حَفَلَتْ السَّاحة السُّودانية في الفترة الماضية بمجموعة من الأحداث المُتلاحقة والسَّاخنة، بدءاً بإضراب الأطباء ودعوات استمراره وانتقاله لقطاعاتٍ أُخرى، مروراً بأكاذيب المُتأسلمين وتهدئتهم (الظاهرية) تارةً، وتضليلهم وخداعهم واستفزازهم للسُّودانيين تارةً أُخرى، وانتهاءً بالعصيان المدني خلال الفترة 27-29 نوفمبر 2016، والذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية والإقليمية. ومُؤخَّراً جولة البشير (المَعِيْبَة) والمُدهشة، التي بدأها بالمغرب وخَتَمَها طريداً وذليلاً من زيارته المُخجلة للإمارات.
بالنسبة للشعب السُّوداني، فإنَّ الغالبية العُظمى – وأنا منهم – مُقتنعون تماماً بضرورة الإسراع باقتلاع المُتأسلمين، وفق استراتيجية (رُؤية) رصينة وواضحة المعالم ومُتكاملة (خطط عمل تنفيذية، وبرامج وسياسات)، بما يضمن إحداث التغيير المنشود وإدارة ما تبقَّى من السُّودان بالصورة المُثلى. وتزداد حاجتنا (الحتمية) لوجود استراتيجية رصينة للتعاطي بعقلانية مع التحديات (الألغام) التي صنعها المُتأسلمون، كالانهيار الاقتصادي الماثل والفتنة الاجتماعية والقبلية/الجهوية المُنتشرة، والوافدون الذين نالوا جنسيات وبعضهم يشغل مناصب دستورية حسَّاسة وبعضهم في القوات النظامية، وحجم البلبلة والابتزاز الذي يُمكنهم مُمارسته لتعطيل التغيير وإحداث الفوضى. بالإضافة للتراجُع الأخلاقي العام وانحطاط (قادة) بعض الأحزاب والكيانات ولهثهم خلف مصالحهم الشخصية، وانتشار السلاح والمليشيات الإجرامية والمُنتفعين من الكيزان، والذين سيُدافعون عن مصالحهم القائمة باستماتة. وهناك الديون (المُتلتلة) مُستحقَّة الدفع وحتمية استرجاع الضمانات التي قَدَّمها المُتأسلمون لنيلها، والاحتلالين الإثيوبي والمصري، وقرار الاتحاد الأفريقي القاضي بأنَّ نهاية 2016 آخر موعد لحسم الحدود بين دول القارة، ومُصيبة سد النهضة وتهديده لمُستقبلنا الزراعي، وعدم وجود أي فكر سياسي (سُّوداني خالص) يستوعب تنوُّعنا (الثقافي، الإثني، القَبَلِي وغيرها). والأهم من هذا وذاك، ضرورة الإمساك بالمُتأسلمين والحيلولة دون هروبهم ومُساءَلَتهم ومُحاسبتهم على جرائمهم ضد السُّودان وأهله، وهذه جميعاً أمور تحتاجُ منَّا استعداداً مُسبق ومدروس بعناية، لأنَّ حالتنا الماثلة لا تحتمل أي تنظير لا قِبَلْ لنا بعواقبه.
وبالنسبة للمُتأسلمين، فقد مَارَسوا كل أنواع الـ(خِداع) والتضليل، وتَسَارَع إيقاعهم التدميري لتحقيق أمرين رئيسيين، الأمرُ الأوَّلُ تحقيق أكبر كَسْب مُمكن خصماً على ما تبقَّى من البلاد ومواردها، والأمرُ الثاني (إحداث/صناعة) الفوضى لتسهيل هروبهم دون مُساءلةٍ أو عقاب. فقد نَشَرَت صحيفة السُّوداني يوم 3 ديسمبر 2016، خبراً عن رَهْن أصول مشروع الجزيرة بـ(341) مليون جنيه لتمويل زراعة (271 ألف فدان) قمح! وقبل شهرٍ من الآن، أكَّدَ وزير الزراعة وفق المجهر السياسي يوم 9 نوفمبر 2016، على اكتمال الاستعدادات للموسم الشتوي الذي يستهدف زراعة 850 ألف فدان، وأنَّهم – وتبعاً لتجهيزات الوزارة – يتوقَّعون إنتاجيةً عالية، يتراوح مُتوسطها ما بين 18-20 جوال/الفدان! كما أكَّد مُحافظ مشروع الجزيرة على توفير تقاوي القمح المُحَسَّنة، وقيام (إدارته) بتوزيعها وترحيلها لكل تفاتيش الغيط، وأنَّ خطتهم التأشيرية تستهدف زراعة (500) ألف فدان قمح!
والتناقُض البادي في هذه التصريحات (المُوثَّقة) لا يحتاج اكتشافه لجهدٍ كبير، فقبل شهرٍ من الآن أكَّد كلاً من وزير الزراعة ومدير مشروع الجزيرة على استعدادهم التام للموسم الشتوي، بما في ذلك توفير وتوزيع التقاوي المُحَسَّنة للقمح، ثمَّ أتى مُدير المشروع ليُعلن عن (رَهْنْ) الأصول لتمويل ذات الموسم، مع اختلاف كبير في المساحات المُستهدفة ما بين تصريحات نوفمبر والتصريح الأخير، حيث تناقصت المساحة من (500) ألف فدان لنحو (271) ألف فقط! حتَّى لو افترضنا أنَّهم يحتاجون فعلاً لمبلغ (341) مليون جنيه، فأين ذهبت الـ(210) مليار التي ادَّعى المُتأسلمون جَمْعَها في ما أسموه (نَفْرَة الجزيرة)، والتي التزم البشير بدفع أربعة أضعافها ورقص مع والي الجزيرة ومدير مشروعها، واحتفى الإعلام الإسلاموي المأجور بهذه التفاهات! ويبدو أنَّ المُتأسلمين يستهدفون من عملية (الرَهْنْ) المُشار إليها في تصريح مدير المشروع يوم 3 ديسمبر الجاري، تسليم أرض المشروع للجهة الدائنة، وفي الغالب تكون للصين التي خَصَّصوا لها مليون فدان من أراضي المشروع (فعلياً) وفق ما أعلنته وسائل الإعلام الإسلاموية نفسها، بخلاف التحرُّكات الصينية واجتماعاتهم الكثيفة واتفاقاتهم المُبهمة مع المُتأسلمين بإشراف (الآفة) عوض الجاز، والإشارات الإسلاموية المُريبة لتأجيل سداد وإعادة جدولة ديون مُؤسَّسات التمويل الصينية بفترة سماح خمس سنوات، ليتمكَّن السُّودان من تنفيذ بعض مشروعات التنمية المزعومة، ثمَّ إعلانات المُتأسلمين المُتتالية والمُتناقضة حول تعثُّر بعض المشروعات لعدم مُوافقة الصين على تمويلها، دون توضيح مصير القروض التي نالوها (سابقاً) من الصين لصالح ذات المشروعات!
وتتجلَّى نوايا المُتأسلمين (الخبيثة) وسعيهم لتدمير السُّودان، في تصريحات (مُهندِّس) تدمير الاقتصاد السُّوداني وعَرَّاب العُنصُرية الإسلاموية عبد الرحيم حمدي، لصحيفة آخر لحظة يوم 5 ديسمبر 2016، التي أفصح فيها عن تأييده (مليون مرَّة) لرَهْنْ أصول الدولة لمُعالجة المُشكلات الاقتصادية (حسب زعمه)، وهذا حديثٌ بعيدٌ عن علوم الاقتصاد ومعارفه، ولا يقوله إلا الساقطون والخَوَنَة الذين لا جذور ولا أصول لهم. وتأكيداً للانحطاط الإسلاموي غير المسبوق، عَرَضَ والي النيل الأبيض (مَنْحْ) أراضٍ مُجَّانية لمُستثمرين سعوديين، ووضع كل موارد الولاية (الزراعية والحيوانية) ومجموعة من التسهيلات الأُخرى تحت تصرُّفهم، دون أي دراساتٍ تخصُّصية، أو اتفاقياتٍ رصينة تحفظ حق البلاد، و(تثبت) التزامات أولئك الموصوفين بمُستثمرين، وهو تصرُّفٌ لا يحدث في أي مكان بالعالم، ويعكس استهتاراً واستخفافاً كبيراً بالسُّودان وأهله، وإجراماً يرتقي لمُستوى (الخيانة العُظمى). وإذا ما أضفنا لها بعض الحالات الأخرى، كعرض ميناء بورتسودان لإحدى الشركات الإماراتية، وفضيحة بيع آخر طائرة لسودانير وغيرهما من حالات التفريط السافر لموارد ومُقدَّرات السُّودان، تُصبح الصورة أكثر وضوحاً عن أفعال ونوايا المُتأسلمين التدميرية و(خداعهم) المُتزايد للبلاد وأهلها.
من الواضح جداً أنَّ المُتأسلمين (يُخادعون) الجميع للإفلات بجرائمهم وما نهبوه من أموال القروض التي أحالوها لمصالحهم الشخصية، وما تصريحاتهم هذه إلا تمهيدٌ لتسليم الدَّائنين أراضي السودان، وبدا هذا المُخطَّط جلياً منذ تعيين (الآفة) الجاز كمسئول عن العلاقات مع الصين ثمَّ توالَت فصول المسرحية العبثية. ومسألة هروب المُتأسلمين أصبحت قريبة، ليس فقط لتزايُد الاحتجاجات الشعبية التي بلغت ذروتها بالعصيان، وإنَّما لاستحالة إدارة الدولة مع توقُّف القطاعات الإنتاجية، وصعوبة حصولهم على ديونٍ جديدة في ظل تضاؤُل (الضمانات)، والتي تُمثلها في الغالب أصول وعقارات الدولة، فعَمَدُوا على تزيين (رَهْنَهَا) بحجة مُعالجة مشاكل الاقتصاد التي صنعوها باحترافية، مع السعي لإشعال الفوضى وهَدْم السُّودان على من فيه قبل الهروب.
الفرصة ما زالت مُواتية للحاق بما تبقَّى من البلاد إذا تَضَافرَتْ جَهُودنا واتَّحدنا، وانتبهنا لخداعهم وتَجَاوُزْنا عن إلهاءاتهم المفضوحة، فلا يهم الآن (إثبات) نجاح العصيان من عدمه، أو طرد البشير من الإمارات أو فشل حشود الساحة الخضراء وغيرها من الإلهاءات. لنعرض عن كل هذه (الخِدَع) والإلهاءات، ولنركز على القضايا (التحديات) المُلحَّة التي أشرنا إليها، وأهمَّها إعداد استراتيجية (رُؤية) رصينة لإنجاح التغيير وإدارة الدولة لما بعده، والحيلولة دون هروب الكيزان كهدفٍ رئيسي لأي تحرُّك شعبي قادم، وعدم تحوير الأهداف أو تقليل سقوفها بأي صورةٍ كانت، باعتبار أنَّ الحيلولة دون هروبهم هدفٌ في ذاته وغايةٌ (شعبية) سامية، تضمن مُحاسبتهم على كل ما اقترفوه من جرائمٍ مُتراكمة ضد السُّودان وأهله، كما يساعد القبض عليهم في استرجاع ما نهبوه من أموال خاصة القروض، ومن ثمَّ دفع أقساطها المُستحقَّة على البلد واسترجاع أصولنا العقارية التي قَدَّموها كضماناتٍ لنيل تلك القروض. ولنبعد تماماً عن أي خياراتٍ أُخرى كتنحي هذا أو ذاك، فالمُتأسلمين منظومة كاملة ووجوه لعملةٍ واحدة، وإنَّما برزت مثل هذه الخيارات (التنحي وغيره)، خدمةً لمصالح المُغامرين والطامعين من الداخل والخارج، وهذا تحدٍ آخر علينا الانتباه إليه وتلافي الوقوع في فخاخه.. وللحديث بقية.