عقب أكثر من عامين على اللف والدوران بأكثر من مُسمَّى وشكل، أنهى المُتأسلمون مسرحيتهم المُسمَّاة (حوار الوثبة)، دون جديد أو حتَّى مُجرَّد مُؤشِّر للإصلاح أو الخلاص، ينعكس إيجاباً على البلد وأهلها، وهم في الواقع لم يُخيِّبوا توقُّعاتي – كغيري – في أنَّهم يسعون فقط لإلهائنا، ريثما يُكملوا ما أُمروا به من مُخطَّطَاتٍ لتدمير السُّودان وأهله وفقاً لمُمارساتهم الماثلة، التي أثبتت أنَّهم عبارة عن (أداة) يستخدمها الآخرون!
لم أندهش إطلاقاً مما جرى، حيث عرفناهم مُتلاعبين وكاذبين، وإنَّما دهشتي كانت مِمَّن توقَّعوا منهم خيراً، كبعض الذين فرحوا بتصعيد البشير لنائبه واحتفوا بذاك الصعود، وتناسُوا أنَّه ذراعه الأيمن وساعده الرئيسي في كل جرائمه القديمة والجديدة. كما أدهشتني الفرحة، بعودة أسوأ المُتأسلمين من مَنْفَاه الاختياري، بعد (17 عاماً)، قضاها هارباً من قضايا فسادٍ يندي لها الجَبين! ولم يتساءل الغافلون عن الظهور المُفاجئ لذاك الـ(هارب)، والذي تَزامَنَ مع هَلَاكْ (الترابي) عَرَّاب الفساد والإفساد، بما يُؤكِّد أنَّ وجوده بالخارج انتهى بـ(هَلَاك) العَرَّاب، وعليه الحضور لاستكمال مسيرة التدمير (داخلياً وخارجياً)! وعموماً، فإنَّ هذه الجُزئية ليست موضوع مقالي الحالي، الذي سأحاول فيه تثبيت/تأكيد بعض الحقائق التي لا تقبل أي شك، و(توثيقها) للتاريخ، في ظل التغبيش الذهني/غياب الوعي الماثل!
أولى الحقائق (المُؤكَّدة)، أنَّ أساس أزماتنا تتركَّز في البشير شخصياً، الذي اختاره العَرَّابُ الهَالِك بحرصٍ شديد ولم يكن صُدفة كما حاولوا إقناعنا، فالبشير يفتقد الأخلاق والقيم كالصدق والعِزَّةِ والكرامة، ويغلُب عليه الانكسار والاستجابة العالية للابتزاز، كما يتَّسم بالجُبنِ والأنانية وبيع ذاته بأبخس الأثمان، وهو السبب الرئيسي لحالة الهَوَان والفوضى التي نحياها الآن داخلياً وخارجياً. فعلى الصعيد الخارجي، صَمَتَ البشير على الاحتلالين الإثيوبي والمصري المُتزايدين، ووافق على قيام سد النهضة، واستجاب لابتزاز مصر وإثيوبيا وجعلنا عُرضةً لأطماعهما المُتزايدة، وذلك عقب مُحاولة اغتيال حُسني مُبارك بأديس أبابا عام 1995، بخلاف الأموال والأراضي التي قَدَّمها البشير، لكسب الدعم في المحافل الدولية والإقليمية! كما استغلَّ الخارج شَرَهه/طَمَعْه للمال، واستعداده لبيع من أَرْضَعَتْه، وهو ما حدث فعلاً حينما باع مُقاتليه (بالرأس) كما تُباع الأغنام والرَّقيق/العبيد، وزَجَّ بهم في حرب اليمن تارةً بحجَّة استعادة الشرعية، وأُخرى دفاعاً عن الحرمين! وعلى الصعيد الداخلي، ظَلَّ البشير الأداة التي يستغلَّها المقاطيع وسَقَطَ المَتَاع، لإشباع رغباتهم وأطماعهم المالية والسُلطوية، وهي حقيقة يُمكن إدراكها بالنظر لمُعاونيه والمُحيطين به!
الحقيقة الثانية (المُؤكَّدة)، أنَّ المُتأسلمين أكبر عدو للسُّودان وأهله، وأنَّهم عصابةٌ واحدة رغم مسرحيتهم المُسمَّاة (مُفاصلة)، والتي استهدفت إطالة بقائهم وانتقالهم للمراحل التالية من مُخطَّطاتهم التدميرية! ومن السذاجةِ بمكان، تصديق انقسامهم وتدثُّرهم بأسماءٍ تُوحي بالأخلاق/القيم، كالشعبي والإصلاح أو السلام وغيرها، فقد ساهموا جميعاً – برعاية عَرَّابهم المقبور – في الفَتْكِ بنا، بل إنَّ أسوأ الجرائم الإسلاموية كانت إبان سيطرة ذلك العَرَّابُ، كالقتل والتجويع/التشريد والاعتقال والتعذيب، وزَرْعِ/ترسيخ أُسُسِ الجَهَويَّة وإشعال العُنصُريَّة! أمَّا تَحَوُّلَ العَرَّابِ الهالك وادِّعائه المُعارضة، فقد جاء لمصلحة عصابته وتعضيد حكمها، وتشتيت جهود اجتثاثها واقتلاعها التي بدأت تنمو وتتصاعد آنذاك في أكثر من صعيد.
الحقيقة الثالثة (المُؤكَّدة)، هي فَشَل الموصوفين بـ(زُعماء/قَادَة) كياناتنا السُّودانية المدنية والمُسلَّحة، في إنقاذنا من الإجرام الإسلاموي حتَّى الآن، بل إنَّ بعضهم ساهم في تقوية وبقاء المُتأسلمين، على نحو مُمارسات الحزب الاتحادي و(ميرغنيه)، الذي لم يَتَوَانَ عن بيع ذاته ومن معه مُقابل المال، وجُزء من المناصب (الهايفة) لأبنائه، وبعض أصفيائه من لاعقي الأحذية وآكلي الفتات، دون اعتبارٍ لهيبة/سيادة البلاد وسلامة أهلها التي استباحها المُتأسلمون، أو حتَّى احترام جُلباب الدين الذي يرتديه، ومُـتطلَّباته المُتقاطعة مع انبطاحاته المُتتالية للعصابة الإسلاموية! وكذلك الحال لنظيره رئيس حزب الأُمَّة الذي يتقافز هنا وهناك، ويعمل بكل ما أُوتي من قُوَّة لتشتيت أي جهد/توجُّه حقيقي لإزالة المُتأسلمين، ويكفي مقولته المُوثَّقة بأنَّ (البشير جِلْدُه ولن يَجُرْ فيه الشُّوك)! وهناك المُتقافزين بين إدِّعاء النضال والانبطاح، ويعملون كـ(أدواتٍ) لنفس الجهات الدَّاعمة للمُتأسلمين، ومن بين كياناتنا المُتناحرون في ما بينهم، لأجل مصالحهم الذاتية وأطماعهم الشخصية، ومنهم ذوي التصريحات النارية والبيانات الورقية دون أثرٍ/نتيجةٍ ملموسة! واللافت في أمر كياناتنا، أنَّهم جميعاً لا يملكون رُؤىً تطبيقية ناضجة/رصينة لإنقاذ البلاد وأهلها، مما ينفي الحاجة للتعويل عليهم أو انتظارهم، وشاهدي في ذلك هو بقاء الكيزان واستمرار إجرامهم! فمُمارسات كياناتنا السُّودانية ومُنازعاتها الداخلية/الهيكلية، البعيدة عن قيم ومضامين الديمقراطية، قَادَت لتمزُّق غالبيتها وتلاشي بعضها الآخر، وساهمت ببقاء البشير وعصابته لما يُقارب الثُلث قرنٍ مضى!
الحقيقة الرَّابعة المُؤكَّدة، هي فشل النُخَبْ المُتعلِّمة، وعدم استفادة السُّودان وأهله من علومهم وخبراتهم، وعجزهم عن تنمية وتطوير البلاد سابقاً، أو صناعة/قيادة التغيير الذي نحتاجه الآن بشدَّة. وبصفةٍ خاصة، فشلت نُخْبَتُنا في تهيئة/رعاية قيادات شبابية واعية وقادرة على إنقاذ السُّودان من براثن المُتأسلمين، وإدارته بعد التغيير والخروج من حالة التَوَهَان الماثلة. فغالبية نُخَبِنَا المُتعلِّمة (أسرى) للموصوفين بالقَادَة/الرموز، ويتبعونهم بلا وعيٍ أو نقاش، ويُقاتلون دفاعاً عنهم وعن أسرَهِم أكثر من البلاد المُهدَّدة بالتلاشي، رغم فشل أولئك (الرموز) ومُتاَجَرَتهم بكل شيئ، وتركيزهم فقط على السُلطة والثروة و(توريثها) لأنجالهم! وبعضُ هذه النُخب، نَأَى بذاته وآثَرَ الهُرُوب بعيداً عن السُّودان، ومنهم من شَارَكَ المُتأسلمين الإجرام وصَعَدَ على جماجم البُسطاء وحُطَام بلاده، وقليلون منهم يُمسِكُونَ بجَمْرِ القضيةِ لكنهم بحاجة لجهود البقية. والمُدهش في الأمر، أنَّ النُخَبْ السُّودانية لم يُفكِّروا أن يكونوا هم البُدَلاء، رغم اتفاقهم جميعاً على الفشل/التراجع الذي يشهده السُّودان منذ الاستقلال وحتَّى الآن!
الحقيقة الخامسة المُؤكَّدة، تتمثَّل في (قيام) المُتأسلمين بتدمير البلاد لمصلحة العالم الخارجي، وذلك عبر أكثر من مشهد. ولو أخذنا على سبيل المثال، تمثيلية الحصار الأمريكي المزعوم، نجده استهدف بالأساس مُقدَّرات السُّودان كدولة/كيان وشعب، وذلك تبعاً لنتائج الحصار التي من أبرزها، انهيار الخطوط البحرية والجويَّة والسكك الحديدية، وانهيار مشروع الجزيرة وتلاشي محالجه والصناعات التحويلية والخدمات وغيرها. أمَّا الكيزان فلم يتأثَّروا إطلاقاً بذلك الحصار رغم تَسَبُّبهم فيه، وإنَّما العكس تماماً. فالمُتأسلمين، وباعترافهم، يتعاونون مع الأمريكان وفي أخطر الملفَّات، وهي الاستخباراتية والأمنية، وبرعاية وإشراف البشير (شخصياً)! وبالنسبة للعلاقات العربية/الأفريقية، فتحكمها المصالح التي دَفَعَ وسيدفع السُّودان وأهله أيضاً ثمنها وحدهم! فالعرب ينهشون السُّودان دولةً وشعب، بعدما دَمَّره البشير وعصابته جوعاً وتشريداً وقتلاً واغتصاباً، ثمَّ باعه كأرضٍ وكوادرٍ بشرية تُعمِّر/تُطوِّر الدول الموصوفة بـ(الشقيقة)، أو مُرتزقة يَقْتُلُون و(يُقْتَلُونَ) لأجل المال الذي يلتهم البشير وعصابته جانبه الأعظم! وكذلك الحال بالنسبة للدول الأفريقية، التي صَمَتَتْ على الجرائم الإسلاموية المُتلاحقة ضدنا، وصَمَتَتْ على الاحتلالات المُتزايدة لأراضينا، وجميعها مُعطياتٌ (تُؤكِّد) دعم ومُساعدة العالم الخارجي للبشير وعصابته الإسلاموية، كأدواتٍ يُنفِّذون مُخطَّطاته ويُشبعون أطماعه فينا، ولا مكان لللعدالة وحقوق الإنسان أو شعارات الأخوة الزَّائفة على أرض الواقع، وإنَّما المصلحة التي يجدونها في هؤلاء المقاطيع!
الحقيقة السادسة (المُؤكَّدة)، وهي الأقسى على الإطلاق، تتمثَّل في غياب الوعي الشعبي، واستجابتنا نحن السُّودانيون لِفِخَاخِ المُتأسلمين (الإلهائية)، ولانتماءاتنا القَبَلِيَّة/الجَهَوِيَّة والحزبية الضيقة، ودفاعاتنا المُستميتة عنها بينما يتلاعبُ بنا المُغامرون والمُتاجرون في الداخل والخارج. ففي الوقت الذي نعلمُ فيه، بأنَّ المُتأسلمين لا علاقة لهم بالإسلام ولا غيره من الأديان والشرائع، ولا يعرفون أخلاقاً ولا قِيَمَاً ولا مُثُل، يَصُبُّ بعضنا غضبه – بغباءٍ وسطحية – على الأديان والخالق، في مواقفٍ هُلامية لا تُسمِن ولا تُغني من جوع! وفي الوقت الذي نشهد فيه تَلاعُب قَادَة/رموز كياناتنا وتركيزهم على شهواتهم السُلطوية والمالية، وفشلهم/عجزهم عن طَرْح ورعاية الحلول الموضوعية والعملية لأزماتنا المُتزايدة، لا نزال نأمُل فيهم ونستميتُ دفاعاً عنهم! وبعضنا يتطلَّع لدعم/مُساعدة العالم الخارجي رغم تآمره الفاضح، وبعضنا يُتابع الدرامات الإسلاموية (المصنوعة)، ويَتَنَدَّر فيها ثم يُمَصْمِصْ شفتيه انتظاراً لدراما جديدة، كتفاعلنا الساذج مع الضجيج الإسلاموي بشأن حلايب، دون بقية الاحتلالات المصرية الأُخرى ودون الاحتلال الإثيوبي، بجانب تداوُلنا لإشاعاتهم/تصريحاتهم كأبي القنفد أو الفئران آكلة الجسور، والانشغال بالسَّاقطين ومُتابعة تسجيلاتهم الأسفيرية، ومُؤخَّراً انشغالنا بمُزِّوري الشهادات الأكاديمية الآتون من القاع! وبعضنا غارقٌ في أمجاد الأجداد التاريخية، دون اقتفاء أثرهم النضالي والتَحَرُّري، وهكذا نحيا في دائرةٍ مُفرغةٍ من الإلهاء والتغبيش الذهني!
وتأسيساً على أعلاه، يُمكن القول بأنَّ الصفوف أصبحت واضحة تماماً، وبات بمقدورنا تمييز واختيار الجانب الصحيح بموضوعيةٍ وتدبُّر، ودون وصايةٍ من أحد، فإمَّا ثورةٌ حقيقية نصنعها ونرعاها نحن للخلاص والانعتاق، وهذا خيارٌ يتطلَّب قدراً عالياً من الحكمة والإرادة، واستعداداً كبيراً للتضحية لبلوغ الحرية المنشودة، أو البقاءُ في برك المُتأسلمين الآسنة، وتحت أسر المُغامرين والمقاطيع بالدَّاخل والخارج، ولابد من اختيار أحد المسارين ولا مجال لأي رمادية.. وللحديث بقية.