المشكلة، ولكن يكمن الحل فى مواصلة الشباب السودانى فى كسر كل القيود وانتزاع مساحات الإبداع والعمل الحر فى كل مستويات العمل السياسي والاجتماعى والاقتصادى والثقافي ،تلك المساحات التى استحقها الشباب الذى قدم أرواحه رخيصة فى سبيل حياة افضل. ويجب اتساع دوائر المشاركة عبر الوصول لكل المكونات السودانية، خاصة أولئك الذين تعرضوا للاقصاء والاضطهاد بسبب الحروب او الفقر او النوع او الإعاقة واطلاق كل تلك الطاقات حتى يعلو صوت أصحاب المصلحة فى التغيير على كل سقوف وقيود السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والعسكرية . حينها لن يجد الساسة أمام طوفان التغيرات من أعماق المجتمع بُداً سوى الاذعان لخيارات الشعب السوداني الذى يريد حريته كاملة في ان يكون ما يريد هو، لا ما يريده له الساسة كل منهم يلعب لمصلحته التى لا علاقة لها بمصالح الشعب السوداني، ومن هنا سيخسر الساسة وتنتصر روح الشباب الثائر المبدع المستعد لتقديم التضحيات الحقيقية وليس النضال المزيف كما يفعل الساسة .
[email protected]