الصمت هو الاستكانة والقبول بالأمر الواقع على علته.
الإنسان الحر هو الذي يفكر وهو الذي يعبر عن موقفه ، والبشر الأحرار هم الأعداء الطبيعيون للاستبداد ، فالحرية تبدأ في العقل ومن العقل ، وباقي التصرفات البشرية هي تعبير عن ذلك ، سواء أكان ذلك التعبير لفظياً أم عملياً. أنظمة الاستبداد تريد شعوباً خانعة خائفة مُحيَّدةً وصامتة، لا تستعمل العقل أو اللسان في السياسة، بل تتبنى نهج الصمت والاستسلام لما هو مفروض عليها من الحاكم .
في الصمت السلامة كلمات بائسة تعكس واقع ثلاثة أرباع السودانيين الصامتين الخائفين المرعوبين المتناسين للتأثير السلبي لذلك الصمت على مستقبلهم ومستقبل وطنهم .
النظام السياسي في السودان يشجع على الصمت سواء علناً ومباشرة أو بأسلوب ملتوٍ وغير مباشر ، الرأي الآخر هو في العادة أمرٌ مرفوضٌ أو مكروهٌ ، مما يعني أن الصمت هو فضيلة محمودة بالنسبة لنظام الخرطوم وأن من يلتزم به سوف ينجو بجلده في أسوء الحالات أو سيكافئ ويصنف بأنه من أصدقاء النظام ، أما من لا يلتزم بالصمت فإنه يحظى بتسميات مختلفة طبقاً لهذا النظام ، فهو خائن عميل والي أخره وهو لقب اخترعته الأجهزة الأمنية لتحقير الرأي الآخر ، ويكون عقاب عدم الصمت الموت أو الإغتيال، أو السجن وفي حالات آخرى يكون العقاب من خلال الإقصاء والمحاربة في الرزق والوظيفة .
يقودنا هذا الحديث إلى ضرورة استكشاف طبيعة الثقافة السياسية التي تحكم الآن تفكير الشعب ومدى قدرة هذه الثقافة على التخلص من رواسب عهود الاستبداد والطغيان، ومدى مناسبتها وفعاليتها لأن تكون إحدى الوسائل المتاحة أمام الشعب لإحداث التغيير المنشود خصوصاً وأن تلك الثقافة هي نتاج لسبعة وعشرون عام من الخنوع والاستسلام للكيزان.
السياسة في عهد الكيزان هي حكر على الطاغية وعلى من يُسمح لهم بالتعاطي في الأمور السياسية. وأن الطاغية في السودان ذات خلفية عنصرية عسكرية اسلامية وهذه الخلفية تمتاز بكل انواع الظلم والفساد والاستبداد .
ولكن يبقى السؤال الكبير لماذا لا يستجيب المواطنون لذلك الاستبداد بمقاومة تعبر عن حرية الرأي والإرادة بدلاً عن الاستسلام له ولنتائجه ؟
إن أهم انجاز نظام البطش والطغيان ، والذي ساد لأكثر من سبعة وعشرون عام ، هو قتل روح الكرامة والعزة التي سادت في عهود النضال ضد الاستعمار ، واستبدالها بمواقف التذلل والتزلف للحاكم ، إما بهدف السلامة الجسدية أو لغايات الوصول إلى مواقع السلطة والمسؤولية ، وقد ساهمت نزعات الاستبداد والإجرام لدى أولئك في تكريس المزيد من التذلل والتزلف في محاولات بائسة ومستمرة للاحتفاظ برضى الحاكم وبالتالي بمواقع المسؤولية ، أو اتقاءً لشر الطاغية من خلال تشجيع وتعزيز السلوك السلبي تجاه ما يجري من أحداث. ومع نجاح هذا النظام في البقاء في السلطة لسبعة وعشرون عام .
لم يكتفِ هذا النظام بذلك، بل سعي إلى تخريب منظومة القيم الأخلاقية للمسؤولين وشراء ذممهم من خلال ادخالهم في منظومة الفساد المالي والأخلاقي بعد أن تم إفسادهم سياسياً. الفساد المالي والأخلاقي هو جزء من عملية الإفساد التي برع فيها هذا النظام . فالانحلال السياسي إذا ما رافقه انحلال مادي وأخلاقي يُحَوَّل المسؤولين والمتنفذين إلى أناس مُرْتَهَنين للسلطة ويصبح التعبير عن هويتهم السياسية والوظيفية محصوراً من خلال هذا النظام حتي يخدمونه ولا يصبح لهم بالتالي هوية مستقلة تؤهلهم للعب أي دور آخر . وهكذا يصبح الولاء المطلق والصمت هما وسيلة التعبير الوحيدة لأولئك المسؤولين إلا إذا كان النطق في سياق تمجيد الطاغية أو آرائه أو تمثيل ارادته ورغباته في هذا المجال أو ذاك .
لقد ساهم هذا الوضع المؤسف في خلق طبقة جديدة من أولئك المسؤولين لها الصدارة في المجتمع مما جعلها القدوة للكثيرين كونها الطبقة صاحبة النفوذ والجاه والمال . وبالنتيجة سادت القيم التي تمثلها هذه الطبقة الجديدة ومنها الاستسلام لإرادة الطاغية الفساد واستباحة المال العام. فاستباحة المال العام في نظر أولئك المسؤولين هي حق لهم مقابل ولائهم اللا مشروط للطاغية ، لا يمانع في ذلك من منطلق أن الأرض وما عليها هي ملك له، وأنه يحق للتابعين له ، سرقة ما يُسمَح لهم بسرقته. وما دام أولئك التابعين مستسلمين لإرادته فإنهم يستطيعون الاحتفاظ بما يسرقون. فالسرقة ممكنة بإرادة الطاغية ، والاحتفاظ بالمال المسروق ممكن بإرادة الطاغية والثمن هو الاستسلام الكامل والمستمر لإرادة الطاغية .
إن إيضاح مدى ترابط الدكتاتورية والاستبداد والتعسف بالفساد السياسي والمالي والأخلاقي هي الخطوة الأولى نحو إعادة البناء. فإعادة بناء منظومة القيم والأخلاق العامة واحترام نظافة اليد كأساس لتولي المسؤولية أصبحت قضية مُلِحَة تتطلب جهداً عاماً يعادل في أهميته جهد التخلص من هذا النظام المستبد الفاسد .
الطيب محمد جاده