الجزء الاول
بقلم عثمان نواى
قوانين ملكية الأرض وتحالفات السلطة والثروة والروابط الاجتماعية في السودان
ان ملكية الارض في السودان تعد إحدي القضايا المثيرة للجدل والتي كانت ولا تزال وقودا للنزاعات المشتعلة في أرجاء البلاد المختلفة سواء في المركز أو الأطراف. حيث أن النزاع علي الارض في السودان لا يتعلق فقط بجوانب اقتصادية متعلقة بالملكية ولكنه متعلق أيضا بحقوق الانتماء والارتباط الثقافي والتاريخي بالمكان. حيث أن علاقات الأرض في السودان ليست فقط جزء من علاقات الإنتاج والتراكم الرأسمالي، علي أهمية هذا الجانب، ولكنها متعلقة أيضا بمسألة الارتباط بالجذور والرمزية لمسألة الوطن وحق الإقامة والاستقرار والشعور بالأمان وتكوين شبكات العلاقات الاجتماعية الداعمة التي تسهم في بناء مجتمعات مستقرة آمنة ومزدهرة. لكن الواقع التاريخي لمسألة ملكية الارض في السودان عكس تناقضات العلاقات السياسة والطبقية والاثنية ذات البعد الثقافي والاقتصادي معا. وبالتالي فإن المسألة مرتبطة تماما بتكوين الدولة السودانية الحديثة وازماتها المزمنة منذ الاستعمار الي الان. حيث أن خطوط العزل والانتماء وتراتبية المواطنية وحقوق الأفراد والمجموعات نشأت عن مجموعة من القوانين والتشريعات والعلاقات البينية بين الروابط الاجتماعية والطبقات المهيمنة علي السلطة، بشكل دعم بنيات التمييز والاضطهاد وجعل مسألة ملكية الارض هي نفسها أرضية واسعة للصراع الاقتصادى السياسي والثقافي علي أسس اثنية وطبقية في ان معا. وكما يقول الدكتور عطا البطحاني فإنه لتحليل الأوضاع الصراعية في السودان ” فإن الطبقة (رمز للاستغلال الرأسمالي)، و الاثنية (رمز القهر القومي) وهما ليسا منعزلين انعزال كامل عن بعضهما البعض بل أنهما يرتبطان من منظور ديالكتيكي وديناميكي في سياق تاريخي معين.” (عطا البطحاني، 2008)
لقد بدأ السياق التاريخي لمسألة ملكية الارض في إطارها المرتبط بتداخلات دور الدولة مع القوي الاجتماعية والاقتصادية المسيطرة علي البلاد منذ عهد الاستعمار البريطاني. حيث نشأت طبقة ملاك الأراضي بالشكل الذي ظل مستمرا الي الان ، وحيث وضعت القوانين لتحمي هذه الطبقات ذات الابعاد الاجتماعية المرتبطة بإثنيات معينة، خاصة في بينة الدولة مابعد الاستقلال. حيث كانت إحدى وسائل تمكين الحكومة البريطانية من إدارة لأراضي السودان الشاسعة بأقل التكاليف هو الاستعانة بالقيادات التقليدية الدينية والطائفية والقبلية ومنحها امتيازات اقتصادية وسلطات واسعة لكي تقوم بما يسمي بالحكم الغير مباشر نيابة عن الإنجليز. يقول السير ج. مافي :” تعيين الاهالي في الخدمة العامة فكرة مقنعة.. نمنح القيادات التي نختارها مكافأة مناسبة بهدف تعزيز مكانتهم وشخصيتهم، وبذلك نضمن عدم حاجتنا اللجوء لتوسيع جهازنا الإدارى الباهظة التكاليف.” ويعلق تيسير محمد علي في كتابه زراعة الجوع في السودان علي هذه العبارة بقوله:” وهكذا، بدأت منذ اواسط العشرينات تصدر سلسلة من القوانين بهدف تعزيز سلطات زعماء القبائل المالية والقضائية. وبعد تطبيق النظام الذي أطلق عليه اسم الحكم الغير مباشر بدأت الحكومة في إصدار تراخيص مشاريع الطلمبات الخاصة علي طول النيل وبذلك تحصل عدد كبير من القيادات القبلية والدينية علي مشاريع كبيرة. والواقع أن أول المستفيدين من هذه السياسات هو السيد عبد الرحمن المهدي.” ( تيسيرعلى , 1994)
لقد كانت أولي التشريعات المتعلقة بالأرض في السودان كما ذكر تيسير محمد علي, هادفة الي تمليك أراضي واسعة من مشاريع الطلمبات للقيادات الدينية والأهلية وذلك لتمكينهم من دعم سلطة الدولة الإستعمارية. وكان قانون الأراضي لعام 1899 يعترف بشكل كبير بملكيات الأرض بشكل مشاعي وجماعي بما يحترم السياقات القبلية والثقافية التي كانت موجودة اصلا، وهذا كان له هدف اساسي وهو تجنب الدخول في صراعات مع القادة الاهليين والدينيين وفي نفس الوقت منحهم سلطات واسعة كما أشرنا سابقا. ولكن هذا القانون أيضا وضع خطوط ملكية الارض وأهمية تسجيلها ووضع قاعدة رئيسية وهي أن الأرض الغير مسجلة تعتبر أراضي حكومية. لكن الدولة الإستعمارية قامت عبر قوانين الأراضي في العشرينات وأبرزها قانون الأراضي لعام 1925 وما تلاه من قوانين، قامت بإعطاء سلطات واسعة للقيادات التقليدية والقبلية والدينية. “حيث منحت القيادات التقليدية في مختلف المستويات سلطات قضائية ومالية وإدارية. حيث كانوا يشرفون علي تطبيق القوانين الوضعية التقليدية المتعلقة بكيفية استغلال واستخدام الأراضي وكانت القوانين الأولي نابعة نفسها من القوانين المحلية المعمول بها.” (الأمين، 2016م) هذا الوضع منح القيادات الأهلية يد مطلقة في الأراضي تحت قيادتها.
هذه التشريعات الأولية المنظمة للأرض نتج عنها نوعين من ملكيات الأراضي في السودان الأولى هي الملكية المشتركة أو المشاعية للأرض في المجتمعات القبلية المختلفة، وهناك الملكيات الخاصة المسجلة. يقول الباحث في مجال ملكية الارض خالد الأمين :” ان الأراضي تحت الملكية الخاصة، اي التي لديها حدود واضحة ومسجلة بشكل منظم بدون اي نزاعات هي غالبا الأراضي حول منطقة النيل وافرعه، اي نهر النيل الرئيسي والنيل الأبيض والازرق. أما الأراضي ذات الملكية الجماعية أو المشتركة فهي غالبا الأراضي البعيدة من النيل حيث أن ملكيتها يحفها الغموض وأصبحت دوما مسرحا للنزاعات والصراعات ( الامين, 2016). “ هذا الأنقسام بين نوعي ملكيات الأراضي لا يختلف عن خارطة الانقسامات السياسية والاقتصادية بين مركز وأطراف السودان. حيث تم تسجيل الأراضي في المناطق المركزية والوسطى نتيجة لتركيز التنمية وبالتالي تزايد السكان ولكن أيضا نتيجة للوعي والتعليم والقرب من مراكز القرار، اما الأماكن البعيدة من النيل، فاضافة الي التقاليد المختلفة للملكية الجماعية كما في دارفور ، فإن التهميش التنموي والسياسي وقلة التعليم وأزمة المناطق المقفولة في حالة مناطق جبال النوبة مثلا حالت دون تسجيل الأراضي هناك مما جعلها عرضة لأن تكون مسرحا للنزاعات علي ملكية الارض وأسس استغلالها.
لقد حققت ملكيات لأراضي الواسعة التي وزعها الانجليز علي القيادات الدينية والأهلية ارباحا طائلة لأصحابها كما مكنت لهم سلطات سياسية واقتصادية جعلتهم الورثة الطبيعيين للسلطة الاستعمارية بعد الاستقلال. يقول تيسر محمد علي حول ثراء عبد الرحمن المهدي نتيجة للأراضي التي أعطيت له: ” بالإضافة إلي الجزيرة ابا وأراضيها الواسعة كان يملك مشاريع مولتها له الحكومة بتكلفة 28الف جنيه وفي الجزيرة أبا بلغت مساحة الأرض التي كان يديرها في 1931 حوالي 90 الف فدان.” حيث مكنت هذه السلطات المالية إضافة إلي السلطات الدينية والروحية التي يمتلكها المهدي مكانته من استغلال السكان في منطقة الجزيرة ابا حيث يذكر تيسير نقلا عن الباحث السوداني نقد الله :” أن السيد عبد الرحمن تمكن من تنظيف أراضي الجزيرة ابا من الأشجار وزراعتها باستخدام الأنصار، الذين كان يقول لهم أن من يقطع الأشجار في شير من الأرض ويزرعه سيعوضه الله نفس المساحة في الجنة.” (تيسير, 1994)
لم يكن عبد الرحمن المهدي وحده المستفيد من هذه الامتيازات في ملكيات الأرض بل أيضا القادة الطائفيين الثلاثة أو كما سماهم البعض أعمدة الارستقراطية الدينية في السودان، اي عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني والشريف الهندي. حيث أن ثلاثتهم وجدوا الدعم من الحكومة الاستعمارية في شكل تمليك للأراضي مما وسع سلطاتهم الدينية والسياسية والاقتصادية وجعلهم قادة اول أحزاب سياسية سيطرت على مسار الدولة السودانية،، وهي حزب الأمة والوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي. وفي تحالف مباشر مع هذه الطبقة الارستقراطية نجد الطبقة البرجوازية التي تحالفت معها من كبار الموظفين والخريجين الذين كانوا يقومون لخدمة هؤلاء الزعماء ومساعدتهم في ادارة املاكهم والتواصل مع العالم الخارجي. وكان لهؤلاء الخريجين الذين شكل معظمهم الطبقة السياسية الحاكمة والمهيمنة علي الاقتصاد والسياسة والثقافة في البلد، كان لهم نصيب أيضا من قسمة ملكيات الأراضي التي كانت جزءا من المكافآت التي التي حصلوا عليها نتاج خدماتهم إذ يؤكد ذلك تيسير محمد علي بقوله : (أن هذه العلاقة لم تكن واضحة المعالم، بل كانت مرتبطة بمجموعة منافع متعددة ومعقدة… فالارسترقراطية الدينية استغلت المهارات الفنية للموظفين ومعرفتهم باللغة الإنجليزية… وذلك يعني أن مقدراتهم وكفائاتهم وضعت في خدمة توسيع الموسسات الاقتصادية الارستقراطية الدينية… وفي مقابل ذلك يحصلون على مكافآت سخية.. كانت في العادة تأخذ شكل… امتلاك أراضي زراعية أو عقارية بأسعار رمزية.) وكل هذا يصب في إطار استخدام ملكيات الأرض وعملية توزيعها وإعادة توزيعها كوسيلة للتحكم في السلطة والثروة وتوطيد علاقات السلطة والثروة داخل شبكات العلاقات الاجتماعية الاقتصادية التي تحولت أيضا إلى شبكة علاقات تتحكم في الدولة نفسها. حيث أن تحالف القوي الدينية مع هؤلاء الموظفين والخريجين كان نتائجه كما ذكرنا احزاب سياسية أدارت البلاد. ولذلك فإن ملكية الارض لازالت هي نقطة مفتاحية في فهم تشابك علاقات الثروة والسلطة داخل المجموعات المهيمنة على الدولة السودانية نفسها وفي علاقتها أيضا بالاطراف.
في الفترة ما بعد الحكم الاستعماري فإن قوانين وتشريعات ملكية الارض وصلت الي مستويات جديدة مختلفة في خدمة السلطة المهيمنة وتحويل عملية توزيع الأرض وملكيتها باستمرار لآلية في يد الدولة لكسب المؤيدين لها . وفي الجانب الآخر استخدمت هذه القوانين ذاتها في استغلال مجموعات ومناطق معينة دون أي اعتبار لحقوق سكان الأرض الاصليين وتحويل مواطنين مستقرين الي فئة المواطنة المؤقتة. أي الي حالة الخوف الدائم من انتزاع أهم مرتكزات المواطنة وهي الأرض انتماءا وامتلاكا. فمنذ الاستقلال بدأت عمليات منظمة لنزع الأراضي وإقامة مشاريع زراعية وتوسيع مشاريع قائمة في سبيل منح المزيد من الأراضي للزراعة والسكن وتوسيع ثروات الفئات الاجتماعية الحاكمة. حيث أن هذه القوانين كانت تخدم أجندة المجموعات المهيمنة ولم تكن مجرد سياسات للدولة، حيث أن “الاستراتيجيات المعلنة – للدولة – هي في البداية تعبير عن الانحياز السياسي الناتج عن علاقات الملكية وتركيب القوي القائم.” (تيسير,1994) حيث يعلق الدكتور قندول ابراهيم قندول على المنهج الذى اتخذته الحكومات الوطنية فى تشريعات القوانين الخاصة بملكية الارض بقوله:” اما دور الحكومات الوطنية تجاه قوانين الاراضى فكان ومايزال محيرا تماما. لم تقف هذه الحكومات عند العمل بالقوانين التى وضعها الاستعمار كما هى, بل ذهبت الة تشويهها اكثر وذلك بانشاء تعديلات ورزمة من القوانين السلطوية . “ ( قندول, 2015)
حيث قامت الدولة ما بعد الاستقلال باستغلال توزيع مشاريع الطلمبات والزراعة الآلية في مختلف مناطق السودان بشكل عشوائي وتوسع مبالغ فيه من أجل الترضيات وتوسيع ثروات الطبقات المهيمنة. وكان من أهم المناطق التي تأثرت سلبا بهذه السياسات هي منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق وغيرها، حيث تم توزيع مشاريع الزراعة الآلية الي التجار من خارج المنطقة بشكل يوضح سياسة تفضيل واضحة لمجموعات اثنية معينة، وطبقة كبار التجار والموظفين كطبقة اقتصادية هي أيضا من ذات الاثنية. فكما حللنا أعلاه فإن في السودان يلتقي القهر الاثني مع القهر الطبقي في مناطق الهامش ليولد شكل من الاضطهاد الممنهج من قبل الدولة والقوي المهيمنة عليها. فقد توسعت مساحة الأراضي الزراعية الممنوحة للقطاع الخاص في مقابل القطاع الحكومي في فترة حكومة الاستقلال الأولى بزيادة 27‰واصبحت الأراضي المروية بالملكية الخاصة بحلول 1959 أكثر من 45 % من إجمالي الأرض المروية. ففي الفترة من 1952 الي 1957 ارتفع عدد مشاريع الطلمبات بضعفين وفي النيل الأزرق تضاعفت ثلاثة مرات. حيث أن اكثر هذه المشاريع أنشئت فقط في فترة الحكم الوطني اي سنوات الحكم الذاتي وبداية الاستقلال. وهذا “النمو الانفجاري” لهذه المشاريع وهذه السياسات في توزيع الأراضي الزراعية بهذا الشكل كان لها بعدها السياسي الذي هو أكثر أهمية من بعدها الاقتصادى. فهي كانت وسيلة لتوطيد أركان القوي الحاكمة لكسب تاييد القيادات الدينية والأهلية وأيضا توطيد التأييد بين التجار والموظفين. اي ان هذه كانت عملية شراء أصوات انتخابية عن طريق توزيع الأراضي وتوسيع الثروات وأيهام الناس أن هناك تنمية تجرى وسياسات واستراتيجيات تطبق. ” وكان يملك معظم المشاريع الكبيرة أشخاص بارزون زعماء طوائف دينية، زعماء قبائل، وزراء، برلمانيون، مهنيون، بارزون ورجال اعمال معروفون..” يقول تيسير محمد علي “كان الناس يتناقشون في اخبار المشاريع الكبيرة انها كانت توزع لاقرباء الوزراء ورئيس الوزراء نفسه. ” وكل هذا تم في شكل سياسات دولة كانت تعلن أنها تتوسع في المشاريع الزراعية والتنمية، بينما هي كانت تتوسع في تنمية علاقاتها السياسة ومصالحها الاقتصادية عبر تقسيم الأراضي الزراعية علي أصحاب المصلحة والقوي الحاكمة. حيث أن اقوي مؤشر علي هذه الهيمنة الطبقيو الاثنية التي تعتمد على ملكية الارض والمشاريع الزراعية كان حقيقة أن ال 76 نائبا في للبرلمان السوداني الأول من شمال السودان، هم ملاك أراضي ومشاريع زراعية تشكل مصدر دخل رئيسي ل 25 منهم علي الاقل.
المثير للاهتمام أن المداخيل التي كانت تنتج من استغلال الأراضي الزراعية كانت تتحول إلى ملكيات عقارية في الخرطوم. حيث أن 51% من إجمالي الاستثمارات للقطاع الخاص في الفترة من 1956 الي 1961 كان يذهب الي بناء المنازل الأوربية الطابع الفخمة في الخرطوم والتي ” كانت تدر دخلا كبيرا عن طريق استئجارها من قبل الشركات والسفارات التي فتحت بعد الاستقلال.” ولم يكن يتم توجيه أي نصيب من هذا الدخل الي مشاريع تنمية إنتاجية ولو في الزراعة نفسها بل كانت تستثمر في هذا الاقتصاد الريعي لملكية الأرض. حيث أصبحت هناك دائرة مغلقة من الامتيازات وتراكم الفائض الإنتاجي في يد القلة المتحمكة في البلاد. وبذلك أصبحت الأرض وملكيتها اداة أساسية لتمكين احتكار السلطة والثروة في السودان وتثبيت الامتيازات المتوارثة.
ان فترة الحكم العسكرى الأولى اي حكم عبود كانت أكثر سوءا في سرعة توزيع الأراضي وفرض ذلك بالقوة خاصة في مناطق الهامش. كما أنها كانت تقوم بعمليات مكثفة لشراء الدعم عبر توزيع هذه الأراضي الى التجار والقيادات الأهلية لضمان تأييدهم للنظام. كما أنه في هذه الفترة ظهرت برجوازية الدولة وكان هناك توزيع جائر خاصة للأراضي الزراعية في الهامش. في الخرطوم أيضا كان هناك عمليات توسيع في تمليك الأراضي السكنية حيث بدأت تنمو العاصمة وتوسعت البنيات التحتية وتركزت الخدمات في المركز مما رفع قيمة الأرض في الخرطوم بشكل كبير. أصدرت الحكومة العسكرية قانون الزراعة الآلية سنة 1959 , و هو قانون اعطي لجان تخصيص للأراضي في المديريات الحق في تخصيص أراضي للأفراد بمساحة تصل الي الف فدان والشركات 5 الاف فدان حيث منحت بعض الشركات ما يصل الي 30 الف فدان. كان النظام هو نظام الإيجار لكن كان سعر إيجار الفدان قرش واحد فقط. والحكومة قالت إنها هدفت بالايجار الى منع مضاربات الأراضي، ورغم وجود القانون الذي يمنع امتلاك مساحات أكبر الا انه ساد الإيجار من الباطن حتى كان البعض يملك ” ثلاثين مشروعا”. أصحاب هذه المشاريع تمكنوا من السيطرة علي 750 الف فدان، لا يتواجد أصحابها في مناطق الزراعة الا في موسم الحصاد حتي أصبحوا يعرفون محليا ب (مزارعي الشنطة). نكاية عن انهم فقط يستهدفون الأرباح من امتلاك هذه الأراضي. (تيسير، 1994م)
في ظل الحكومة العسكرية الثانية أي نظام نميرى صدر قانون الأراضي لعام 1970 و من بعده قانون إلغاء الإدارة الأهلية لعام 1971 وهذا التغيير لا زال سببا في نزاعات الأراضي خاصة الغير مسجلة منها. يقول خالد الأمين : (القانونين يعتبران إنكار رسمي من قبل الدولة للملكية الجماعية للأرض تحت قوانين الملكية الوضعية التقليدية، كما أن إنهاء حكم الإدارة الأهلية الغي أيضا الهياكل المحلية التي تدير هذه الملكيات. هذا الأمر كان له آثار بالغة علي الأمن والاستقرار في ارياف السودان خاصة في مناطق دارفور وجنوب كردفان.) (الامين, 2016) فقد أقر قانون 1970 أن كل الأرض الغير مسجلة ملك للدولة دون اعتبار لما إذا كانت مستخدمة ام لا من قبل المجموعات السكانية التي تستفيد من هذه الأراضي. وقد تعجب الدكتور قندول ابراهيم قندول من ان هذا القانون المجحف والذى اصبح سببا فى اشتعال كثير من النزاعات فى السودان لم يتم تحديه على الدستورى حيث يقول : “من الغريب ان قانون 1970 لم يتم الاعتراض عليه امام المحكمة الدستورية على اساس حرمانه المواطنين من اثبات حقوقهم فى الاراضى غير المسجلة لمحالفته لقانون تسوية الاارضى وتسجيلها الذى ينص على تفضيل مصلحة السكان.” اان قانون 1970 قد اقر عدم احقية المواطنين فى الاعتراض على نزع الاراضى منهم ومنع المحتكم من سماع الالدعاوى ضد الحكومة والمطالبة باى تعويضات مادية او عينية. في عام 1984 صدر قانون نقل الملكيات المدنية الذي أقر نسبيا بحقوق المجموعات السكانية في الأراضي الجماعية وحق استخدامها لكنه ابقي علي ملكية الدولة لها. وهذا الحق في ملكية الدولة أتت قوانين الأراضي لكل من عام 1991 و1993 ليس فقط لتؤكد عليه بل لكي تزيد الأمر سوءا علي سوء عبر منع المحاكم من النظر في أي قضية أو نزاع ضد الحكومة فيما يتعلق بالأراضي الغير مسجلة. أي فرض نهائي للملكية الدولة للأرض. وهذا ما مهد الي حقبة جديدة من نزع الأراضي بالقوة واستخدام الشرطة وقوي الأمن والجيش لطرد السكان من منازلهم واراضيهم في مناطق السودان المختلفة.
ولكن نجد في استخدام قوانين 1991 و1993 الخاصة بتسجيل الملكية المدنية وما تلاها من قوانين فى عام 2000 وحتى قانون الاستثمار الصادر فى 2013 , تاكيد على ملكية الارض بواسطة الدولة و عملية استخدام القوة لنزع الأراضي لصالح الدولة وحماية المستثمرين على حساب السكان والمواطنين. أن هذه القوانين تم تفعيلها بشكل مأساوي في مناطق السكن العشوائي في الحزام الأسود في الخرطوم، مما ادى فى أحداث عديدة الي مقتل مواطنين أغلبهم نازحين من الحرب والتهميش في مواجهات مع الشرطة، وهو ما سنتحدث عنه لاحقا. أيضا يتم استخدام هذه القوانين في الكنابي أو قري العمال الزراعيين في الجزيرة وغيرها , وبشكل عنيف فيه تم تهديم وحرق للمنازل والممتلكات. من جانب آخر أيضا فإن عملية تسوية الأراضي والتخطيط كان لها طابعها الذي يمنح الأراضي للمستثمرين المحليين والأجانب. وهذه بالتحديد ظاهرة جديدة من ممارسة الدولة للقمع والاستغلال من خلال قوانين ملكية الارض. حيث استمرت لعدة شهور النزاعات ولاحتجاجات في ام دوم والجريف شرق على سبيل المثال .
في الفترة الأخيرة، وبالإضافة الي استغلال الأرض في الزراعة والسكن أو الاستثمار العقارى باعتبارها الأنشطة الاقتصادية التقليدية المتعارف عليها في السودان خلال النصف قرن الماضي، فإنه في السنوات الأخيرة ظهر التنقيب عن الذهب كسبب جديد لاستغلال الأرض وأيضا دافع لهيمنة الدولة والقوي المتحالفة معها علي الأراضي. وتم تفعيل قوانين الأراضي لعام 1970 و 1991 وغيرها بشكل أكبر لضمان ملكية الدولة لهذه الأراضي وأيضا منع المواطنين من التمتع بحق التنقيب في أراضي هي ملك لهم تاريخيا. وهذا يشكل الان سببا جديدا لقمع الدولة للمواطنين في كل أنحاء السودان بما في ذلك الشمال النيلي ، حيث أصبح التنافس علي احتكار الموارد من قبل القوي الحاكمة يقوم باستخدام كل أدوات الدولة لضمان استمرار احتكار ملكية الارض. ويبدو أن الدولة باجنحتها العسكرية والأمنية هي المالك الرئيسي لحقوق التنقيب في أراضي شمال السودان ونهر النيل مثل شركة حجاجية التابعة لجهاز الأمن في ولاية نهر النيل غرب الباوقة، والشركة الدولية للتعدين في صواردة المملوكة أيضا لجهاز الأمن. إضافة للشركة الروسية التي قتلت مؤخرا مواطنا في وادي السنقير في ولاية نهر النيل.
ان القوانين المتعلقة بملكية الأرض منذ نشأة الدولة الحديثة في السودان ومنذ الاستعمار هي آلية الاضطهاد والقمع، وهي أيضا الية في المقابل لتمكين النظم والقوي الحاكمة المهيمنة. ورغم أن القوي المهيمنة هي قوي اثنية معينة من المركز المهيمن وقامت ولازالت باستغلال واسع لأهل الهامش الا انها تقوم بعمليات استغلال مشابهة عبر ملكية الأرض تجاه مكونات المجتمعات في المركز أيضا. ولكن الاستغلال في تجاه مواطني المناطق المهمشة مضاعف لأنه يشمل اضطهاد عنصرى وثقافي إضافة إلي الاستغلال الاقتصادي. هذا الاضطهاد العنصري والاثني يصحبه درجات عالية من استخدام العنف المادي الممنهج من قبل الدولة وفئات معينة في المجتمع في بنية استغلال طويلة وتاريخية. رغم أن النظام الحاكم الان بدأ باستخدام درجات عنف متفاوتة في قمع الاحتجاجات علي نزاع ملكيات الأرض في مناطق مختلفة كما ذكرنا. لكن يظل الفارق كبير والتمييز قائم. حيث أن أسلوب حل النزاعات السريع في هذه المناطق في المركز مرتبط بالرابطة الاجتماعية والسياسة الوثيقة بالنظام نفسه والابعاد الاثنية للمتضررين من عملية الاستغلال بواسطة هذه القوانين، كما أن ما يتعرضون له يظل خاليا من عمليات الاستهداف الجماعي والتنزيح المنهجي الذي تتعرض له منذ عقود أطراف السودان المختلفة اثنيا عن المركز المهمين. يقول الباحث خالد الأمين ان قدرة المجتمعات علي الوصول إلى وسائل الإعلام، والقيادة المتعلمة و القرب من مراكز السلطة ساعدت في إنجاح احتجاجات السكان في الخرطوم في استعادة بعض او كل حقوقهم). ويواصل بالقول إنه ( بينما النزاعات علي الارض في الناطق المهمشة البعيدة قد أدت إلي مقتل آلاف الأرواح دون ان يلاحظ ذلك أحد، فإن الاحتجاجات في الخرطوم حظيت باهتمام اعلامي كبير.)
اما حول الوضع في جبال النوبة والنيل الأزرق كمناطق مهمشة ومناطق نزاعات يقول خالد الأمين : ( منذ عام 1970 قامت الدولة بشكل مكثف بتفعيل استخدام حقها القانوني في نزع الأراضي في جنوب كردفان والنيل الأزرق. حيث أخذت الدولة قطع أراضي واسعة تابعة للمجتمعات هناك واجرتها أو اعطتها المستثمرين من خارج المنطقتين لمشاريع الزراعة الآلية. حيث ملايين الأفدنة قد تم توزيعها… بينما المجتمعات المحلية بالمقابل قد تم نزع ملكيتها وفقدت المصدر الرئيس لمعيشتها، في الوقت الذي تحول العديد منهم إلي عمال زراعيين في ذات الأرض التي كانوا يمتلكونها، اضطر البقية الي الهجرة عن أرضهم بحثا عن وسائل العيش في مناطق أخرى من السودان.) ويوضح الأمين بشكل فعال جوهر المواطنة المؤقتة بقوله : ( أن هذه القوانين ادت الا ان يصبح مواطني جنوب كردفان والنيل الأزرق مهددون دائما بالافقار والطرد.) ويمتد هذا الاستنتاج الي حقيقة أن المواطنة المؤقتة التي تشير اليها هذه الورقة هي حالة الشعور بالتهديد الدائم بالافقار والطرد، الناتج عن آليات الاستغلال والاضطهاد التي تستخدمها الدولة وعلي رأسها آلية ملكية الارض. تلك الآلية التي كما اتضح مما سبق استخدمت باستمرار لتمكين تحالفات السلطة والثروة للقلة المهيمنة في السودان سياسيا واقتصاديا، هذا مع إضافة البعد الاثني الذي هو البعد الثالث لهيكلة الثروة والسلطة وحقوق المواطنة في السودان. في الأجزاء اللاحقة من هذه الورقة سوق نعرض لدور هذه البعد الاثني في استخدام آلية ملكية الارض فى التمكين السياسي والاقتصادي للمجموعات المهيمنة في مقابل التنزيح والعنف الممنهج وخلق حالة المواطنة المؤقتة للمجموعات الاثنية المضطهدة من أطراف السودان ومناطق النزاعات.
[email protected]
لقراءة الورقة مكتملة الرابط هنا