أحمد محمود كانم
المقصود بالحكومة هنا هو السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والآلية التي تعمل بموجبها السلطة القضائية والقوانين التشريعية المعمول بها مثل قانون الطوارئ وقانون التقاضي وعلاقة السلطة الأمنية بالسلطة القضائية، وأسلوب التعامل مع المواطنين، ومدى احترام هذه السلطة لحقوقهم وحرياتهم.
فإذا استصحبنا معنا هذا التعريف ، نجد أن سقوط رأس نظام المؤتمر الوطني عمر البشير وإزاحته عن المشهد كرئيس للبلاد هو التغيير الوحيد الذي حدث فعلاً ، وذلك انصياعاً لرغبة الشعب الثائر العنيد الذي لم يرعبه القتل والتوريع رغم تصاعد عدد القتلى الذين بلغوا وقتئذ ال57 قتيل بجانب الجرحى والمصابين الذين تجاوزوا ال7,000 بحسب تقرير وزارة الصحة الاتحادية وقتها ، قبل أن يقرر المتظاهرون (الصبه) أمام مقر القيادة العامة في السادس من أبريل/نيسان 2019 وما صحبها من ظهور بوادر التمرد الداخلي وسط صغار الضباط في القوات المسلحة _شلة حامد _ ، وهما أمران لم يضعهما عباقرة النظام السابق في الحسبان ضمن خطتهم الأمنية القمعية ، سيما وأنهما قد جاءا مرتبطين ببعضهما ( الصبة بالقيادة & العصيان وسط الجيش) ليربكا حسابات عقلية ونفسية اللجنة الأمنية ويضعانها أمام خيارين :
إما المواصلة في قمع المظاهرات مع توقعات بالدخول في مواجهات مسلحة مع عصاة الجيش الذين غالباً ما سيتدخلون لحماية المتظاهرين وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى جر بقية زملاءهم من الضباط والجنود (الشرفاء) نحو الانخراط في صفوف الثورة ، ولربما يلجأون علي فتح مخازن السلاح أمام الثوار المقتدرين علي حمل السلاح إذا اقتضى الأمر ذلك _رغم سلمية الثورة_ ، وبالتالي تدخل حركات الكفاح المسلحة لحسم المعركة ، وهو ما يعني ضمنياً استئصال شأفة نظام المؤتمر الوطني وإبادة رموزهم علي أيدي الشعب الثائر والأحرار من الجيش و من ثم تسليم السلطة كاملة إلي الشعب .
وإما اللجوء إلي خيار التنازل الفوري عن السلطة وتسليمها إلي وكلاءهم المخلصين من عسكر (اللجنة الأمنية) وأشخاص يتزرون بمئزر الثورة بغية الحفاظ علي حكومة المؤتمر الوطني مع تواري بعض الرموز عن المشهد كمعتقلين أو هاربين ريثما يتمكن هؤلاء الوكلاء من حصر وكشف تلك الأصوات الثائرة وسط الجيش ، ومن ثم تجريدها من السلاح والفتك بها لتخلو لهم السانحة للاستفراد بالمتظاهرين العزل والتنكيل بهم مجدداً ، وقطع الطريق أمام حدوث الخيار الأول ، علي أن يتم ذلك بشكل دراماتيكي يوحي إلي الثوار في بادئ الأمر أنهم شركاء معهم في إنجاح الثورة .
* ولأن الخيار الأخير هو الأسلم والاقرب إلي تجنيب رموز النظام السابق ويلات عدالة الشعب فقد ظهر به وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف في بيان ركيك أعلن من خلاله تنحي الرئيس المخلوع عمر البشير والتحفظ عليه في مكان (آمن) في 11 أبريل 2019 وتنصيب نفسه رئيسا للمجلس العسكري المكون من ذات اللجنة الأمنية القمعية التي كونها البشير نفسه ، وهو ما قابله الشعب برفض قاطع أظهر لهم عباطة خطتهم المفضوحة ، فاضطروا علي إجراء تغيير طفيف في الخطة وإبدال شخصية بن عوف المنبوذة شعبياً بشخصية بعيدة عن الأضواء مع إبقاء السيناريو علي ما هو عليه ، فجيئ بالفريق عبدالفتاح البرهان بعد 24 ساعة .. وحدس ما حدس.
*لكن تبقي أسئلة الشارع الملحة جداً ، إذا كانت القوات المسلحة شريكة في إنجاح ثورة ديسمبر وحاميتها _كما تزعم_ فكيف يضمن الشعب نجاح ثورته وتحسين مستواه المعيشي وتعافي اقتصاده في ظل احتفاظ ذات الجهات ونفس الأشخاص الذين كانوا ولا يزالون أدوات للنظام السابق بذات المناصب الديبلوماسية والوظائف الخدمية وحتي الأمنية ؟
وما المانع من أن تستعاد جميع تلك الأموال المنهوبة التي بحوزة الناهبين من رموز النظام السابق وإعادتها إلي خزينة الدولة ؟
وكيف يتحسن الاقتصاد الوطني و مفاتيح خزينة و إيرادات الدولة و البنوك لا تزال تحت استحواذ وكلاء النظام السابق بشكل شبه كامل ؟
و هل من مبررات منطقية لتطاول أمد إتفاقية السلام الجاري في جوبا وصرف كل هذا الوقت دون التوصل إلي اتفاق نهائي ؟ ثم لماذا لا يزال القتلة من منتسبي النظام السابق طلقاء ؟
بل لماذا لم تتوقف آلة التقتيل المستمر في البلاد خصوصاً في دارفور ؟ إذ أنه وبعد أسبوع فقط من إعلان انحياز القوات المسلحة للثورة شهدت معسكر (كلمة) للنازحين مجزرة دامية تبعتها مجرزة (كتم ) وأكثر من 149 عملية هجوم و إعتداء مسلحة خلال السنة الماضية علي أيدي ذات المليشيات التابعة رأساً للقوات المسلحة ، وبذات السلاح وذات الطريقة التي عرفت بها في عهد البشير آخرها واقعة اختطاف إثنين من النازحين وإصابة المواطنة عازة حسن أبكر بإصابات بالغة في شرق (طور) بولاية وسط دارفور نهار الخميس 9/4/2020 .فضلاً عن عمليات القتل المسلحة التي وقعت في الأبيض والقضارف ومدني وبورتسودان وكادوقلي وغرب كردفان ، وعدة مرات بفناء القيادة العامة أبشعها ما كانت في الثالث من يونيو /حزيران2019 أثناء فض الاعتصام الدامي وما تلاها من جرائم بشعة تقشعر لها الأبدان كأول مجزرة تنقل علي الهواء مباشرة في التاريخ البشري . والأمر الأغرب جداً في هذه الواقعة هو أنه حتي الآن لم تتجرأ لجنة التحقيق علي الجهر بتسمية الفاعل ، علي الرغم من وضوح الفاعل والمفعول به والمفعول معه والمفعول من أجله !
والسؤال الأهم .. بعد مرور عام كامل علي سقوط الجنرال الراقص عمر البشير .. هل سقطت معه حكومته الدامية ؟؟ .
* إن المفهوم الكامل لمعني (إسقاط الحكومة ) يشمل بالضرورة إسقاط أدواتها ومن هم في مركز القرار والحاكمين وما يتبعهم من أجهزة الأمن (والقمع) والتأديب والتي قد تتغول فتسيطر على السلطة نفسها ، وتصبح هي بذاتها السلطة صاحبة القرار والباع الطويل، ليس فقط في القبض على السلطة وإنما أيضاً في الاستيلاء على الثروة .
وهذا ما لم يحدث خلال السنة الثورية المنصرمة ، وقد وقع ما كنت قد تنبأت به في أول مقال بعد الإعلان عن تنحى الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير في 11/4/2019 بعنوان (الشعب يريد مزيدا من الغربلة) .
مانشستر_ المملكة المتحدة
11ابريل 2020