بعد انفراج كربة العزلة الدولية ورفع الحظر عن المعاملات المالية والتحويلات البنكية، على وزارة التجارة أن تنطلق نحو آفاق اقتصادية جديدة مستفيدة من هذا الانفتاح، بترقية القطاع الخاص وتشجيع رجال الأعمال الشباب بفتح فرص الاستثمار لتصدير منتجاتنا من الفاكهة والخضروات، التي يذهب غالب انتاجنا الموسمي منها للمزابل للأسف دون حس أو خبر يسمع من مسؤولي هذه الوزارة المختصة، كميات مهولة من المانجو بابي جبيهة ومثلها من البطيخ بمدينة كتم بشمال دارفور يُلقى بها في مكبات النفاياتيومياً، وصغار التجار الواطئين للجمر يشكون غلاء سعر كرتونة التعبئة الذي يفوق قيمة الفاكهة التي بداخلها، هذا فضلاً عن التكلفة الباهظة للترحيل كنتيجة طبيعية لندرة المحروقات، ما جعل سعر دستة المانجو بالخرطوم يتجاوز ما يعادل الثمانية عشر ضعف من سعرها بابي جبيهة، وسعر البطيخة الواحدة بعاصمة البلاد يساوي خمسة عشر ضعفاً من سعر شرائها بمدينة كتم، ومزارعو الطماطم بدلتا طوكر يشكون مر الشكوى ويتحسرون على الفائض الضخم من محصول هذا المنتج المهم ومن تعفنه لعدم مقدرتهم على تحمل نفقات النقل، وللرسوم والجبايات المبالغ في تقييمها والمفروضة عليهم عسفاً على امتداد محطات التفتيش بالطريق الموصل لكرش الفيل.
المانجو والقريب فروت يحتضر ويموت أمام أعين المزارعين بسوق مدينة طور بجبل مرة، لذات الأسباب المذكورة آنفاً، والقناطير المقنطرة من محصول القمح المكوّمة بولاية نهر النيل مهددة بالتلف، والمزارعون هناك يعانون من اضرار هجمات الفئران وكثافة الحشرات الآكلة لقمحهم وهم واقفين مكتوفي الأيدي، يا سعادة وزير التجارة والصناعة أين صوامع الغلال الحافظة لثروتنا القومية من القمح والذرة؟، وأين مصانع تعليب الفاكهة ذات التكلفة الزهيدة والثمن القليل؟، وانه لأمر هيّن لو اردتم وارادت الرأسمالية الوطنية شراء هذه المصانع الصغيرة من الخارج، والأكثر سهولة هو صب حجر أساسها بمناطق الانتاج في الداخل، هل نما لعلمكم كم بلغ سعر علبة الصلصة؟ وما ادراك ما الصلصة و(الكاتشب)!!، انهانفس هذه الطماطم المتعفنة والمجدوعة على قمم جبال (الكوش)المكدّسة بالقطط والفئران، والمتروكة للهوام والدواب التائهة بالطرقاتتلتهم منها ما تشاء وتترك ما تبقى للذباب، إن الثروات المهدرة نتيجة لتقاعس الوزارات المختصة – ولا نقول الحكومة – لأن الوصف هنا فضفاض لذلك علينا تسمية الأشياء بمسمياتها، كما علينا أن نبعدقدر المستطاع عن التعميم المخل حتى نُحمّل كل جهة مسؤولياتهاكاملة، فان على وزير التجارة والصناعة يقع عبء حلحلة هذه المشكلات ولا أحد آخر سواه.
الغريب في أمر بلادنا أن رئيس وزراءها خبير أممي جمع بين علوم الهندسة وفنون الزراعة، ووزير تجارتها رجل اعمال ضليع وتاجر خبير علم ساحات الأسواق المحلية والإقليمية، كيف تسنى لهما اهمال هذه الكميات المهولة من المنتجات الوفيرة للخضروات والفواكه المهدورة هباءَ منثورا، لا لسبب وجيه سوى لأنهما مقصّران في اتمام عملية تسهيل وتذليل صعاب وصول هذا المنتج الى المستهلك المحلي والاقليمي، فاسواق بلدان الخليج مازالت تبكي وتنتحب للحصول على اللحوم والفواكه السودانية، لمعرفة القائمين على أمر تطويرها بحقيقة نمو أشجار بلادنا بسقيا مياه الامطار الطبيعية وطمي النيل، ولعلمهم اليقيني بان لا اسمدة كيماوية مسرطنة ولا سموم تغشى جذورها، لكن قل لي بربك كيف لمسؤول حكومي كسول أن يحرّك ساكناً ويخوض ليطهر ويغسل قدميه بالمياه الصافية لجداول البرسيم والبصل، نحن مازلنا أسرىلشخصية الوزير الأفندي المكتفي بربطة العنق الأنيقة والجالس على اريكة المكتب الوثير، مثل هذه القوالب القديمة من شاكلة هؤلاء الوزراء قد تجاوزها الزمن، اولئك الذين يفرض عليهم واجبهم العملي ضرورة الاحتكاك المباشر مع المنتج سواء كان مزارعاً او صانعاً، فلننظر لمن حولنا من الشعوب والبلدان الحديثة النهوض ولنعمل على شاكلتهم، اذا لم نخلع الجلباب القديم المزركش بالوان البيروقراطية المميتة لن نستطيع أن نقفز نحو الضوء لنحقق العبور.
الأقتصاد لا ينمو ولا يزدهر الا بتشجيع وتحفيز وضبط القطاع الخاص، وتنظيف هياكل هذا القطاع الحيوي من رواسب مخالفات النظام البائد، ولن يحدث ذلك الا بنفض الغبار عن اضابير دواليب المسجل التجاري، واعادة تقييم جميع الشركات المسجلة والغاء تراخيص السجلات الوهمية التي اصدرها البائدون للفاسدين والمفسدين في الأرض، وفتح المجال للتنافس الحر لرجال الاعمال الشباب الطامحين لخدمة بلادهم بلا جشع ولا دوافع ذاتية رخيصة، وتفعيل دور الحجر الصحي والبيطري والزراعي في المطارات والمنافذ البحرية والبرية والنهرية، ومحاربة واستئصال داء احتكار السلع والخدمات وعدم حصر المصالح والمنافع وتدويرها في اطار الدوائر الشخصية وبين العلاقات الطفيلية الضيقة، فأسواق البلاد المنتشرة عبر اكثر من عشر ولايات لا يمكن ادارتها بعقلية السوقين –العربي والأفرنجي، السودان هذا القطر الأفريقي الواعد بحاجة ماسّة لرجال دولة وقادة وطنيين بحق وحقيقة لا (أفندية) غاية جهدهم هو ملص البدل والقمصان، فالرؤية الثاقبة والقائد الملهم والمدير الناجح هو ما تحتاجه هذه المرحلة المؤقتة بالحاح شديد.
اسماعيل عبد الله
16 ابريل 2021