صلاح شعيب
عبر استنتاجات، وتأملات، وحوارات، حول ما نراه الآن في تكتيكات المجلس العسكري يتضح للمرء أن الحركة الإسلامية ما تزال تحكم البلاد، وتتحكم في مصيرها. وما الذي نعايشه في سطح المشهد السياسي سوى إخراج محكم لتمثيلية حبكتها جهة معرفة بمكرها تقف وراء المجلس العسكري بعلمه، أو دونه. والدليل على هذا أن الحاضنة الأساسية للحركة الإسلامية ما تزال فاعلة في عميق مؤسسات السلطة الأوليغارشية: مجالات المال، والإعلام، والخدمة العامة، والسطوة العسكرية، والتجارة، والعمل المدني.
ونحن نعرف أن مجالات الدفع الرباعي للسلطة هذي هي التي تتحكم في الدولة العصرية الحديثة. فحتى الآن – رغم سقوط البشير اسميا – لم تصدر قرارات جوهرية تمس هذه البنيات الذي قام عليها نظام الحركة الإسلامية الذي حكم البلاد لفترة ثلاثة عقود. ومع قلة القرارات التمثيلية ضد رموز السلطة مثل سجن البشير ، والإيحاء بحل المؤتمر الوطني، وإبعاد المؤتمر الشعبي من التأثير في المرحلة، فإن القاعدة الأساسية للحركة الإسلامية مستوطنة حتى يوم الناس هذا بجدارة في جسد السلطة. بل إن رموزها العقائدية، والانتهازية، يمدون ألسنتهم في الإعلام الرسمي، والعربي، ساخرين من دعاة التغيير. وأحيانا يوجهون برامج التلفزيون الرسمي لشتم رموز قوى الحرية والتغيير، والمعتصمين السابقين، وهؤلاء تصفهم مقالات الطيب مصطفى بالعمالة، والتهتك الأخلاقي، وأنهم فقط زمرة علمانيين.
فالإعلاميون المؤدلجون ما يزالون يصدرون صحفهم، ويديرون قنواتهم الفضائية السبعة، والدبلوماسيون العقائديون ما فتئوا يتحكمون في تمثيل البلاد خارجيا، وأصحاب المال، والشركات، والبنوك، ما برحوا يمسكون بعصب الاقتصاد، والتجارة، والسوق، وذلك تحت سمع وبصر المجلس العسكري. أما ترسانة الأمن الإسلاموية التي بناها نافع، وقطبي، وقوش، ومحمد عطا، فهي التي تسيطر على أمن البلاد. بل إن وضع هؤلاء الذين يتجاوز عددهم عشرات الآلاف من أفراد الأمن الإسلاميين، والمؤلفة قلوبهم، تحت جلباب المجلس العسكري أتاح لهم حركة أكبر خلف الكواليس، وأعفاهم حميدتي من الظهور المباشر بتاتشراتهم في قمع المتظاهرين.
ولهذا صار بإمكان أفراد الأمن الدمويين أن يتخفوا في زي الدعم السريع، والشرطة، والجيش حتى، ما دام أداؤهم الحر في إنتاج “البل” كما قال أحدهم يحافظ على السلطة الجديدة التي حلت محل البشير، وأتاحت حرية الحركة لكوادر الإسلاميين للتآمر ضد المكونات الثورية، وفي ذات الوقت يعملون على حماية مكتسباتهم التنظيمية، والمالية، والوظيفية، في القطاعين العام والخاص.
-٢-
إن اختفاء الرؤوس الكبيرة لقادة الحركة الإسلامية أمثال نافع، وأمين، وقوش، وعلي عثمان، والحاج آدم، لا يعني بأي حال من الأحوال أن السلطة قد آلت عمليا للمجلس العسكري. فالممارسات التي شهدناها بعد تولي اللجنة الأمنية للبشير السلطة بتحالف مع الفلول عبر اجتماعات لجنة عمر زين العابدين، تمثلت في القتل بدم بارد، والاعتقالات، والتعذيب، والأكاذيب، والاغتصابات. وهذه الانتهاكات من ذات نوعية السياسات التي تبنتها الحركة الإسلامية في الثلاثين عاما الماضية. ولا يمكن أن تستمر هذه السياسات القبيحة بينما هناك تطلعات، وإمكانيات، ثورية لتحقيق حلم الدولة المدنية الكاملة.
فالذي يحدث أمامنا هو أن الإسلاميين يطبقون الآن الخطة “ب”، والتي تتعلق بوقف المد الثوري ضد مشروعهم الحضاري لإعادة إنتاجه لاحقا، وإفراغ اي تغيير ديموقراطي من مضمونه مع الحفاظ علي البنيات الإعلامية، والاقتصادية، والأمنية، والخدمية، التي يسيطرون عليها الآن. ولعل الاتفاق الأخير بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الذي أعطى السلطة الكاملة للمجلس العسكري في الإشراف على الجيش، والأمن، والدعم السريع، وقوات الشرطة، لن يسهم مطلقا في إحداث أي تغيير نوعي في دولة الحركة الإسلامية العميقة.
وعبر هذه الخطة يريد الإسلاميون أن يضحكوا علينا، وعلى العرب، والأفارقة، والمجتمع الدولي. ولكن هيهات. فأي تغيير غير راديكالي لا يطيح بكامل المؤسسات التي أنشأتها الحركة الإسلامية داخل بنية الدولة، والمجتمع، سوف يعيد إنتاج أزمات البلاد، بل سيعمقها أكثر.
إن تركيبة المؤسسات النظامية الأربع كانت طوال الثلاثين عاما حوزات مقفولة لعضوية الحركة الإسلامية رغم انها تبتز الثوار بحيلة الإقصاء. والسؤال هو أنه إذا لم تستطع الحكومة الانتقالية المدنية إعادة هيكلة هذه المؤسسات المهمة فأي معنى للثورة التي انطلقت أصلا لتصفية كل آثار الإنقاذ، وبناء سودان جديد تقوم مؤسساته على مهنية صارمة؟ وعلى أي أساسه تكون هناك سلطات نظامية قائمة بذاتها دون أن يعمل الجهازان التشريعي، والتنفيذي، على التقرير بشأنها، خصوصا أن هذه المؤسسات النظامية بنيت على الفساد في التعيين، والمهام، ولعبت دورا عظيما في انتهاك حقوق المواطنين في المدن والحضر.
-٣-
والأهم من ذلك أن قاعدة جهاز الأمن الأساسية ظلت تقمع الثوار لصالح النظام السابق ما يعني أنه غير موثوق فيها لبناء نظام ديموقراطي يسيره مدنيون كما رغب شهداء، وجرحى، الثورة السودانية، والذين لا ينحصر عددهم في الثمانية أشهر الأخيرة. فؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم خلال الثلاثين عاما الماضية يعدون بمئات الآلاف، ولا يمكن خيانتهم بمواقف باردة.
لقد كانت آمالنا كبيرة بأن تسعى قوى الحرية والتغيير – ككتلة متضامنة بصلابة – إلى تمثيل الثائرين، والعمل على إجبار المجلس العسكري للاستجابة لتطلعات غالب السودانيين لبناء الدولة الوطنية الحديثة. ورغم التباين في الآراء الذي أدى إلى توقيع جهات من التحالف للتوقيع على الاتفاق الأخير فإن كل المؤشرات تدل على أن أي شرخ في مكون هذه القوى سيكون في صالح الحركة الإسلامية التي تدير البلاد بالتآمر.
بل إننا نرى أن هناك حاجة لكل القوى التي وثقنا فيها للعمل على إعادة النظر في هذا الاتفاق الذي حتما سيعمل على تشظيها في حال تمسك كل طرف بموقفه. ولعل هذه الحاجة الضرورية تنبع من أهمية العمل المشترك لكل القوى الثورية على قلب رجل واحد عوضا عن توزعها على تيارات يزايد بعضها على بعض، أو تلاحق الاتهامات أفرادا، أو جماعات هنا وهناك. وواضح من ما شاهدناه، وقرأناه، بالأمس واليوم، أن الطرف الذي وقع يرهن مواصلته في أن يكون شريكا حقيقيا للمجلس العسكري بقدرته على الاستجابة لمطالب كثيرة لا بد أن تتضمن في الإعلان الدستوري. ومع ذلك فإن المصداقية تجاه المجلس العسكري معدومة خصوصا بعد سعي أعضائه لطلب الحصانة، وتقليص نسبة قوى الحرية والتغيير في المجلس التشريعي.
ولما وضح تماما اتساع حجم الرافضين للاتفاق لكونه لا يلبي تطلعات الأحياء، ولا يفي بأخذ حجم الشهداء في الاعتبار، فإن الذين وقعوا على الاتفاق لن يستطيعوا بمفردهم أن يحققوا اختراقا في جسد السلطة التي تؤثر عليها قاعدة الإسلاميين في الخدمة المدنية والعسكرية للدولة، كما أن المجلس العسكري نفسه لا يرغب في أن تصبح قاعدة الحكم مدنية حتى تكون هناك إعادة هيكلة لمؤسسات البلاد جميعها حتى نضمن بناء الوطن على أساس متين، وفاعل، ومجمع عليه.