محمد أبكر
️
إن الشعر يُعد بالضرورة واحدٍ من أهم تجليات التفوق الإبداع الأدبي بين الأدمغة “العاقلة” وأحد أشكال التعبير الجمالي ومظاهر الهوية اللغوية والثقافية للإنسان ككلية عاقلة.وهما- الهوية اللغوية والثقافية-يعتبران أغنى وأجمل ما تمتلكه الإنسانية;فمنذ الأزل تذوقت كل المجتمعات البشرية بمختلف ثقافاتها وتباين حضاراتها وتغاير توايخها الشعر;فإذ أنه يخاطب الجذر الوجودي لميثولوجيا”الجمال الخالص” ولكـمْ يلامس مكنونات الإنسان ويداعب القيم الإنسانية التي تتقاسمها مجموع أفراد و جماعات هذا النوع من الخلق الحيواني المميز.
فالشعر حيناً لكمْ تحّول كلمات بحوره اللامحدودة وفضاءاته الحُرة وألفاظ ترميزاته اللانهائية إلى جواهر ثمينة الدلالة ودرر ذوقية فنية بلا أثمان والتي تصب في محيطات الإحاسيس بأنماطها المغايرة وأنواعها المتميزة وصورها المختلفة والإشعار بالإكتمال الوجودي وخلق أرصفة التفاهم والتحاور “الشعوري والصمتي واللفظي”،وحيناً آخر تحمل عبارته الزجلة معاني الحُب و الجمال والحوار والسلام،وإتجاهاً ثالثاً يمكن للشعر أن يلعب دور زناد الحرب والمقاومة والتخاصم;ولذا فهو هكذا في كنهه يكمن سلاحــاً ذو حدٍّ سلمي وآخر حربي،إيجابي وسلبي،شري وخيري.
وبالتالي نستقرأ كيف بمدى مقدورة الأدب وطاقة الشعر فتح نوافذاً ساحرةَ الرؤى وآفاقاً شافقة المسارات وتفاصيلاً متشبعة المدارات لرؤية وإداك التنوع الإبداعي الإنساني المدهش والتمايز الذوقي الجميل والفني المذهل.
ولهكذا معانٍ وأكثر، فقد تم تخصيص يوم(21 مارس/آذار)من كل عام يوماً خاصاً للإحتفال بجمال القوافي والإحتفاء بالنثر المنظم”الشعر” والإبحار في أعماق أبداعاته الزاخرة جمالاً.
وتعود فكرته تاريخياً الي الرعاية المثلى والإهتمام الكبير والسعي الجهيد الذي توليهِ وتقوم به وما تزال منظمة الــ”unesco” تجاه الأدب والعلم والثقافة والتراث والفنون.ولأجل تبجيل ومنح القداسة للشعر وهو ما في حقيقته كذلك،ولذلك اليوم الأدبي الشعري الساحر نهضت هذه المنظمة إلقاءاً لجلالته في مؤتمرها العام خلال دورته الثلاثين المنعقدة في باريس عام 1999م ولأول مرة بتحديد يوم (21 مارس/آذار)يوماً عالمياً للشعر. وقد أكدت هذه المنظمة الأممية أن ذلك اليوم الشعري الكوني إنما يهدف الي الإعتراق بالإختلاف الخالص في التعاطي مع الحوار السلمي والمثافقة وتذوق الفنون و إرساء جمالية قبول الآخر ودعم التنوع اللغوي والثقافي والإجتماعي،وإحترام الإبداع بمختلف أنماطه ومجالاته وأشكاله ومنح العقول والأفواه واللغات المهددة بالإندثار فرص أكثر للحضور و البقاء و حق التعبير الحر الأزلي أبدياً عن الكوامن القابعة والتجليات الظاهرة والمضمرة بلا إكراهٍ أو قسرٍ بلا خنوعٍ وضعف.
وبالطبع يختلف الشعراء على مستوى العالم في تعاطيهم وإحتفائهم بيومهم المخصوص للإبداعهم الإدبي وكيفية إستقبالقهم له;فثمة من يخط قصيدةٍ جديدة وهناك من يدشن أو ينشر له ديوان جديد فيه،فضلاً عن تنظيم ندوات شعرية بإهتمامٍ كبير وأقامة أمسيات أدبية ثقافية بالغة الشغف والحضور والتألق.
ويُعتبر اليوم العالمي للشعر فرصةٍ لرد الوفاء والإخلاص للكلام المقفوع والإحتفاء بمبدعي هذا الفضاء الحر في التناول والطرح والإنتاج،وتقدير قوافيهم وكن الإحترام لهم وإلي روائع قصائدهم للإشباع الذوقي والجمالي وذلك من خلال إحياء المنابر الأدبية تألقاً بالجمال وإبراز التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية وليالي السهر مع جمالية العبارة والكلمة الجميلة نثراً منظماً.
ولَمَا كان الأمر كذلك للكل،إلا أنهُ في” السودان”يبدو ذو رمادية مغززة وتجاهل بصورةٍ خطيرة واللاإلمام واللامبالاة بشكل مخيف وبالطبع كل ذلك نتاج منهجية نظام معين محبوك منذ شأوًٍّ من الزمن ورغبة عقلية بعينها في تعاطيها مع الأدب بالعموم;فالنظام التعليمي السوداني لكــمْ يخاصم الأدب ويعده “لغط إنفعالي وفسق لغوي”ويعتبر الشعر مجرد شيء لا طائل من ورائه ولا جدوى من أعتباره واحترامه;فذلك النظام لكــمْ ينعدم فيه التربية الأدبية ويفتقر الي الرؤية الجمالية ويعوزه التذوق الفني الشاعري وغيره،ولذلك هكذا نجد أن حتى من حظى بفرصةٍ وسار شاعراً/شاعرةً فقد جاءته متأخرةً جداً أو زاره ذاك الإلهام أو تلك الرؤية الصاخبة الجمال والتميز من كفاح إرادته الذاتية الحرة ثم أقصلها بالتكرار كتابةً وإطلاعاً دون أن يكون للمحيط أي هامش دورٍ في هذا الإنتاج الإبداعي وخيارات شحذه وتهذبيه.
وبالتالي فمن الطبيعي جداً وبالجزم أن يتشكل الواقع الإبداعي الأدبي وسيما الشعر في السودان بهذه الصورة الباهتة والزرع القاحل والنظرة القاصرة حيال الخلق الشعري الجمالي وجهده والإهتمام الصفري بالذائقة الفنية وأن تصبح التربية الأدبية في الدرك الأسفل عن أخذها محمل الجد ومكانة القداسة والإحتفاء والشغف بها وقصلها والإهتمام بشأنها العظيم.
ورغم قديماً قالت العرب:” إن الشعر هو العرب” والراهن الإبداعي الأدبي الآن عالمياً و إقليمياً يؤكد أن السيادة عصرياً للرواية، إلا أن الشعر لم يغب البتة يوماً لأنه اليقين الخالص والإحساس الجذري الأصيل والتعبير الحر ووهج الروح الأزلي وسرمدياً.ولكن مكمن النقص هو غياب سوق الشعر كما يعبر واسيني الأعرج وبالإضافة للتغولات التأثيرية للعولمة تجاه فضاءات الجمال الروحي للأدب بمبانيها التي تغازل السماء.
وعن واقع الأدب وراهن القصيدة في السودان يقول الشاعر والناقد والصحفي محمد نجيب محمد:” لم يسلم راهنها من تحولات العصر و المغامرات الشعرية خارج شروط الكتابة وإرثها وأصبحت ديدن المتشاعرين…ولا تزال مناهج التربية وأنظمة التعليم أسيرة ما سلف لسوء الخلف”.وبرغم اصابت محمد لجزء الحقيقة، إلا أنه إغتال حقيقة أن الإبداع الأدبي فضاءٌ حر مطلقاً بالضرورة وباليقين وأن التعبير حق أصيل دون أدني مستوى لقيدٍ أو شرطٍ أو إكراه.
أما نائبة مدير بيت الشعر الخرطوم الشاعرة والإعلامية إبتهال محمد مصطفى تقول:”إن الأدب والشعر بالخصوص لم يأخذان نصيبهما الحقيقي من الإهتمام والرعاية والإحتفاء وينحسران في أفقٍ ضيقة جداً هنا في السودان”.
وهكذا فالأمر لا يخرج عن دائرة التخطيط المنهجي المنظم عبر النظام التربوي الرسمي تسطيح العقول عن التفكر والمعرفة ومسخ الأفئدة عن الفن والأدب; علماً أن للإبداع الأدبي قوة جبارة لا تضاهيها قوة آخرى مغايرة وللكلمة مقدرة لا تُقهر وللشعر نوافذ مشرقة وآفاق لامحدودة تفوق التصور المألوف وتشذ عن قواعد المعلوم وتلحد بالأطر الثابتة والنظرات الضيقة والإجتهادات المقيدة، في تحرير الألباب من الرواسب الأنانية وسوالف الأشياء المتحجرة وتحرير هكذا الأذهان من الركون للثوابت والخضوع للأنساق الثقافية الصلبة والخنوع للأبنية الإجتماعية المتخلفة والإنقياد لبرابرة الأنظمة السياسية وهكذا دواليك.
ولكن يبقي الأدب هو ذلك المحيط اللانهائي عن تفرد الذهن وإبداع القلب، وقد يزل أزلياً تلك الجنة الأبدية النشوء والخلق الفكري الخالص وكذلك هو ذلك البستان المزدهر على مدى الدهر و ذاك الربيع الدائم المزهر في كل الفصول وهو يحتفي بنا على مدار السلم،الحرب الأمل واليأس،الفرح والحزن،اللذة والألم،الحياة والموت، الوحود والعدم…الخ.
وهكذا يبدو أن الإحتفاء بالشعر ليومٍ واحد ولمدى سموه وقداسته وجماليته الخالصة ووجوديته الإنساينة وكونية الفكرية لا يكفيه البتة،عوضاً عن أنه ذلك النهر السلسال والبحر الزاخر اللذان يرويان العطش الروحي للإنسان حيال الجمال والتذوق الفني للوجود والحياة وفهم الأشياء والأنا والآخر على دوام البقاء البشري.