لندن _ صوت الهامش
قالت صحيفة “تيليغراف” البريطانية أن الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت من الجزائر إلى الأردن من الممكن اعتبارها همسًا لربيع عربي ثانٍ، إلا أن احتمالات تغيير النظام السوداني باتت الأكبر من اي احتمال لتغيير أي نظام اخر في المنطقة.
وأضافت “تيليغراف” أن الربيع العربي في 2011 قد أطاح بأقوى رجال شمال أفريقيا، إلا أن الديكتاتور الذي لبث في السلطة لثلاثة عقود منذ أن استولى عليها في عام 1989 بانقلاب عسكر، وتحدّى حربين أهليتين، وسنوات من العقوبات ، وضربات جوية أمريكية على عاصمته، واتهامات بالإبادة الجماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ظل أحد أعضاء نادي الدكتاتوريين في المنطقة، لا يتزعزع، محافظًا ببساطة على هدوءه واستمراره في عمله كرئيسًا للسودان.
ومع ذلك، أضافت الصحيفة في تقرير أن الرجل الذي قام بإيواء “أسامة بن لادن” لمدة خمس سنوات، يواجه أكبر تحد لحكمه حتى الآن، وليس من تهديد بعضلات القوة العظمى، أو من بنادق المتمردين، ولكن من ثورة شعبية قادها أطباء صغار غير مسلحين.
وما لبثت أن اشتعلت الثورة في 19 ديسمبر الماضي، حتى انتشرت بسرعة في البلدات والمدن في جميع أنحاء السودان ، حيث كان المسعفون الصغار في طليعة الاحتجاجات التي كانت تطالب في بدايتها بإصلاحات، إلى أن وصلت لللمطالبة برحيل “البشير” بعد أن كان هؤلاء المسعفون من بين أبرز ضحاياه، وليس أكثر من “بابكر عبد الحميد” الذي قتل بالرصاص في الخرطوم في 17 يناير الماضي.
ولم يكن الدكتور “بابكر” البالغ من العمر 27 عاماً ، سوى واحد من بين 45 شخصاً قُتلوا على أيدي قوات الأمن منذ بدء الاحتجاجات ، وفقاً لجماعات حقوق الإنسان، لكن طبيعة وفاته، والجدل الذي أشعلته، تحولت إلى دعوات حاشدة للمتظاهرين، مما أدى بدوره إلى زيادة تصميمهم على الإطاحة بالرئيس بدلاً من تقليص المطالب والاحتجاجات.
ووفقًا لشهود عيان، خرج الدكتور “بابكر” من منزله، حيث كان يعالج المحتجين، وحاول أن يستأذن من ضباط الأمن للسماح له بنقل الجرحى إلى المستشفى، إلا أنه وبعد لحظات، أطلقت طلقة نارية، وبعد ساعة واحدة مات.
ويقول أحد زملاء بابكر للصحيفة : “سار في الشارع ببطء ، وقد رفع يديه، كان يحاول إخبارهم بأن لديه حالات حرجة وأن يطلب منهم إعادة فتح الطريق إلى مستشفى “رويال كير” الذي قطعوه، لكنه قتل”.
ولفت التقرير أن الرئيس “البشير” حاول ، في فورة الغضب المتصاعد، إلقاء اللوم على مؤامرة أجنبية لإحداث فوضى في السودان قائلًا مخاطبًا أنصاره في تجمع حاشد في جنوب البلاد: “الطبيب الذي قُتل … قُتل بسلاح لا ينتمي إلى الجيش، أو إلى جهاز الأمن والمخابرات الوطني، أو الشرطة لقد قتل من قبل شخص من المتظاهرين”.
ومع ذلك ، ليس هناك شك في أن الأطباء السودانيين، المجموعة الأكثر رعبًا وسط مجموعات متنامية من المعارضين للنظام، فقد تحملوا عبء رد “البشير” العنيف واليائس المتزايد على الاحتجاجات.
وتقول الصحيفة أنه قد قُتل على الأقل طبيب آخر يدعى “معاوية خليل” ، حيث قُتل رمياً بالرصاص داخل منزله، واعتقل كثيرون آخرون بمن فيهم رئيس نقابة الأطباء السودانيين ونائبه وأعضاء آخرين في اللجنة التنفيذية.
وتعرضت مجموعة من الممرضين والممرضات للضرب بعد أن داهمت قوات الأمن مستشفيين في الخرطوم، وأطلقت الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع على العنابر، قبل جر المتظاهرين المصابين من أسرهم ونقلهم إلى مراكز اعتقال سرية.
ونوه التقرير أن الاعتداء على مهنة الطب جزئياً يشير إلي غضب النظام على الأطباء بعد أن أعلنوا الإضراب، وشجعوا المهن الأخرى على أن تحذو حذوهم، ثم فتحوا المستشفيات الخاصة لعلاج الجرحى بالمجان.
لكن “تيليغراف” تكشف أنه يعتبر أيضاً مؤشر على خوف النظام القديم من مهنة الطب والوقار الذي تحظى به هذه المهنة في المجتمع السوداني.
ويعود تاريخ الخوف من الأطباء إلى ما بعد بعد استيلاء البشيرعلى السلطة في عام 1989 ، حيث منع النقابات العمالية المستقلة، وحبس وعذب المعارضين في سجون سرية عرفت باسم “بيوت الأشباح” ليقوم بإسكات المعارضة.
لكن الأطباء رفضوا التكفير، وشنوا إضراباً خلال أشهر من الانقلاب، فاستجاب النظام بزعم أنه قام بتعذيب أحد المنظمين في إحدى دور الأشباح حتى الموت، ومنذ ذلك الحين، نشأت العداوة بين النظام والأطباء.
وبحسب التقرير بقي الاستياء يزداد عمقًا وتضرب جذوره في النظام مع الوقت، حيث كانت الخدمة الطبية في السودان ذات يوم من بين أكثر الخدمات كفاءة في أفريقيا، حيث أنتجت كلية “كيتشنر” للطب بعض أفضل الأطباء في القارة.
في العقود الأخيرة ، انهار النظام الصحي بأكمله، ومع قيام نظام البشير بتحويل الأموال الحكومية إلى الجيش، مما أدى إلى خفض الإنفاق على الصحة ليصل إلى 2% فقط من ميزانية الدولة، وأصبحت المستشفيات الحكومية التي كانت تعمل في الماضي، تعاني من نقص الموظفين وتجهيزها بشكل جيد.
وكانت الأدوية تعاني من نقص في الإمدادات، وتم التخلي عن الرعاية الصحية المجانية في الغالب، ونهب المسؤولون الحكوميون الفاسدون المستشفيات وأداروا مناقصات مزورة للمشتريات.
وبما أن النظام الصحي بات غير قادرٍعلى إنقاذ الأرواح ، كان الأطباء يضربون في بعض الأحيان من قبل والدي الأطفال الذين ماتوا في الرعايات الصحية الخاصة بهم.
وأكد التقرير أن محاولات الأطباء لتحفيز الغضب العام فشلت إلى حد كبير، ومع ذلك لا يزال العديد من السودانيين يخشون من مواجهة حكومتهم.
لكن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد في السنوات الأخيرة، ونتيجة لتوارث العقوبات الأمريكية ، التي رفعت في عام 2016 ، وكشفت في ذات الوقت سوء الإدارة الاقتصادية في بلد وضعته منظمة الشفافية الدولية من بين الدول الست الأكثر فسادًا في العالم ، كانت كلها عوامل غيرت الديناميكية.
فقد بدأت الحكومة في تجريد البنوك من الأموال النقدية، مما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى 70% لتصبح السودان في المرتبة الثانية عالميًا بعد فنزويلا.
واضطر البشير قسراً إلى اعتماد تدابير التقشف، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز إلى ثلاثة أضعاف، والانخفاض السريع في قيمة الجنيه السوداني، ما يعني أرتفاع أسعار الأدوية التي يتم استيراد معظمها بنسبة تتراوح بين 150% و 300% خلال الاثني عشر شهراً الماضية.
ومن هنا بدأت الاحتجاجات من تلقاء نفسها ، في شهر ديسمبر في مدينة “عطبرة” ، ولكن سرعان ما تم توجيهها من قبل تجمع المهنيين السودانيين، والتي نظمت احتجاجات شبه يومية في جميع أنحاء البلاد.
وانضم مهنيون آخرون إلى المطالبة باستقالة البشير ، بما في ذلك أساتذة في جامعة الخرطوم ، وهي مؤسسة استعمارية مقدسة بدأت أيامها في كلية غوردون ميموريال في عام 1902، كما انضمت مجموعات أخرى، معظمها عاملون في ميناء بورتسودان ، إلى الإضرابات.
واختتم التقرير قائلاً أن معارضة السودان الحذرة عادة، والتي بدأت تستشعر ضعف البشير المتزايد، خرجت دعماً للاحتجاجات، ففي الأسبوع الماضي ، طالب “صادق المهدي” -رئيس الوزراء السابق- الذي درس في أكسفورد والذي أطاح به السيد البشير في عام 1989 ، باستقالة الرئيس.