بقلم عثمان نواي
من كسلا والى دارفور تتجدد الأنباء عن نزاعات قبلية دموية، كلها تشترك فى سيناريو واحد هو اختلاف بين شخصين يؤدى فى النهاية الى تحول النزاع الى الحلة او القرية ثم الى فزع القبيلة باكملها فى مواجهة الأخرى. وهذا السيناريو الحقيقة يكشف لنا ان هناك ثغرات أمنية كبيرة نتجت بشكل كامل عن غياب دور الدولة وقواتها الأمنية المختلفة عن لعب دورها المنوط بها فى حفظ الأمن وهيبة الدولة. ومن المعروف ان الهشاشة الأمنية هى ناتج طبيعي عن اوضاع التغيير والفترات الانتقالية ولكن فى وضعية السودان ومع وجود انتشار هائل للسلاح فى كل ولايات السودان وفى ايدى كل المجموعات القبلية، فإن غياب القبضة الأمنية للدولة سوف يهدد البلاد للانزلاق فى بحر من الدماء دون اى قدرة على وقفه.
والكثير من الروايات القادمة من الأرض فى كل تلك النزاعات تؤكد على الدور السلبى للشرطة والجيش وكل القوات الأخرى، وربما هناك دور يؤجج الصراع وبعض الانحيازات القبلية من بعض افراد هذه القوات تجاه قبائلهم. وهنا تظهر الحاجة الماسة لتطبيق الدعوات المستمرة لإعادة الهيكلة للشرطة والجيش وبقية القوات والمليشيات وإصلاح تلك المؤسسات. ولكن للأسف ان هذه الدعوات لا يمكن تطبيقها حاليا لان الوضع السياسي الراهن يؤكد على ان الغياب الكامل لدور القوى الأمنية هو جزء من الصراع المعلن والخفى بين مكونات الحكم فى السودان. حيث هناك رغبة اصيلة من الطرف العسكرى كما يبدو فى ان تبدو حكومة الفترة الانتقالية ضعيفة وعاجزة عن حفظ الأمن. خاصة وان الوثيقة الدستورية أعطت مهمة إصلاح تلك الأجهزة الأمنية والعسكرية للجانب العسكرى، وتبقى الشرطة هى الأداة التى هناك بعض الفرص لإصلاحها ولكنها أيضا تحتاج الى عمل وتمويل وإجراءات فعالة من الحكومة.
كما ان اى جهود لجمع السلاح القبلى فى كل السودان فى الوقت الراهن تتطلب التعاون بين الحكومة والاجهزة الأمنية وهذا امر غير متوفر حاليا بشكل كافى يؤدى لنجاح جمع السلاح، غير انه احد الخطوات المهمة التى يجب أن تقوم بها الحكومة عاجلا. إضافة الى غياب قنوات التواصل بين المكونات القبلية والحكومة وهذه أزمة أخرى أيضا يجب ان تقوم الحكومة عاجلا بحلها وتوثيق الروابط بكل قيادات القبائل فى السودان ،فهذه اهم مفاتيح حكم السودان، فلا نستطيع توهم ان السودان دولة مدنية ديمقراطية حديثة ، فقط لان الثورة قامت ضد الكيزان عبر بيانات في تويتر وفيسبوك. السودان دولة لازالت تحكم على مستوى محلى بالقبيلة والكيزان يدركون ذلك تماما ويقومون باستخدام هذا المفتاح باستمرار ، وهذا امر يجب ان تتعامل معه الحكومة الانتقالية بكل جدية اذا أرادت واد الفتن فى بدايتها. فغياب الاتصال بين أفندية الحكومة وقحت فى الخرطوم وبين شيوخ وامراء القبائل وربما غياب لغة التواصل هو أزمة حقيقية يستغلها الكيزان وأيضا العسكريين القادرين على صناعة جسور تواصل سريع مع تلك القيادات ومخاطبة ودها، وبل استخدامها ضد الحكومة وقوى الثورة.
هذا إضافة الى وجود السلاح فى يد مليشيات الكيزان بكل أشكالها، سواءا كانت دفاع شعبى او أمن شعبى ،وأفراد النظام البائد اكثر سرعة وتنسيق وقدرة على تاجيج اي صراع فى ثوانى ولا ننسي ان جهاز الأمن القديم الذى كان متمددا فى كل شارع فى السودان افراده لازالوا يعملون ولكن لصالح الكيزان. اى اننا الحقيقة الان وبعدم القدرة على تفكيك الأجهزة الأمنية للنظام البائد نواجه دولة داخل الدولة، حيث ان الدولة العميقة لازالت قادرة على العمل على الاقل فى الجانب الآمنى. والحكومة وحاضنتها السياسية لم تقم بما يكفى لتقوية نفسها بذوى الخبرات الأمنية لتقديم العون لأجهزة الدولة المدنية فى اتخاذ القرار. وهذا يؤكد على حقيقة ان القوى السياسية الحاكمة لازالت لا تستطيع أن ترى نفسها كقوى حاكمة مسؤولة عن أمن البلاد واستقراره وحمايته ،بل لازالت تعيش فى عقلية وثوب المعارضة حتى انها تعارض نفسها، بشكل يدعو للتعجب. ان الأمن القومى السودانى المخترق بشدة من قوى اقليمية عديدة قد يتفجر لأسباب قد تبدو واهية للبعض، ولكنها لا تمثل سوي فتائل كامنة يتم اشعالها او تزكيه نيرانها بعناية وتخطيط دقيق. واذا لم ترتقي الحكومة الانتقالية والقوى السياسية الحاكمة لمستوى المسؤولية، فإن من يعتقدون انهم اقدر على تحملها سوف ينقلبون عليهم بليلٍ حالك.
من جانب اخر، اذا لم تتمكن الحكومة الانتقالية من بناء جسور ثقة مع القيادات القبلية فى كل السودان ،وإذا لم تتمكن من بناء جهاز الأمن الداخلى المقترح بسرعة فائقة، فإن ملف الأمن الموضوع فى يد الجانب العسكرى سوف يستخدم لنسف الفترة الانتقالية بل ربما نسف السودان بأكمله فى ظل لعبة خطيرة تلعبها دول المحاور. خاصة انها أصبحت خبيرة فى تاجيج الصراعات الداخلية لتصفية صراعاتها الإقليمية كما نرى فى اليمن وليبيا وسوريا ولبنان. ان عدم النظر لما يجرى من نزيف دماء تحت لافتات قبلية بصورة مبسطة والنظر من منظور الأمن القومى للبلاد هو بداية اتخاذ الخطوات الصحيحة فى اتجاه إيقاف النزيف وحماية الوطن. وللعلم فإنه حتى تعيين الولاة المدنيين لن يكون الحل الأفضل لهذه الأزمات ،لأنه فى غياب الاستجابة الفعالة والتعاون من الأجهزة الأمنية فإنه مهما كان على رأس الولاية لن يغير من الأمر شي، فإذا كانت الحكومة المركزية نفسها غير قادرة على توجيه سلطتها لحفظ الأمن فماهى قدرة الولاة؟
يجب ان تكون هناك نظرة شاملة لهذه الصراعات من منظور امنى استراتيجي ويجب ان تتحمل الحكومة وحاضنتها السياسية مسؤوليتها لحفظ أمن السودان القومى من مخططات محاور الصراع الإقليمي وان تقوم بدورها فى انشاء جهاز الأمن الداخلى والتواصل مع المكونات القبلية الداخلية وكسبها الى صف الحكومة الانتقالية، والا فإن الحريق القادم سوف يدمر كل البلاد. واخيرا ندعو بالرحمة والمغفرة لكل القتلى والشفاء للجرحى فى كل اقاليم السودان فى هذه النزاعات ونطالب القيادات القبلية والشباب الواعى لحقن الدماء ووقف العبث بالارواح وعدم الانجرار خلف دعوات العنف التى لا تخدم اى طرف بل تهدد الأمن القومى للبلاد.
nawayosman@gmail.com