منذ أن سطا الاخوان المسلمون على السلطة في السودان في العام 1989، وطوال مايقارب الثلاثين عاماً؛ ظلّت حريّة التعبير إحدى جبهات حربهم التي شنوها على الشعب. فقد سيطر النظام ومنذ الوهلة الأولى على الإعلام المسموع والمرئي والمقروء.. أغلق الصحف وصادرها. سيطر على المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية. شرد الإعلاميين والإعلاميات وحاربهم في أرزاقهم. اعتقلهم وعذيهم وفصلهم من وظائفهم. منعهم من الكتابة بأمر جهاز الأمن والمخابرات الوطني. اختلق الشكاوى ضدهم لتضييع أوقاتهم بين ردهات المحاكم. فرض عليهم الرقابة القبلية والرقابة الداخلية الذاتية. استخدم الإعلان سلاحا لابتزازهم. تحكَّم في مدخلات الطباعة والأوراق والأحبار. لم تنجُ من محاولات السيطرة والتركيع حتى منابر الطلاب بالجامعات.
لم يدّخِر نظام الأخوان المسلمين جهداً في وضع القوانين المقيدة للصحافة، المعززة لسلطته، سالباً الضمائر الحرّة حقها الأصيل في الحصول على المعلومة، وفي التعبير عن آرائها وفكرها وإبداعاتها. فأضحت الرواية مصادرة، والقصيدة تَزُجُّ بصاحبها في غياهب السجون، ومجرد احتفاظك بمقطع فيديو متاح على قناة اليوتيوب جريمة تبيح اعتقالك ومحاكمتك وإدانتك بالسجن والغرامة! وحتى بعد ثورة المعلوماتية الهائلة، وانتشار الإعلام البديل ومواقع التواصل الاجتماعي، سارع نظام الخفافيش الخائف من أي شعاع ضوء، مهما خَفُت، بوضع التدابير التي تحجب ذلك الشعاع عن الشعب، فأنشأ كتائب الجهاد الإليكتروني المأجورة بغرض عزل الشعب عن العالم وتجهيله تمهيدا لكسر شوكته وتركيعه إلى الأبد، ولكن هيهات.
لقد برهن نظام الإنقاذ على أنه يخاف الكلمة الحرّة أكثر من خوفه السلاح، فبالرغم عن امتلاكه هذا الكم الهائل من المنابر الإعلامية والصحف والقنوات الفضائية والمحطات الإذاعية، بالإضافة لمنابر المساجد التي دنسها بالأئمة الكذبة، وبالرغم عن تجنيده لجيش من الإعلاميين المرتزقة، بائعي الذمم ومحترفي الدعارة بالقلم، فلا يزال نظام الإنقاذ يخاف من الإعلاميين ذوي الضمائر الحية. لماذا؟ لأنهم أصحاب الكلمة الصادقة. والكلمة الصادقة لا ترجع لأصحابها فارغة. بل تستقر حيث ذهبت. وحيث استقرت أتت على بنيانهم، الذي بنوه على شفا جرف هار من الأكاذيب، من قواعده وجعلنه هباء منثورا. هذا أمر يعرفونه جيدا، فقد صاغته الحكمة الشعبية “الكضب من دورين يقوم، يَصَلُه الصِّدِق في فَرِدْ يوم”.
لذلك لم يكن مستغرباً من نظام الخفافيش أن يسعي حثيثاً لتعطيل بَثِّ راديو (دبنقا) بالتعاون مع السلطات المصرية إلى أن تحقق له ذلك، حسب تصريح وزير الإعلام أحمد بلال.
لقد تعامى كلا النظامين السوداني والمصري، عن حقيقة ناصعة، وهي عدم جدوى هذه المؤامرة الصغيرة. فهي في النهاية لم توقف بث الراديو.. ولم تزيله من على موجات الأثير.. فهو ما يزال هناك.. شوكة في الخاصرة .. غصة في الحلق.. شعاع ضوء في عيني مسعور. كل ما حدث أن راديو دبنقا ذهب لقمر صناعي آخر في نفس اتجاه القمر المصري.. لا تحتاج معه لتحريك الصحن اللاقط.. فقط تُدْخِل التَّرَدد الجديد..
ولكن المؤامرة أظهرت الحكومتين بمظهر بائس كئيب. أظهرتهم كأقزام صغار أحلام. وكأنهم لا يدركون شيئا عن العالم الذي نعيش فيه. ألا يدرون أن السماء تحتشد بالأقمار الصناعية؟ ألا يدرون أن مقر دبنقا ليس هو عالمنا البائس حيث يمكن أن تُغلَق المؤسسات في لمح كالبصر ، ويُودَعُ العاملون فيها غياهب السجون؟ ألا يدرون أن مقر الراديو هو هولندا؟ وأن هولندا، لمن يعرف ليست فقط دولة تنتج الحليب، بل وأيضا تحترم حقوق الانسان وتقدس حرّية التعبير؟ وأنه لا طائل من مجرد التفكير في إدخالها في مثل ألاعيب الصغار هذه؟ ألم يروا أنه وبعد أقل من 24 ساعة على إيقاف البث على القمر المصري (نايل سات) كان راديو (دبنقا) يعاود البث على القمر الأوربي البديل (اتلسات)؟ فالعالم لم يعد ضيقا يا هؤلاء.. ولا نامت أعين خفافيش الظلام.
إننا في مركز الخاتم عدلان للاستنارة، إذ نُعَبِّر عن بالغ أسفنا لرضوخ الحكومة المصرية لنظام الاخوان المسلمين في السودان وإيقاف بث الراديو عبر قمرهم نايل سات نحب أن نذكر المسؤولين المصريين بأمرين: أولا، منذ انتصار ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة، التي أنقذت شعبكم من مصير يشبه مصيرنا، اكتوت ثورتكم ولا تزال بلظى إعلام الاخوان المسلمين الفاجر، وعانت منه الأمرين.. وكذلك جربتم انحياز قناة الجزيرة لنظام مرسي البائد واستهدافها للرئيس عبد الفتاح السيسي والهزؤ منه. وثانيا، نذكركم ببشاعة هذا النظام وتاريخه الدموي إن كنتم نسيتم، أليس هذا هو ذات النظام الذي حاول اغتيال رئيس دولتكم الأسبق في حقبة ماضية؟ أليس هو نظام الأخوان المسلمين الذي انتصرتم على توأمه السيامي في مصر في الثلاثين من يونيو ٢٠١٣؟ أليس من تدابير الأقدار أن يوم خلاصكم منهم هو ذاته يوم نكبتنا بهم؟
أثبت راديو (دبنقا) انحيازه لقضايا الوطن حتى أصبح رئة يتنفس بها الشعب. ولأن الشعب السوداني شعب حر وواع، فقد تعالت اصواته منددة بهذا المسلك المشين ومتضامنة مع منبرهم الأثير.
مركز الخاتم عدلان للاستنارة
كمبالا
13 مارس 2018