د. فيصل عوض حسن
تَمَنَّيتُ في مقالتي السَّابقة (اَلْسُّوْدَاْنُ وَاَلْمُهَدِّدَاتُ اَلْسِيَادِيَّةُ اَلْمُتَعَاْظِمَة)، الإسراعِ بِحَسْمِ المُهَدِّدات الخطيرة قبل استفحالها، لتأثيراتها الكبيرة على (سِيادَتنا) الوطنِيَّة وبقائنا كدولةٍ وشعب، ويأتي على رأس تلك المُهدِّدات تَحَدِّي (تحقيق) السَّلام، يليه تَزَايُد المُجَنَّسين ودورهم المحوري في تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، ثُمَّ الاصطفاف أو التحشيد القَبَلي/الجِهَوِي، فالاحتلال بِقُوَّةِ السِّلاحِ أو المال، ثُمَّ تحدِّي الاقتصاد. وأرجأتُ تَحدِّي المليشيات، لاتِّساعِ الموضوعِ وتَشَعُّبه وحاجته لتفصيلٍ أكثر.
مُنذُ سَطْوِهِمُ على السُلطةِ، شَكَّلَ المُتأسلمون مليشياتٍ عديدة، كجهاز الأمن العام والطُلَّابي والدفاع الشعبي وغيرهم، وارتكبوا عبر هذه المليشيات كل أنواع الإجرام ضد السُّودانيين، تمكيناً لسُطْوَتِهِم وتحقيقاً لأهدافهم المُتطرِّفة. وعقب الحِراكِ الشعبي في ديسمبر 2018 وما تلاه، وحينما شعروا بقُوَّة الشعب ورفضه القاطع لوجودهم، سَارَعَ المُتأسلمون لِتقوِيَة مليشيا الجِنْجِوِيْد المُسمَّاة (الدعمِ السَّريع)، وسَخَّروها لضرب الثورة والمُواطنين في كل مناطق السُّودان، والمعروف أنَّ الجِنْجِوِيْد مليشيا تَكَوَّنت أساساً على أُسُسٍ قَبَلِيَّة/جِهَوِيَّة من عُدَّة بلاد، ومُقابل المال لا يتوانون عن ارتكاب أي جريمة، بدءاً بالنَّهبِ والاغتصاب والإرهابِ وانتهاءً بالإبادةِ الجماعِيَّة، مما دفع العديد من الدول الأفريقيَّة لطردهم، وهي (ثوابتٌ) مُوثَّقة ومعلومة لا يُمكن إنكارها.
يُمكنُ القولُ بأنَّ تكوينَ الجِنْجِوِيْد، كان ولا يزال، مِحور اِلْتِقاءِ الخَوَنة والسُفهاءِ والمُجرمين لِلْنَيْلِ من بلادنا، فالبشير وعصابته عملوا بجدِّيَّة لتفكيك السُّودان، وأفصحوا عن ذلك صراحةً عبر رُؤيتهم الشيطانِيَّة “مُثلَّث حمدي”، والتي تَناوَلتُها في مقالاتٍ عديدة آخرها (اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) يوم 21 أبريل 2019، فضلاً عن مقالاتي (اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018، و(اَلْتَحَاْلُفُ اَلْإِسْلَاْمَوِيُّ اَلْصَهْيُوْنِيّ: مِنَ اَلْخَفَاْءِ إِلَى اَلْعَلَنْ) بتاريخ 6 ديسمبر 2018 وغيرها. وأمَّا الجِنْجِوِيْد فيحلمون بـ(وطنٍ) يحتويهم بعدما طردتهم العديد من دول المنطقة، ليكون ملاذاً لهم ومُنطلقاً لأعمالهم الإجرامِيَّة و(ارتزاقهم) الدولي والإقليمي. وتبعاً لهذه المصالح التَشابُكِيَّة شَهِدَت بلادنا أبشع جرائم الإبادة الجماعِيَّة، والقمعِ والاغتيالِ والاغتصابِ والنَّهبِ على أيدي الجِنْجِوِيد المدفوعين من المُتأسلمين، الذين لم يكتفوا بإفساد حياتنا وأمننا الاجتماعي والإنساني، وإنَّما صَدَّروا إجرامهم للخارج مُقابل المال الإماراتي والسعودي، على نحو ارتزاقهم باليمن ومُؤخَّراً ليبيا وما خُفِيَ أعظم!
أصبحَ الجِنْجِوِيْدُ الآن دولةً قائمةً بذاتها، لها ميزانيات (مُنفصلة) وعلاقات خارجِيَّة ودَّاخِليَّة (مُسْتَقِلَّة)، وتعمل هذه (ظاهرياً) تحت إمْرَة المُرتزق حِمِيْدْتِي، لكن وفق مُوجِّهات ورغبات العصابة الإسْلَامَوِيَّة، التي تُشرف على جميع مُمارسات هذه المليشيا. وبعبارةٍ أُخرى، دَمَجَ المُتُأسلمون غالِبِيَّة مليشياتهم (الأمنِيَّة) المُختلفة في مليشيا الجِنْجِوِيْد، بما في ذلك عناصرهم بالجيش والشرطة، وسَلَّحوها بأضخم وأحدث الأسلحة، ومَكَّنوها من جميع والمُؤسَّسات الاقتصادِيَّة النَّاجحة، مع تكثيف استيعاب الأجانب و(تجنيسهم)، بالتنسيق مع آكلي الفِتَاتِ من مُمثِّلي العشائر والإدارات الأهلِيَّة. وبالتوازي مع ذلك، أُهْمِلَت مُؤسَّستي الجيش والشرطة وخُصِّصَت سُلطاتهما ومهامهما الرئيسيَّة للجِنْجِوِيْد، وتَمَّ تشديد (الخِناقِ) الاقتصادي والمعيشي، لإذلال السُّودانيين وسَلْبِ إرادتهم وتحوير قناعاتهم، ولقد نجحوا نسبياً في ذلك، تبعاً لحملات (التلميع) المُتلاحقة لمليشيا الجِنْجِوِيْد وزعيمها المُرتزق حِمِيْدْتِي، رغم إجرامهم المُتزايد في جميع أنحاء السُّودان!
إنَّ اختيار المُرتزق حِمِيْدِتي تَمَّ بعنايةٍ فائقة، فهو لا ينتمي للسُّودان (جينياً/إنسانياً أو روحياً) ولا يهتم بسيادته وسلامته، و(الخيانةُ) تسري فيه سريان الدم في العروق، وله استعدادٌ فطريٌ عالٍ للغدر والرُضوخ لمن يدفع أكثر، وجميع جرائمه (مُوثَّقة) مما يُسهِّل ابتزازه (داخلياً وخارجياً) كالبشير تماماً، الذي لم يَتَوَانَ عن خيانة السُّودان والتضحية بسيادته ومُقدَّراته الوطنِيَّة، وجعل بلادنا مُسْتَبَاحَة للقاصي والدَّاني. وحالتنا مع حِمِيْدْتي ستكون أسوأ بكثير، فهو بالنسبة للسُّودان كحِصان طرْوادة الذي استخدمه الإغريق لضرب الطُرواديُّون من الدَّاخِل، وتجدون تفاصيلاً أكثر في مقالاتي (تَحْجِيْم حِمِيْدْتِي: مَطْلَبٌ حَتْمِيٌ لِإِنْقَاْذِ اَلْسُّوْدَاْن) بتاريخ 6 أبريل 2019، و(حِمِيْدْتِي: خَطَرٌ مَاْحِقٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيْر) بتاريخ 29 أبريل 2019، و(فَلْنُعَجِّلْ بِإيْقَاْفْ تَمْكِيْنْ حِمِيْدْتِي حِفَاْظَاً عَلَى اَلْسُّوْدَاْن) بتاريخ 15 مايو 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنُ تَحْت اَلْاِحْتِلَاْل اَلْجَنْجَوِيْدِي) بتاريخ 3 يونيو 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنِي اَلْأصِيل وَاَلْجَنْجَوِيْدِي اَلْمُرْتَزِق) بتاريخ 5 يونيو 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019 و(مَتى نَحْسِمْ الأفعَى الجَنْجَوِيدِيَّة) بتاريخ 9 أكتوبر 2019 وغيرها.
رغم قُوَّة المُتأسلمين وسيطرتهم الكبيرة على المُرتزق حِمِيْدْتِي، إلا أنَّ احتمالات تكرار حالة تشارلز تايلور مع نظام صمويل دو واردة، خاصَّة مع الدعم الإماراتي والسعودي الذي يجده حِمِيْدْتي، ذو الجُنوح الفطري للغدرِ والخيانة. وللتذكير، فإنَّ تايلور هذا كان (أداة) نظام صمويل دو، لتصفية وإبادة جماعتي (جيو ومانو) في ليبيريا، ثُمَّ اسْتَغَلَّ تايلور منصبه كرقيبٍ على مُمتلكات الدولة وجَمَعَ ثروةً هائلة، فطرده صمويل دو من منصبه بتُهمة الاختلاس، وسافر تايلور لأمريكا ثُمَّ عاد لليبيريا عبر بعض الدول الأفريقيَّة. وعقب اندلاع الثورة الشعبيَّة في ليبيريا بسبب تَرَاجُع الاقتصاد واستشراء الفساد، واحتكار ثروات البلاد، شَكَّلَ تايلور جبهة (NPP) وشَنَّ هجماتٍ مُتلاحقة على النظام الحاكم، وكان سعيداً وهو يتفرَّج على مُعاونيه، وهم يُمزقِّون جسد صمويل إرباً إرباً، وتَبَاهى بهذه القسوة الاستثنائِيَّة أمام الكاميرات! مما جَعَلَ الليبيريّين يعتقدون أنَّ ثورتهم نجحت فأيَّدوا تايلور، الذي أسرف في تصفية مُعارضيه، بدعمٍ أمريكيٍ ودوليٍ واضح، واسْتُكْمِلَت التمثيليَّة بانتخاباتٍ (صُوْرِيَّة)، اعترفت بنتائجها الأمم المُتَّحدة. وبعدها انفرد تايلور بالسُلْطةِ، وأتاح ثروات ليبيريا للطَّامعين الخارجيين خاصَّةً أمريكا، وهكذا تَكَالَبَ العالم على ثورة الليبيريين وقتلهم وتشريدهم، وهذا السيناريو من المُحتمل جداً تكراره عبر المُرتزق حِمِيْدْتي، الذي لا يَتوانى عن فعل أي شيء مُقابل المال، ويكفي أنه يبيع أفراد مليشياته بالرأس كما تُباع الخِراف!
الآن يَتَسارَع إيقاعٍ استكمال مُخطَّط تفكيك ما تَبقَّى من البلاد على أكثر من صعيد، حيث ارتفعت جرائم الجِنْجِوِيْد ضد مُواطني دارفور، بصورةٍ جُنُونِيَّةٍ وغير مُبرَّرة، مع استمرار إفراغ الإقليم من أهله الأصليين و(توطين) آخرين مكانهم، وتجنيسهم وتسليحهم وتمليكهم الأراضي والأموال. وكذلك الحال في شرق السُّودان، حيث (التجنيس) الكثيف للأجانب، وتمكينهم واستيعابهم في مليشيات الجِنْجِوِيْد، وهناك التَرَاخي المفضوح مع الاحتلالين الإثيوبي، الذي بَلَغَ منطقة (الدِنْدِرْ) بجانب الفشقة التي يقتلون أهلها بصورةٍ شبه يومِيَّة، إضافةً للاحتلال المصري الذي شَمَلَ بجانب حلايب، غالِبِيَّة الأراضي النُوبِيَّة وبعض شمال دارفور، وهذه جميعاً مُهدِّدات يَتَسَاهَلَ السُّودانِيُّون معها، وينشغلون بإلهاءات القحتيين وصراعاتهم (الهايفة)! أمَّا (الأُسطُورة) حمدوك، فلم يَكتَفِ بغض الطَرفِ عن إجرامِ العسكَر ومليشياتهم الجِنْجِوِيْديَّة، و(شَرْعَنَتِهِم) دولياً وإقليمياً ومُشاركتهم حفلات (تخريج/تفريخ) المُرتزقة، وإنَّما (مَهَّدَ) بِخُبثٍ لقطع الطريق أمام أي ثورة شعبِيَّة، قد تُعيق استكمال مُخطَّطات تفكيك وتمزيق ما تَبَقَّى من البلد، عبر طلبه التَدَخُّلِ الدولي في السُّودان، وهو طَلَبٌ ظاهره فيه الرحمة وباطنه يحوي هلاكاً لا فِكاك منه. فقد ظَلَّ العالم مُتفرِّجاً على تَجاوُزات وجرائم الجِنْجِوِيد اليوميَّة ضد المدنيين، بما في ذلك الجرائم التي تتم داخل مُعسكرات النَّازحين الواقعة تحت الحِماية الدَولِيَّة، لكنهم سيتدخَّلون حتماً لتعطيل أي حِرَاك شعبي قادم، يُفضي لتحقيق التغيير المنشود، تبعاً لطلب حمدوك الذي مَنَحَهم ذلك الحق بخُبثٍ استثنائي، وهو ما لم نستوعب خطورته حتَّى الآن!
إنَّ الطَّامعين الخارجيين سيُواصلون (مُجتمعين/مُنفردين) ضرباتهم وتَدَخُّلاتهم في السُّودان، وسيكون المُرتزق حِميْدتي (أداة) تنفيذهم الرئيسيَّة، ومسئوليَّة مُواجهته ومليشياته (تَضامُنِيَّة)، منوطٌ بها جميع السُّودانيين، بمُختلف أطيافهم/مناطقهم، لأنَّ الضرر سيُصيب الكل دون تمييز منطقة وأخرى، مما يُحتِّم علينا تقبُّل بعضنا وزيادة ترابطُنا لو أردنا الحياة بأمانٍ وسلام. وبدلاً عن التَنَاحُرِ والتحشيد القَبَلِي/الجَهَوِي، و(التَهافُت) المرحلي/الإلهائي على المناصب، علينا الاتِّحاد بِقُوَّة، لتحجيم الجِنْجِوِيْد وسادتهم الطَّامعين بالخارج، ولنتجاهل المُخذِّلين الذين يُرهبون الشعب ببطش هؤلاء (المقاطيع) وجرائمهم، التي لم تتوقَّف بِصَمْتِنا عليهم وإنَّما زادت وبلغت حدوداً لا يُمكن الصَمْتُ عليها. وَلْنَتَذَكَّر صمودنا أمام المليشيات الإسْلَامَوِيَّة، اعتماداً على وِحْدَتِنا وإرادتنا، دون أي دعمٍ من الخارج الطَّامِع في مُقدَّراتنا وبلادنا، ويُمكننا تكرار الانتصار بذات الطريقة التي أجبرنا بها البشير (على الاختفاء)، وابن عوف على التَنَحِّي.
في الختامِ، أقول لـ(صغار) ضُبَّاط وجنود الجيش والشرطة، أنَّ تَجاوُزات الجِنْجِوِيْد لم تتوقَّف على السُّودان وأهله، وإنَّما طَالَت مُؤسَّستي الجيش والشُرطة وأفرادهما، والقضية الآن تَعدَّت الولاءات الحزبيَّة والطائفيَّة/المناطِقِيَّة الضيِّقة، وأصبحت قضية (وطن) يتلاشى بمن فيه، مما يُحتِّم عليكم الانحياز للشعب والعمل لإنقاذ ما تَبَقَّى من البلاد والعِباد قبل فوات الأوان.. وللحديث بقيَّة.