ان التاثير الأكثر عمقا لنظام الإنقاذ في السودان على المستوى الاجتماعي والسياسي معا هو عملية تكسير هيمنة النخب الحضرية – داخل المركز- على السلطة والثروة. وذلك بإنهاء سيطرة بيوتات السياسة والمال والمرتبطة بالمؤسسات الصوفية والقبلية، التي حكمت البلد منذ مملكة سنار واستمرت في الهيمنة بمعاونة القوى الاستعمارية. ومن ثم ورثت الأجيال المتعلمة من ذات الأسر الطائفية والقيادات القبلية وأصحاب الأعمال ورثت السودان في عملية تسليم وتسلم من المستعمر. هذه النخب المدينية رغم مرجعياتها الدينية وايدلوجيتها العروبية الا انها كانت وبقدر أكبر ذات طبيعة رأسمالية . وكانت تمثل طبقة ارستقراطية حضرية استبعدت مكونات السودان الأكثر ريفية وبداوة من المشاركة في هيكل السلطة. وفشلت هذه النخب المتعلمة حديثا في استيعاب واقع السودان الريفي والرعوي، حيث انه اكثر من 80 في المائة من السودانيين حتى التسعينات كانوا يعتمدون في معاشهم على الانتاج الزراعي والرعوي. لكن هذه الحقيقة التي لها انعكاساتها على مستويات المعيشة والتعليم والتحديث، وأيضا على مستوى وعي المواطن السياسي لم يتم التعامل معها إلا في إطار سطحي يتعلق بالتنمية المرتبطة بالبنية التحتية والتنمية الاقتصادية.
ولكن التنمية المرتبطة بتطوير المجتمعات عبر التعليم ورفع الوعي وتمكين المجتمعات المحلية، هذا النوع من التنمية لم يحدث أبدا أو ما يسمى بالتنمية البشرية كشكل من التنمية المستدامة. كما أن فشل مشاريع البنية التحتية على قلتها قد فاقم من الأزمة. وهذا الفشل سواء في محاولات التنمية الاقتصادية أو عدم الاهتمام بالتنمية البشريه لم يكن نتيجة فقط لازمات الدول مابعد الاستعمار أو أخطاء بريئة غير مقصودة كما يعتقد البعض من النخب المستجدة في الحكم . بل على العكس فإن ما جرى من إهمال لحقيقة أن السودان دولة ريفية وذات طابع قبلي والقفز على هذا الواقع هو كان نتيجة مباشرة لعقلية النخب المتعالية على واقعها والتي أرادت أن تنحصر السلطة في محيطها الحضري الضيق، وتحتفظ بهذا الريف متخلفا على هذا الحضر كجزء من مواصلة هيمنة نفس البيوتات والكيانات القبلية والاقتصادية علي السلطة والثروة في السودان. أي الحفاظ على الفارق الذي يحمي سلطات النخب الحاكمة ويخضع بقية المجتمع السوداني لها دون استيفاء مستحقات بناء دولة المواطنة.
هذه الطبقة المهيمنة من النخب الحاكمة كانت مكونة من المتعلمين وكبار الموظفين الذين كان معظمهم هو أيضا من أبناء القيادات الصوفية والقبلية وكبار التجار الذين علمهم الاستعمار والذين ورثوا الدولة السودانية بعد الاستقلال. وبالتالي فإن ذات القوى التي أسهمت في حكم البلاد وساعدت المستعمر على حكم السودان واستفادت ماديا من التعاون مع المستعمر هي التي انتقل إليها الحكم بعد الاستقلال. وهذه الطبقة خاصة الصوفية والقبلية منها، لها تاريخ في السيطرة علي السلطة يصل إلى مملكة سنار. وانضمت طائفة الأنصار لهذه المجموعات المهيمنة خاصة بعد أن تمكن عبد الرحمن المهدي من أحياء المهدية الجديدة في عشرينيات القرن العشرين. وبالتالي فإنه بعد الاستقلال حافظت هذه المجموعات على مكانتها في راس السلطة عبر التأكد من استمرار الريف وبادية السودان في حالة من التخلف والفقر تمكن هذه النخب من استغلالها سياسيا في الشحن السياسي عبر خطاب ديني طائفي و قبلي يضمن استمرارية سيادة هيكلة نظام الحكم لهذه الفئات. والنتيجة المباشرة لهذا للخطاب كان عدم بناء وجدان ورؤية لدولة المواطنة والحقوق.
ومن سوء حظ السودان أنه حتى ثورات الجيش لم تكن بقدر المسؤولية لإعادة ترتيب هيكلة السلطة في البلاد. فثورة عبد الناصر في مصر مثلا كانت ثورة اشتراكية واضحة قامت بجدية كبيرة بإعادة توزيع الثروة في البلاد على عامة الشعب خاصة الفلاحين في الريف الذين يمثلون معظم السكان. كما جرت تنمية في البنية التحتية رفعت مستوى معيشة هذه الفئات إضافة الي مساواة اجتماعية مكنت المجتمعات المحلية من الحصول على التعليم. وحتى فقراء المدن تحصلوا على الاهتمام، مثلا قانون الإيجار الذي مازال معمول به في مصر، منع رفع الإيجارات حتى تتمكن الطبقة الوسطى من النمو. لكن هذه الازاحة للفوراق الطبقية ورفع مقدرات الريف وتوسيع إمكانيات الفقراء في المدن لم تكن ابدا بنودا جدية لحكام السودان العسكريين أو المدنيين، اي باختصار بناء ما يسمى بدولة المواطنة أو دولة بالمعنى المؤسسي . والسبب المباشر هو أن هذه النخب التي حكمت السودان منذ استقلاله تتضارب مصالحها مع أحداث هكذا نقلات تاريخية نوعية اجتماعية واقتصادية وسياسية، والتى ستؤدي إلى بناء دولة المؤسسات والمواطنة المتساوية بدلا عن دولة البيوتات القبلية والأحزاب الطائفية والنخب الحضرية والتجارية .
هذا التضارب في المصالح ناتج من أن هذه النخب تستمد موقعها في السلطة والهيمنة على الثروة، من عملية الحفاظ على هذه الطبقات الريفية أو المدنية الفقيرة، في وضعية من العجز والتخلف المعرفي والاقتصادي حتى لاتطالب هذه المجموعات بحصتها العادلة في الثروة والسلطة في السودان. فما كان يمكن للصادق المهدي أن ينزع أراضيه التي يمتلكها وأسرته في الجزيرة و النيل الأبيض وغيرهم ولم يكن للجنرال عبود فعل ذلك لأن حزب الأمة هو الذي سلمه السلطة. ونميري أبن المؤسسة العسكرية الذي أتى بخلفية عسكرية حاول محاكاة عبد الناصر، وأمم ونزع بعض الممتلكات لتلك الطبقة المهيمنة لكنه اضطر إلى إعادتها لهم في المصالحة معهم نسبة لأن مفاصل الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ظلت في أيدي تلك المجموعات حتى تحت حكم نميري، حيث أن الجيش نفسه هو جزء من تلك النخبة على مستوى قياداته.
الا ان التغييرات والضغوط التي مارسها نميري على تلك النخب السياسية والاقتصادية هي التي افسحت الطريق للإسلاميين والذين استغلوا قيام دول البترول وتغيرات السياسة العالمية ومنها الدعم الأمريكي لهم ليصنعوا قاعدة اقتصادية وسياسية مكنتهم من التوسع في عهد نميري ومن ثم التحرك عبر عهد الديموقراطية الهشة لإكمال السيطرة على البلاد.
وفي ظل هذه الرحلة التاريخية للسودان مابعد الاستقلال فإن التغيير الذي أحدثته الإنقاذ عبر هيمنة الإسلاميين على السلطة كان هو الإحلال الأول الذي يقوم بإزاحة شبه كاملة لمعظم النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيوتات الحضرية المدينية التي حكمت السودان منذ ما قبل الاستقلال. فقاعدة الجماهير التي اعتمد عليها الإسلاميين عبر الخطاب الديني كانت موجهة إلى تلك الطبقات المهملة في الريف والبادية، والتى كانت لا تقوي على الجهر بامالها في الوصول إلى السلطة في ظل هيمنة تاريخية شبه مقدسة لبيوتات الحكم الطائفية والقبلية وتحالفاتها مع النخب الحضرية المتعلمة وطبقة أصحاب المال. والتي لم تكن تسمح لهذه المجموعات سوى بلعب دور الحواريين والتابعين والذين تحولوا إلى أصوات انتخابية في ظل ممارسة الديمقراطية المشوهة عبر تاريخ السودان الحديث. وبالتالي اعطت الحركة الإسلامية صوتا لمن لا صوت لهم داخل المركز، مع استمرار الهامش مهمشا مع بعض الاستثناءات.
ولكن الحركة الإسلامية رغم أزاحتها للبيوتات والنخب التاريخية ،وإجراء عملية ترييف شاملة للمدن، الا انها لم تكن لديها خطة عمل صادقة تهدف فعليا إلى إحداث نقلات تنموية لذلك الريف وتلك البادية. بل كانت تتحرك بعقلية الغنيمة، فقد فتحت أبواب المدن أمام الريفيين والبدو البسطاء ليهجموا على هذه المدن التي كانت تتعالى عليهم وتوصد أبوابها في وجوههم باعتبارهم ريفيين وبدو متخلفين لا يليقون بحياة سادتهم في المدينة . وبالتالي لم تحدث أي تنمية حقيقية ولا حتى مساواة بل جرت عملية نهب منظمة للحضر عبر نزوح الريف إليه. بل و إفراغ الريف من سكانه، عبر تدمير المشاريع الزراعية والتي كانت تبقى الريفيين في مناطقهم. فاضطروا إلى غزو المدينة وتركوا كافة سبل كسب عيشهم وحياتهم التقليدية.
وقد اعتبر النظام أن هذا هو التطور، حيث قال البشير ممتنا على السودانين، وغيره من قادة نظامه (نحن علمناكم اكل الهوت دوج). في إشارة إلى التمدن والتطور الذي تمتع به الكثير من فئات الشعب تحت ظل هذا النظام. لكن هذه العملية الجهادية الانتقامية ضد المجتمع الحضري رغم أنها انتزعت الهيمنة والأنفراد بالسلطة والثروة من النخب التاريخية الحضرية والطائفية، الا انها لم تخلق نظاما بديلا يحترم الريف والبادية السودانية ويمكن وينمي مواطنيه. بل صنع مدن جديدة موازية وحضر متريف قام بالمزيد من الاستبعاد والاستغلال والافقار لأولئك الذين لم يتمكنوا من الانتقال إلى الخرطوم أو إلى الحضر، وترك حياتهم الريفية أو الرعوية. و تزايدت الفوارق بين الريف والمدينة بشكل عميق خاصة على مستوي التنمية الاقتصادية والبشرية أيضا.
وبالتالي رغم تغيير الإنقاذ الخارطة السياسية والديموغرافية على مستوى قمة هرم السلطة، إلا ان مفاهيم وآليات الحكم المركزية ألتي تتجاهل طبيعة السودان الريفية ظلت مستمرة. بل تم استغلال هذا الواقع أسوأ استغلال من نظام الإنقاذ، حيث أن عملية الافقار والتجهيل وانعدام التنمية في الريف والبادية شكلت موردا للنظام لتجنيد القوى الأمنية والمليشيات القبلية والتي تحمي النظام وتحارب بالنيابة عنه. ان ظاهرة حميدتي وهلال وأبناء المناطق المسماة الحجارة الكريمة الذين يسيطرون على جهاز الأمن من الجنود إلى الضباط، هي جميعها جزء من محاولات تغيير شكل الحكم في الدولة السودانية منذ الاستقلال، تلك الدولة التي كانت تهدف فقط إلى إبقاء السلطة في يد نخب وبيوتات حكم معينة. وتغيير الكيزان لديموغرافية السياسة في السودان لم يغير مباديء الحكم التي تستغل وتسيئ(abuse) لحقيقة أن السودان دولة ذات طابع قبلي رعوي وريفي بل وتحتقر هذا الواقع الاجتماعي. فقد استبدل نظام الإنقاذ استغلال المجتمعات الريفية والبدوية كحواريين واتباع يصوتون في الانتخابات كما كان يحدث تحت حكم النخب التاريخية، إلى استغلالهم بشكل دموي كجنود ومرتزقة لحماية النظام. والنتيجة هي استمرار الوعي السياسي المركزي النخبوي والحضري الذي لا يحقق أي تغيير إيجابي في أتجاه تحسين حقيقي لشروط المواطنة وبناء دولة المؤسسات. الأمر الذي ينذر بانهيار تام لامال بناء الدولة السودانية.
ان استمرار حالة تضارب المصالح بين مصلحة فئات الحاكمين وبين ضرورة بناء دولة المواطنة والحقوق في السودان تشكل احد اهم أساسيات أزمة بناء الدولة السودانية. فبدون تفكيك بنية الوعي والممارسة السياسية للنخب الحاكمة اي كان نوعها، والمبنية على الاستغلال والاحتقار لفئات المجتمع الأضعف سواء في الريف أو حتى في الهامش الأكثر ضعفا، وذلك في سبيل إبقاء الثروة والسلطة في أيدي تلك النخب، فإن أزمة السودان لن يتم حلها. أما الهامش الاثني فهو جزء من هذا التاريخ والعملية السياسية ولكن بما انه هامش، فهو يعاني من استغلال واستبعاد مركب على مستوى انه جزء من الريف إضافة إلى اختلافه الثقافي والأثني عن النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي هيمنت على السودان منذ ماقبل الاستقلال.