دفاتر البان آف (11)
ترجمة: أبكر آدم إسماعيل
في الخامس من أكتوبر عام 1972، حصل أميلكار كابرال على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة لينكولن بولاية بنسلفانيا. كان هذا خطابه في تلك المناسبة.
المقدمة:
لقد أصبح نضال الشعب من أجل التحرر الوطني والاستقلال من الحكم الإمبريالي قوة دافعة لتقدم البشرية، ولا شك في أنه يشكل إحدى السمات الأساسية للتاريخ المعاصر. التحليل الموضوعي للإمبريالية حتى الآن كونها حقيقة أو ظاهرة تاريخية “طبيعية،” بل في الواقع “ضرورية” في سياق نوع التطور السياسي/الاقتصادي لجزء هام من “الإنسانية،” تكشف عن أن الحكم الإمبريالي، بكل ما فيه من قطار من البؤس والنهب والجريمة وتدمير القيم الإنسانية والثقافية، لم يكن مجرد حقيقة سلبية. إن التراكم الهائل لرأس المال في نصف دستة من البلدان في نصف الكرة الشمالي الذي كان نتيجة للقرصنة ومصادرة ممتلكات الشعوب الأخرى والاستغلال الوحشي لعمل هذه الشعوب لن يؤدي فقط إلى احتكار المستعمرات، ولكن لتقسيم العالم والمزيد من الحكم الإمبريالي.
في البلدان الغنية، يسعى راس المال الإمبريالي إلى تكبير نفسه باستمرار، لقد زاد القدرة الإبداعية للإنسان وأحدث التحول الكلي في وسائل الإنتاج بفضل التقدم السريع في العلوم والتقنيات وتقنية (F3 = Fair Factor Force) قوة العمل العادلة. هذا أكد على تجميع العمل وأدى إلى صعود مناطق ضخمة من السكان. في البلدان المستعمرة حيث قام الاستعمار على وجه العموم بإعاقة العملية التاريخية لتطور الشعوب الخاضعة أو القضاء عليها بشكل جذري أو تدريجي، فرض رأس المال الإمبريالي أنواعًا جديدة من العلاقات على مجتمع السكان الأصليين.
أصبح هيكله أكثر تعقيدا، وقد أثار وهزّ بعنف وسمم أو حل التناقضات والصراعات الاجتماعية. لقد أدخل مع المال وتطور الأسواق الداخلية والخارجية، عناصر جديدة في الاقتصاد، أدت إلى ولادة أمم جديدة من مجموعات بشرية أو من الشعوب التي كانت في مراحل مختلفة من التطور التاريخي. ليس دفاعا عن الهيمنة الإمبريالية إدراك أنها أعطت أمما جديدة للعالم وقلصت أبعاده وكشفت عن مراحل جديدة من التطور في المجتمعات البشرية وعلى الرغم من أو بسبب التحيز والتمييز والجرائم التي ارتكبتها، فقد ساهمت في معرفة أعمق بالإنسانية ككل متحرك، كوحدة في التنوع المعقد لخصائص تطورها.
فالحكم الإمبريالي في العديد من القارات فضّل التأكيد التدريجي (المفاجئ في بعض الأحيان) المتعدد الأطراف، ليس فقط بين الأفراد المختلفين ولكن بين المجتمعات المختلفة. لنفيها أو أثباتها، تطلبت ممارسة الحكم الإمبريالي (وما زالت تتطلب) لحد ما معرفة دقيقة بالمجتمع الذي تحكمه والواقع التاريخي (الاقتصادي والاجتماعي والثقافي) الذي تتواجد في وسطه.
هذه المعرفة هي بالضرورة مطروحة من حيث المقارنة مع المسيطر ومع واقعه التاريخي الخاص. مثل هذه المعرفة هي ضرورة حيوية في ممارسة الحكم الإمبريالي الذي يؤدي إلى المواجهة، ومعظمها عنيف، بين هويتين مختلفتين تمامًا في عناصرهما التاريخية ومتناقضين في وظائفهما المختلفة.
ساهم البحث عن مثل هذه المعرفة في إثراء عام للمعرفة الإنسانية والاجتماعية على الرغم من حقيقة أنه كان أحادي الجانب وذاتي وظالم في كثير من الأحيان.
الهوية والكرامة:
في الواقع، لم يُبدِ الإنسان أبدًا اهتمامًا كبيرًا بمعرفة الناس الآخرين والمجتمعات الأخرى مثلما حدث في هذا القرن من الهيمنة الإمبريالية. وقد تم بناء كتلة غير مسبوقة من المعلومات، من الفرضيات والنظريات، لا سيما في مجالات التاريخ، والإثنولوجيا، والإثنوغرافيا، وعلم الاجتماع، والثقافة فيما يتعلق بالناس أو الجماعات التي وُضِعت تحت السيطرة الإمبريالية.
أصبحت مفاهيم العرق، الطبقة العرقية (caste)، الإثنية، القبيلة، الأمة، الثقافة، الهوية، الكرامة، والكثير غيرها، موضع اهتمام متزايد من أولئك الذين يدرسون الأفراد والمجتمعات التي وصفت بأنها “بدائية” أو “نامية.” في الآونة الأخيرة، مع ظهور حركات التحرر، ظهرت الحاجة إلى تحليل طبيعة هذه المجتمعات في ضوء النضال الذي تخوضه، وتحديد العوامل التي تُطلق أو تُوقف هذا النضال.
يتفق الباحثون بشكل عام على أن الثقافة في هذا السياق تُظهر أهمية خاصة. لذا يمكن للمرء أن يجادل بأن أي محاولة لتوضيح الدور الحقيقي للثقافة في تطوير حركة التحرر (ما قبل الاستقلال) يمكن أن تقدم مساهمة مفيدة للنضال الواسع للشعب ضد الهيمنة الإمبريالية. في هذه المحاضرة القصيرة، نضع في الاعتبار بشكل خاص قضايا “العودة إلى المصدر،” والهوية والكرامة في سياق حركة التحرر الوطني.
الجزء الأول:
لقد أدت حقيقة اتسام حركات الاستقلال بشكل عام، حتى في مراحلها المبكرة، بتصاعد النشاط الثقافي، إلى رأي مؤداه أن مثل هذه الحركات مسبوقة بـ”نهضة ثقافية” للشعب الخاضع. يذهب البعض إلى حد الإيحاء بأن الثقافة هي إحدى وسائل تجميع المجموعة، وحتى سلاحا في النضال من أجل الاستقلال.
من تجربة نضالنا، وقد يقول المرء أنه في أفريقيا بأكملها، نعتبر أن هناك فكرة محدودة للغاية، بل وحتى فكرة خاطئة عن الدور الحيوي للثقافة في تطوير حركة التحرير. في رأينا، ينشأ هذا من تعميم زائف لظاهرة حقيقية ولكنها محدودة، وهي على مستوى معين في البنية الرأسية للمجتمعات المستعمَرة – على مستوى النخبة أو الدياسبورا الاستعمارية. إن هذا التعميم لا يدرك أو يتجاهل العنصر الحيوي في المشكلة: الطابع غير القابل للتدمير للمقاومة الثقافية لجماهير الشعب عندما تواجه الهيمنة الأجنبية.
الهيمنة الإمبريالية بالتأكيد تطالب بالقمع الثقافي وتحاول إما بشكل مباشر أو غير مباشر للتخلص من أهم عناصر ثقافة الشعب الخاضع لسيطرتها.
لكن “الناس قادرون على خلق وتطوير حركة التحرير فقط لأنهم يحافظون على ثقافتهم على قيد الحياة رغم القمع المستمر والمنظم لحياتهم الثقافية ولأنهم يستمرون في مقاومة ثقافياً حتى عندما يتم تدمير مقاومتهم السياسية العسكرية. والمقاومة الثقافية هي التي يمكن أن تتخذ في لحظة معينة أشكالاً جديدة، أي سياسية واقتصادية ومسلحة لمحاربة الهيمنة الأجنبية.
مع بعض الاستثناءات، لم تكن فترة الاستعمار طويلة بما فيه الكفاية، على الأقل في أفريقيا، بحيث يكون أن هناك درجة كبيرة من الدمار أو الضرر في أهم جوانب ثقافة وتقاليد الشعوب الخاضعة. إن التجربة الاستعمارية للهيمنة الإمبريالية في أفريقيا (الإبادة الجماعية والفصل العنصري والأبارتايد مستثنى) تظهر أن الحل المسمى بالإيجابي الوحيد الذي وضعته القوة الاستعمارية لمنع الشعوب الخاضعة عن المقاومة الثقافية للشعب هو “الاستيعاب (assimilation).”
لكن الفشل الكامل لسياسة “الاستيعاب التدريجي” للسكان الأصليين هو الدليل الحي على بطلان هذه النظرية وعلى قدرة الشعوب الخاضعة على المقاومة. وفيما يخص المستعمرات البرتغالية، كان الحد الأقصى لعدد الأشخاص الذين تم استيعابهم 0.3 ٪ من مجموع السكان (في غينيا) وكان هذا بعد 500 سنة من التأثير الحضاري ونصف قرن من “السلام الاستعماري.”
ومن ناحية أخرى، حتى في المستوطنات التي تكون فيها الغالبية الساحقة من السكان من الشعوب الأصلية، فإن المنطقة التي تحتلها القوة الاستعمارية وخاصة منطقة النفوذ الثقافي تقتصر عادة على الأشرطة الساحلية وبعض الأجزاء المحدودة في المناطق الداخلية. خارج حدود العاصمة والمراكز الحضرية الأخرى، فإن تأثير ثقافة السلطة الاستعمارية يكاد يكون معدوم. إنه يترك بصماته على قمة الهرم الاجتماعي الاستعماري – الذي خلق الاستعمار ذاته – ولا سيما أنه يؤثر على ما يمكن أن نسميه “الطبقة الوسطى الدنيا الأصلية” وعدد قليل جدا من العمال في المناطق الحضرية.
وهكذا يمكن أن نرى أن “الجماهير في المناطق الريفية، مثل قطاع كبير من سكان الحضر، قل، في مدينة أيو في غينيا، أكثر من 99٪ من السكان الأصليين لم تلمسهم أو تمسهم تقريبا ثقافة السلطة الاستعمارية. هذه الحالة هي جزئياً نتيجة الطابع الظلامي بالضرورة للهيمنة الإمبريالية التي في الوقت الذي تحتقر فيه وتقمع ثقافة السكان الأصليين فإنها لا تهتم بترقية ثقافة الجماهير التي تجمعهم للعمل الجبري وتجعل منهم الهدف الرئيسي للاستغلال.
وهو أيضا نتيجة لفعالية المقاومة الثقافية للناس، الذين عندما يتعرضون للهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي يجدون أن ثقافتهم الخاصة هي بمثابة حصن للحفاظ على هويتهم – حيث أن مجتمع السكان الأصليين له هيكل رأسي، هذا الدفاع من تراثهم الثقافي يتم تعزيزه أكثر من قبل مصلحة السلطة الاستعمارية في حماية ودعم التأثير الثقافي للطبقات الحاكمة، وحلفائهم.
توحي المحاججة أعلاه بأنه بشكل عام لا يوجد أي تدمير أو ضرر ملحوظ للثقافة أو التقاليد، لا للجماهير في البلد الخاضع ولا للطبقات السائدة من السكان الأصليين (القادة التقليديون ، العائلات النبيلة، السلطات الدينية). بعد أن تم قمعها واضطهادها وإذلالها وخداعها من قبل مجموعات اجتماعية معينة ساومت مع القوة الأجنبية، لجأت الثقافة إلى القرى، إلى الغابات، ووإلى روح ضحايا الهيمنة.
الثقافة التي تنجو من كل هذه التحديات ومن خلال النضال من أجل التحرر تزهر مرة أخرى. وبالتالي فإن مسألة “العودة إلى المصدر” أو “النهضة الثقافية” لا تنشأ ولا يمكن أن تنشأ لدى جماهير الشعب، لأنهم هم مستودع الثقافة وفي نفس الوقت هم فقط القطاع الاجتماعي الذي يمكنه الحفاظ عليها وبناءها وصنع التاريخ.
وبالتالي، في أفريقيا على الأقل، للحصول على فكرة حقيقية عن الدور الحقيقي الذي تلعبه الثقافة في تطوير حركة التحرر، يجب التمييز بين وضع الجماهير، التي حافظت على ثقافتها، وبين المجموعات الاجتماعية التي وقد تم استيعابها كلياً أو جزئياً، الذين تم عزلهم أو استلابهم ثقافياً، على الرغم من أن النخبة الاستعمارية الأصلية التي ظهرت خلال عملية الاستعمار لا تزال تمرر بعض عناصر الثقافة الأصلية إلا أنها تعيش ماديًا وروحيًا وفقًا للثقافة الاستعمارية الأجنبية.
إنهم يسعون إلى تعريف أنفسهم بشكل متزايد وفق هذه الثقافة سواء في سلوكياتهم الاجتماعية أو حتى في تقديرهم لقيمها. في غضون جيلين أو ثلاثة أجيال من الاستعمار، تنشأ طبقة اجتماعية تتكون من موظفين حكوميين، وأشخاص يعملون في مختلف فروع الاقتصاد، لا سيما التجارة، والمهنيون، وعدد قليل من ملاك الأراضي في المناطق الحضرية والزراعية.
هذه البرجوازية الصغيرة المحلية التي خرجت من الهيمنة الأجنبية والتي لا غنى عنها بالنسبة لنظام الاستغلال الاستعماري، تقف في منتصف الطريق بين جماهير الطبقة العاملة في المدينة والريف والعدد الصغير من الممثلين المحليين للطبقة الحاكمة الأجنبية. على الرغم من أنهم قد يكون لديهم روابط قوية مع الجماهير ومع القادة التقليديين، بشكل عام، فإنهم يتطلعون إلى أسلوب حياة مماثل إن لم يكن متطابقًا مع أسلوب حياة الأقلية الأجنبية.
وفي الوقت نفسه، وفي الوقت الذي يقيدون فيه تعاملاتهم مع الجماهير، فإنهم يحاولون “الاندماج في هذه الأقلية على حساب الروابط الأسرية أو العرقية، وبتكلفة شخصية كبيرة دائمًا. ولكن على الرغم من الاستثناءات الظاهرة، فإنهم لا ينجحون في تجاوز الحواجز التي يُلقي بها النظام.
إنهم سجناء للتناقض الثقافي والاجتماعي لحياتهم. لا يمكنهم الهروب من دورهم كطبقة هامشية، أو طبقة “مهمشة.” إن الطابع الهامشي أو “الهامشية” لهذه الطبقة سواء في بلدهم أو في الدياسبورا المقامة في أراضي القوة الاستعمارية هي المسؤولة عن الصراعات الاجتماعية الثقافية للنخبة الاستعمارية أو البورجوازية الصغيرة المحلية، التي جرت كثيراً وفقا لظروفهم المادية ومستوى التثاقف ولكن دائما على المستوى الفردي، وليس الجماعي على الإطلاق.
إنه في إطار “هذه الدراما اليومية، ضد الواجهة الخلفية للمواجهات العنيفة عادة بين جماهير الشعب والطبقة الاستعمارية الحاكمة، فإن شعورا بالمرارة أو، عقدة الإحباط يولد ويتطور بين البرجوازية الصغيرة المحلية. في الوقت نفسه، تصبح أكثر وعياً بالحاجة الملحة للتشكيك في وضعها الهامشي، ولإعادة اكتشاف الهوية.
وهكذا، فإنهم يتحولون إلى الناس من حولهم، الناس في الطرف الآخر من الصراع الاجتماعي/الثقافي، الجماهير الأصلية. لهذا السبب تنشأ مشكلة “العودة إلى المصدر” التي يبدو أنها أكثر إلحاحًا كلما ازدادت عزلة البرجوازية الصغيرة (أو النخب المحلية) ومشاعر الإحباط الشديدة الخاصة بها كما هو الحال في الشتات الأفريقي الذي يعيش في حواضر استعمارية أو عنصرية. لا غرابة في أن النظريات أو “الحركات” مثل “البان آفريكانيزم” أو “الزنوجة” (وهما تعبيران ذوي صلة ينبعان أساسًا من افتراض أن كل الأفارقة السود لهم هوية ثقافية) تم اجتراحها خارج إفريقيا السوداء.
في الآونة الأخيرة، فإن مطالبة السود الأمريكيين بالهوية الأفريقية دليل آخر، ربما كان يائساً، على الحاجة إلى “العودة إلى المصدر” على الرغم من أنه متأثر بوضوح بموقف جديد: حقيقة أن الغالبية العظمى من الشعوب الأفريقية أصبحت مستقلة الآن.
لكن “العودة إلى المصدر” ليست ولا يمكن أن تكون في حد ذاتها نضالا ضد الهيمنة الأجنبية (الاستعمارية والعنصرية) وهي لم تعد تعني بالضرورة العودة إلى التقاليد. إنه إنكار البرجوازية الصغيرة للتفوق المُدّعى لثقافة القوة المهيمنة على ثقافة الشعب المسيطر عليه الذي يجب عليها أن تحدد هويتها معه.
وبالتالي، فإن “العودة إلى المصدر” ليست خطوة طوعية، بل هي الرد الوحيد الممكن على إلحاح الحاجة الملموسة، التي تم تحديدها تاريخياً، والتي فرضها التناقض الذي لا مفر منه بين المجتمع المستعمَر والقوة الاستعمارية، بين جماهير الناس المستغَلين والطبقة الاستغلالية الأجنبية، وهو تناقض على ضوئه يجب على كل شريحة اجتماعية أو طبقة محلية أن تحدد موقفها.
عندما تتجاوز “العودة إلى المصدر” الفرد ويتم التعبير عنه من خلال “مجموعات” أو “حركات،” يتحول التناقض إلى صراع (سري أو علني)، وهو مقدمة لحركة ما قبل الاستقلال أو الكفاح من أجل التحرر من نير الأجانب. لذا، فإن “العودة إلى المصدر” ليست ذات أهمية تاريخية ما لم تجلب ليس فقط المشاركة الحقيقية في النضال من أجل الاستقلال، ولكن أيضًا التماهي التام والمطلق مع آمال جماهير الشعب، الذين لا يطعنون في الثقافة الأجنبية فحسب وإنما في الهيمنة الأجنبية ككل. وإلا، فإن “العودة إلى المصدر” ليست أكثر من محاولة لإيجاد منافع قصيرة الأجل – وتصبح عن علم أو دون علم، نوع من الانتهازية السياسية.
يجب على المرء أن يشير إلى أن “العودة إلى المصدر” بديهية أو حقيقية، لا تتطور في وقت واحد وبنفس الطريقة في قلب البورجوازية الصغيرة المحلية. إنها عملية بطيئة، مقسمة وغير متكافئة، يعتمد تطورها على درجة التثاقف لكل فرد، والظروف المادية لحياته، وعلى تكوين أفكاره وعلى خبرته ككائن اجتماعي. هذا التفاوت هو أساس انقسام البرجوازية الصغيرة المحلية إلى ثلاث مجموعات عندما تواجه بواسطة حركة التحرر: أ) أقلية، والتي، بالرغم من أنها تريد أن ترى نهاية للهيمنة الأجنبية، إلا أنها تتشبث بالطبقة الاستعمارية المهيمنة وتعارض الحركة بصراحة لحماية وضعها الاجتماعي؛ ب) غالبية الناس الذين يتخذون مواقف مترردة وغير حاسمة؛ ج) أقلية أخرى من الناس الذين تشارك في بناء وقيادة حركة التحرر.
لكن المجموعة الأخيرة، التي تلعب دورًا حاسمًا في تطوير حركة ما قبل الاستقلال، لا تتماهى بحق مع كتلة الشعب (بثقافاتها وآمالها) إلا من خلال النضال، ويعتمد نطاق هذا التماهي على نوع أو أساليب النضال، وعلى الأساس الأيديولوجي للحركة وعلى مستوى الوعي الأخلاقي والسياسي لكل فرد.
الجزء الثاني:
إن تماهي جزء من البرجوازية الصغيرة المحلية مع جماهير الشعب له شرط جوهري، وهو أنه في مواجهة العمل المدمِّر من قبل الهيمنة الإمبريالية، تحتفظ الجماهير بهويتها، منفصلة ومتميزة عن تلك الخاصة بالقوة الاستعمارية. لذلك من المهم أن نقرر في أي ظروف يكون هذا الإبقاء ممكناً. لماذا ومتى وعلى أي المستويات من المجتمع المسيطر عليه قد أثيرت مشكلة فقدان الهوية أو عدم وجودها: ونتيجة لذلك يصبح من الضروري تأكيد أو إعادة التأكيد في إطار حركة ما قبل الاستقلال على هوية منفصلة ومتميزة عن تلك التي للسلطة الاستعمارية.
إن هوية الفرد أو المجموعة المعينة من الناس هي عامل بيولوجي/اجتماعي خارج إرادة ذلك الفرد أو المجموعة، ولكنها لا تكون ذات معنى إلا عندما يتم التعبير عنها فيما يتعلق بالأفراد الآخرين أو المجموعات الأخرى. تكمن الصفة الجدلية للهوية في حقيقة أن الفرد (أو المجموعة) هو فقط يشبه بعض الأفراد (أو المجموعات) وإذا كان مختلفًا فهو أيضًا مختلف عن أفراد آخرين (أو مجموعات أخرى).
إن تعريف الهوية، فرديًا كان أم جماعيًا، هو في الوقت عينه تأكيد أو نكران من عدد معين من الخصائص التي تُعرّف الأفراد أو المجموعات، من خلال عوامل تاريخية (بيولوجية واجتماعية) في لحظة تطورها. في الواقع، الهوية ليست ثابتة، لأن العوامل البيولوجية والاجتماعية التي تحددها هي في تغير مستمر. بيولوجياً واجتماعياً، لا يوجد كائنان (فردي أو جماعي) متطابقان تماماً أو مختلفان تماماً، لأنه من الممكن دائماً أن نجد فيهما خصائص مشتركة أو أخرى مُميِّزة.
لذلك فإن هوية الكائن دائمًا ما تكون ذات خاصية نسبية، حتى تعريفها الظرفي يتطلب انتقاءاً، أكثر أو أقل صرامة، من الخصائص البيولوجية والاجتماعية للكائن المعني. يجب على المرء أن يشير إلى أنه في حدي تعريف الهوية، تكون العوامل الاجتماعية أكثر حسما من العوامل البيولوجية. وفي الواقع، إذا كان من الصحيح أن العنصر البيولوجي (الإرث الجيني الموروث) هو الأساس المادي الذي لا مفر منه لوجود واستمرار نمو الهوية، فليس أقل صواباً أن أن العنصر الاجتماعي هو العامل الذي يعطيها مادة موضوعية من خلال إعطاء المحتوى والشكل، والسماح بالمواجهة والمقارنة بين الأفراد وبين المجموعات.
وللتعريف الكامل للهوية، فإن إدراج العنصر البيولوجي أمر لا غنى عنه، ولكنه لا ينطوي على تشابه اجتماعي، في حين أن الكائنين المتماثلين من الناحية الاجتماعية يجب أن يكون لهما هويات بيولوجية متماثلة.
هذا يبين من ناحية علوية الاجتماعي على الشرط الفردي. بالنسبة للمجتمع (الإنسان على سبيل المثال) هو شكل أعلى من أشكال الحياة. وهو يبين من جهة أخرى ضرورة عدم الخلط بين الهوية الأصلية، التي يكون العنصر البيولوجي هو المحدد الرئيسي لها، والهوية الفعلية، التي يتمثل العامل الرئيسي فيها في العنصر الاجتماعي. من الواضح أن الهوية التي يجب أن يحسب المرء لها الحساب في لحظة معينة من نمو الكائن (فردي أو جماعي) هي الهوية الفعلية والوعي بأن الكائن يتم الوصول إليه فقط على أساس هويته الأصلية غير مكتمل وجزئي وكاذب، لأنه يترك أو لا يفهم التأثير الحاسم للظروف الاجتماعية على محتوى وشكل الهوية.
في تكوين وتطور الهوية الفردية أو الجماعية، فإن الحالة الاجتماعية هي عامل موضوعي، ينشأ عن الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تميز نمو وتاريخ المجتمع المعني.
إذا جادل المرء بأن الجانب الاقتصادي أساسي، يمكن للمرء أن يؤكد أن الهوية هي بمعنى ما تعبير عن واقع اقتصادي. هذا الواقع، مهما كان السياق الجغرافي ومسار تطور المجتمع، يتم تحديده من خلال مستوى القوى المنتجة (العلاقة بين الإنسان والطبيعة) ووسائل الإنتاج (العلاقات بين الأفراد وبين الطبقات داخل هذا المجتمع) . ولكن إذا قبلنا بأن الثقافة هي توليفة ديناميكية للوضع المادي والروحي للمجتمع وتعبر عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة وبين الطبقات المختلفة داخل المجتمع، فيمكن للمرء أن يؤكد أن الهوية على المستوى الفردي والجماعي وما وراءها الحالة الاقتصادية، هي التعبير عن الثقافة. وهذا هو السبب في أن عزو هوية فرد أو مجموعة أو الاعتراف بها أو إعلانها هو فوق كل شيء لوضع هذا الفرد أو تلك المجموعة في إطار ثقافة ما.
الآن كما نعلم جميعا، فإن الدعامة الرئيسية للثقافة في أي مجتمع هي البنية الاجتماعية. يمكن للمرء بالتالي استخلاص الاستنتاج بأن إمكانية وجود مجموعة حركة تبقي (أو تفقد) هويتها في مواجهة الهيمنة الأجنبية تعتمد على مدى تدمير بنيتها الاجتماعية تحت ضغوط تلك الهيمنة.
أما بالنسبة لتأثير الهيمنة الإمبريالية على البنية الاجتماعية للشعب المسيطر عليه، فيجب على المرء أن ينظر هنا في حالة الاستعمار الكلاسيكي الذي تناضل ضده حركة ما قبل الاستقلال. في هذه الحالة، مهما كانت مرحلة التطور التاريخي للمجتمع المسيطر، يمكن أن تخضع البينة الاجتماعية للخبرات التالية: (أ) التدمير الكامل، المختلط بالتصفية الفورية أو التدريجية للسكان الأصليين واستبدالهم بشعب أجنبي؛ (ب) التدمير الجزئي، مع استقرار عدد كبير من السكان الأجانب؛ (ج) الحفظ الظاهري، الذي يحدث بسبب تقييد السكان الأصليين في المناطق الجغرافية أو المحميات الخاصة التي عادة ما تكون بدون وسائل للعيش، وتدفق أعداد كبيرة من السكان الأجانب.
إن الطابع الأفقي الأساسي للبنية الاجتماعية للشعوب الإفريقية، بسبب تعدد الجماعات العرقية، يعني أن المقاومة الثقافية ودرجة الاحتفاظ بها ليست موحدة. لذا، حتى عندما نجحت الجماعات العرقية على نطاق واسع في الحفاظ على هويتها، نلاحظ أن أكثر الجماعات مقاومة هي تلك التي شهدت أكثر المعارك عنفا مع السلطة الاستعمارية خلال فترة الاحتلال الفعلي أو أولئك الذين بسبب موقعهم الجغرافي كانوا على أقل درجة من الاتصال بالوجود الأجنبي.”
يجب على المرء أن يشير إلى أن موقف القوة الاستعمارية تجاه الجماعات الإثنية يخلق تناقضا غير قابل للحل: من ناحية يجب أن تقسم أو تبقي الانقسامات لتحكم، ولهذا السبب تفضل الانفصال إن لم يكن الصراع بين الجماعات الإثنية. من ناحية أخرى في محاولة للحفاظ على ديمومة هيمنتها تحتاج إلى تدمير البنية الاجتماعية، والثقافة، وضمنيا هوية هذه المجموعات.
علاوة على ذلك، يجب أن تحمي الطبقة الحاكمة من تلك الجماعات التي (مثل قبيلة أو أمة فولة في بلادنا) وجدت دعما حاسما خلال الغزو الاستعماري – إنها سياسة تؤيد الحفاظ على هوية هذه الجماعات. وكما قيل بالفعل، لا توجد عادة تغييرات مهمة فيما يتعلق بالثقافة في الشكل المعتدل للأهرام الاجتماعية المحلية (الجماعات أو المجتمعات ذات الدولة).
يحتفظ كل مستوى أو طبقة بهويته، مرتبطة مع المجموعة ولكنها منفصلة عن الطبقات الاجتماعية الأخرى. وعلى العكس من ذلك، في المراكز الحضرية كما في بعض المناطق الداخلية في البلد حيث التأثير الثقافي للسلطة الاستعمارية يمكن الشعور به، فإن مشكلة الهوية تكون أكثر تعقيدا. في حين يحافظ أسفل الهرم الاجتماعي وقمته (كتلة الطبقة العاملة المستمدة من مجموعات إثنية مختلفة في في الأسفل والطبقة المهيمنة الأجنبية في القمة) على هوياتهم، فإن الذين في المستوى المتوسط من هذا الهرم (البرجوازية الصغيرة المحلية)، والذين يتعرضون للاقتلاع الثقافي أو الإستلاب الثقافي أو الاستيعاب الثقافي إلى حد ما، يشاركون في معركة اجتماعية بحثا عن هويتهم.
يجب على المرء أيضاً أن يشير إلى أنه على الرغم من توحدهم في هوية جديدة تمنحها لهم السلطة الاستعمارية، فإن الطبقة الأجنبية المهيمنة لا تنجو من تناقضات مجتمعها، الذي تجلبه معها إلى البلد الذي تستعمره.
عندما تكون المبادرة من أقلية البورجوازية الصغيرة المحلية، متحالفة مع الجماهير الأصلية، يتم إطلاق حركة ما قبل الاستقلال، لا تحتاج الجماهير إلى تأكيد أو إعادة تأكيد هويتها، التي لم تلتبس أبداً ولم تكن تعرف كيف تخلطها هوية السلطة الاستعمارية. هذه الحاجة لا تشعر بها إلا البرجوازية الصغيرة المحلية التي تجد نفسها مضطرة إلى اتخاذ موقف في النضال الذي يضع الجماهير في معارضة السلطة الاستعمارية.
ومع ذلك ، فإن إعادة التأكيد على الهوية المتميزة عن سلطة الدولة الاستعمارية لا يتم تحقيقها دائما من قبل كل البرجوازية الصغيرة. إنها فقط أقلية تفعل ذلك، بينما تؤكد أقلية أخرى، في كثير من الأحيان بطريقة صاخبة، هوية الطبقة الأجنبية المهيمنة، في حين تظل الأغلبية الصامتة محاصرة في التردد.
علاوة على ذلك، حتى عندما يكون هناك إعادة تأكيد لهوية مميزة عن تلك الخاصة بالسلطة الاستعمارية، وبالتالي هي نفس هوية الجماهير، فإنها لا تظهر نفسها بنفس الطريقة في كل مكان. جزء من أقلية الطبقة الوسطى المنخرطة في حركة ما قبل الاستقلال، يستخدم المعايير الثقافية الأجنبية، التي تستدعي الأدب والفن، للتعبير عن اكتشاف هويته بدلاً من التعبير عن آمال الجماهير ومعاناتها. ولأنه يستخدم لغة وعبارة سلطة الأقلية الاستعمارية على وجه التحديد، فإنه يستطيع فقط من حين لآخرالتأثير على الجماهير، والأميين عموما والذين هم على إلفة مع أشكال تعبير فني أخرى.
لكن هذا لا يزيل قيمة مساهمة هذه الأقلية البرجوازية الصغيرة في التطور الذي قامت به في النضال، لأنها يمكن في الوقت نفسه التأثير على قطاع من المقتلعين ثقافية أو أولئك القادمين المتأخرين إلى طبقتهم الخاصة وقطاع مهم من الرأي العام في المدن الاستعمارية، الميتروبوليتان، ولا سيما طبقة من المثقفين.
أما الجزء الآخر من الطبقة الوسطى الدنيا ، الذي ينضم منذ البداية إلى حركة ما قبل الاستقلال، فيجد حصته السريعة في صراع التحرير والتكامل مع الجماهير أفضل وسائل التعبير عن الهوية المختلفة عن السلطة الاستعمارية.
هذا هو السبب في أن تحديد الهوية مع الجماهير وإعادة تأكيد الهوية يمكن أن يكون مؤقتًا أو نهائيًا، واضحًا أو حقيقيًا، في ضوء الجهود اليومية والتضحيات التي يتطلبها النضال نفسه. إن النضال، الذي هو في الوقت ذاته التعبير السياسي المنظم عن الثقافة، هو أيضاً، بالضرورة، دليل ليس فقط على الهوية، بل أيضاً على الكرامة.
في سياق عملية السيطرة الاستعمارية، لا تتوقف الجماهير، مهما كانت سمات البنية الاجتماعية للمجموعة التي تنتمي إليها، عن مقاومة القوة الاستعمارية. في المرحلة الأولى – من الغزو، وللسخرية تسمى “التهدئة” – وهي مقاومة، والبندقية في اليد، ضد الاحتلال الأجنبي. في المرحلة الثانية – تلك المرحلة من العهد الذهبي للاستعمار المظفّر – يقدمون للهيمنة الأجنبية المقاومة السلبية، الصامتة تقريباً، لكنهم يزينونها بالكثير من الهبّات، عادةً ما تكون فردية وأحياناً جماعية. وتكون الثورة بشكل خاص في مجال العمل والضرائب، حتى في التواصل الاجتماعي مع ممثلي السلطة الاستعمارية، الأجانب أو السكان الأصليين.
في المرحلة الثالثة – مرحلة النضال التحرري – الجماهير هي التي توفر القوة الرئيسية التي تستخدم المقاومة السياسية أو المسلحة لتحدي وتدمير الهيمنة الأجنبية. ومثل هذه المقاومة المطولة والمتنوعة لا يمكن تحقيقها إلا لأنه مع الحفاظ على ثقافتها وهويتها، تظل الجماهير تحافظ على الشعور بالكرامة الفردية والجماعية، على الرغم من القلق والإهانات والوحشية التي يتعرضون لها في كثير من الأحيان.
إن التأكيد أو إعادة التأكيد من جانب البرجوازية الصغيرة المحلية على هوية متميزة عن الهوية الاستعمارية ليس ولا يمكن أن يؤدي إلى استعادة الشعور بالكرامة لتلك الطبقة وحدها. في هذا السياق، نرى أن إحساس الطبقة البرجوازية الصغيرة بالكرامة يعتمد على الشعور الأخلاقي والاجتماعي المعنوي لكل فرد، في موقفه الشخصي تجاه قطبي الصراع الاستعماري، الذي يضطر فيه إلى أن يعيش الدراما اليومية للاستعمار.
هذه الدراما هي أكثر تحطيماً لدرجة أن البرجوازية الصغيرة تؤدي دورها في العيش جنباً إلى جنب مع الطبقة المسيطرة الأجنبية والجماهير. من جانب، البرجوازية الصغيرة هي ضحية للإذلال المتكرر، إن لم يكن اليومي، من قبل الأجنبي، وعلى الجانب الآخر أنها تدرك الظلم الذي تتعرض له الجماهير ومقاومتها وروح التمرد. وبالتالي، ينشأ التناقض الظاهري للسيطرة الاستعمارية. إنه من داخل البرجوازية الصغيرة المحلية، وهي طبقة اجتماعية تنبع من الاستعمار نفسه، تبرز أولى الخطوات الهامة نحو تعبئة وتنظيم الجماهير من أجل النضال ضد السلطة الاستعمارية.
ويعكس النضال، في مواجهة أمثال آييو (مدينة في غينيا) من العقبات والأشكال المتنوعة، الوعي أو الإدراك للهوية الكاملة، وتعميم وتعزيز الشعور بالكرامة، وتقويته من خلال تطوير الوعي السياسي، والمستمد من الثقافة أو ثقافات الجماهير في ثورة هي إحدى نقاط القوة الرئيسية.