لتصالح مع النفس هو بداية النجاح وإلا في النهاية (حا يروحليك الدرب) أو تكون منافقاً
د. منصور خالد
لكي نتصالح مع أنفسنا ولا نكون منافقين يجب علينا أن نعترف بالحقيقة لأنفسنا أولاً قبل الآخرين. إن على أبناء المنطقتين، جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة، خصوصاً المثقفين منهم والذين يعول عليهم في قيادة مجتمعاتهم أو من هم في موقع القيادة الفعلي، ونستثني هنا من يعرفون لدي مالكلوم إكس بعبيد المنزل، في هذا المنعطف المفصلي والخطير في تاريخ الشعوب السودانية أن يكونوا واضحين وصريحين أمام أنفسهم وأمام شعبهم في المنطقتين، وهي صراحة ووضوح عند المحكاتتكون أصعب من حمل السلاح أمام عدو غاشم لايرحم. لايخفى على أحد بأن ضغوطات ثورة ديسمبر والمجتمع الدولي وترتيباته التي يعول عليها بشدة لدولة السودان والتي تم التوافق عليها مع النخبة الشمالية ونخبة الإنقاذ حتى قبل سقوط البشير في ما يعرف بالهبوط الناعم، والذي من تداعياته ثورة ديسمبر نفسها، ترمي بأحمالها الثقيلة على طاولة المفاوضات. ومن المعلوم أن من ترتيبات الهبوط الناعم إسقاط البشير ولكن فشل في ذلك الصف الأول من الإنقاذ وقام بتنفيذه الصف الثانيبإئتلاف مع باقي النخبة الشمالية، والتفاصيل والتداعيات كثيرة وقد أصبحت تاريخاً معروفاً، ولا ننكر أن من التداعيات صعود قوة الهامش بما لم يحدث في تاريخ السودان الحديث من قبل، إلا أن كل ما يهم المجتمع الدولي هو الحفاظ على ما يسمى بالدولة السودانية بقضها وقضيضها وتناقضاتها السابقة بما فيها الإسلاموعروبيين في إطار واحد جديد مع تسويات compromises وتوازنات قوى جديدة تضمن الحفاظ على هذا الإطار دون حدوث مشاكل ومسؤليات لافائدة إقتصادية من ورائها للمجتمع الدولي لأطول فترة ممكنة أخرى دون حل حقيقي للمشكلة والذي لا يهم المجتمع الدولي بأي حال من الأحوال. في الحقيقة إذا كان هناك شيء واحد يهم المجتمع الدولي فهو إعادة دمج السودان – وهو من أهم أهداف الهبوط الناعم – في النظام المالي والإقتصادي العالمي والمحور السياسي الغربي، وهي السياسة التي يطبقها بنجاح وبرود الموظف الأممي المحترف عبدالله حمدوك وطاقمه الأممي المحترف السابق الذي إستبدله بطاقم سياسي جديد لم يكن لينضم إلى الوزارة قبل البصم على إرادة المجتمع الدولي ليطبق نفس الخطة، ومن المعروف بأن الموظفون الأمميون مدربون على تطبيق سياسات المجتمع الدولي بإحترافية عالية – هو أمر ليس بالضرورة سيء – رغم أن النتيجة كما هو معروف غالباً وليس دائماً لا تصب في مصلحة جميع قطاعات المجتمع. بالنسبة لما يعرف بالهامش فمن المعروف بأن الهامش نفسه متباين ودرجات التهميش نفسها متباينة، وهناك قطاعات في الهامش قد تناسبها خطة الهبوط الناعم، ولكن على شعب المنطقتين تعديد خياراتهم ووزنها جيداً قبل المضي قدماً نحو إحداها، وكما هو معلوم أن أحد الخيارات التي ’’كانت مطروحة‘‘ هي تقرير المصير والذي تحاول دوائر معينة تصويره بأنه يعني إنشاء دولة ويحاججون بأنه خيار غير عملي وغير ممكن بالنسبة للمنطقتين، في حين أنه ببساطة يمكن للمنطقتين تضمين إختيار الإنضمام للجنوب حين ممارسة حق تقرير المصير، ولأبناء المنطقتين حق تاريخي في الجنوب حيث قد مهرت دمائهم أرض الجنوب جنباً بجنب مع رفقائهم الجنوبيين كمقاتلين في الجيش الشعبي وقد قاتلوا مع رفقائهم الجنوبيين في الجنوب حتى قبل إنضمام المنطقتين رسمياً للتمرد الذي قاده العقيد الدكتور جون قرنق في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما مهرت دماء الجنوبيين كذلكأراضي المنطقتين كمقاتلين في الجيش الشعبي الذي قاتل أفراده في جميع الجبهات بغض النظر عن الإنتماء العرقي لجبهة القتال. إن من حق أبناء المنطقتين تضمين خيار الإنضمام للجنوب في حقهم في ممارسة حق تقرير المصير كخيار جيد جداً مع حق خيار الإستقلال، أو البقاء في الشمال.
رغم علمنا بأن الجنوب دولة فاشلة بإمتياز إلا أن السودان لا يقل فشل عنه إذا ما وضعنا في الإعتبار بأنه كان للسودان بنية تحتية للدولة عند الإستقلال لايمكن مقارنتها مع الجنوب عند إستقلاله، ورغم هذا فإن هناك العديد من المشكلات المزمنة والأمراض يمكن للمنطقتين تفاديها في حالة إنضمامهما للجنوب، من أهمها أن شعب المنطقتين لن يضطر أن يخوض مع الشمال معركته الوجودية مع ويلات الحداثة (كما يسميها بعض مثقفيه)، وبالتفكير في مشكلة العلمانية وفصل الدين عن الدولةفإنها ستنتفي تماماً مع الجنوب ولا يمكن القول أكثر من هذا. ولا ننسى بأن الضجة الحادثة في الشمال الآن بسبب تضمين رئيس مجلس السيادة البرهان لبند فصل الدين عن الدولة لإعلان المبادئ الموقع مع الحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو مع التحفظ على كلمة العلمانية هي مجرد موافقة مبدئية على التفاوض على هذا البند – ولهذا سمي إعلان المبادئ – قد تسفر عن أي نتيجة وغالباً ستنتهي إلى كائن مشوه لن يسر منظره أحد. في الحقيقة حتى إذا إنتصرت وجهة نظر الحركة الشعبية في هذا البند في المفاوضات مع بقاء المنطقتين في الشمال فإن هذا يعتبر مكسب حضاري للشمال أكثر منه للمنطقتين اللتين هما أصلاً علمانيتين روحاً ونصاً، وإذا ما إنضمتا إلى الجنوب كما قلنا لايوجد شيء في هذا البند يتم التفاوض عليه. وربما نقول في حالة البقاء في الشمال مع إقرار العلمانية فيه بأن الفائدة ستعود على أبناء المنطقتين الذين يعيشون بأعداد هائلة إن لم يكن أغلبهم في الشمال، حيث تم تجريفهم وإخلائهم من مناطقهم الأصلية ليتم إستغلالها وإستغلالهم هم أنفسهم وإعادة إنتاجهم ليصبحوا شماليين من الدرجة الثانية والثالثةويساهموا في إعادة إنتاج المتبقي منهم، إلا أن هذه الفائدة فائدة وهمية على الورق حيث أن السودان كان علمانياً حتى وقت قريب وربما كان وضع أبناء المنطقتين في الشمال وقتها أسوأ مما هو عليه الآن. وإذا وزنا وضع الحريات الدينية والمعتقدات الشخصية في الجنوب ربما كان أفضل من أوروبا حيث يتشدد الأوربيين في تطبيق العلمانية ويتحفظون على المظاهر الدينية بينما في الجنوب لايلقي أحد بالاً أصلاً لهذه المظاهر لأن هذه المظاهر كما في المنطقتين يمكن أن تجتمع في منزل واحد حيث يوجد الكجوري والمسيحي والمسلم واللاديني بصورة طبيعية لأن إنسان الجنوب والمنطقتين هو إنسان أفريقي أصيل بالنسبة إليه فإن الأديان الإبراهيمية نفسها حديثة وإعتنقها طواعية ولم تكتمل مؤسساتها لتدخل به في إشكالات كما حدث للأروبيين – مما جعلهم يقرون العلمانية – أو للعرب. وهذا ينطبق على المعتقدات الأخرى فلا أظن أن الشيوعي أو الليبرالي مثلاً سيعاني في المجتمع الجنوبي كما سيعاني في المجتمع الشمالي، فلن ينتظر منه أحد أن ينضم إلى صلاة الجماعة في المناسبات ويظل الإمام والمصلين ينظرون إليه بأطراف أعينهم بعد التكبير منتظرين إنضمامه الطبيعي للصلاة في أي لحظة ليكتشفوا بعد التسليم بأن ما حدث غير طبيعي. كما أن حقوق المرأة والطفل كإتفاقية سيداو والإتفاقيات الأخرى لم يشكل قبولها للجنوبيين أي مشكلة أو أزمة نفسية ولن يضطر أحد للصراخ أو التظاهر في الشمال مع خطر مواجهة المهوسين بالمرأة وجسدها دينياً للمطالبة بهذه الحقوق.
من الآمن القول عند خيار الإنضمام للجنوب بأن الترتيبات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ستكون حقيقية وستنفذ على أرض الواقع دون مناورات لإفراغها عن مضمونها. إذا عددنا خيارات الإنضمام فسنجد خياري الإنضمام ككونفدرالية أو فدرالية، وفي كلا الحالتين سيتم تطبيقه بسهولة حيث أن الجنوب ليس لديه ما يخسره، بما أن مساحات كبيرة محررة من المنطقتين محكومة ذاتياً ومستقلة مالياً وإدارياً ولن تشكل عبء من هذه الناحية لحكومة الجنوب ويمكن بعد ذلك دمج الميزانيات تدريجياً لتحقيق الأهداف المشتركة للدولة. وفي الحقيقة فإن أول نظام إداري مدني في المناطق المحررة عموماً قبل إنفصال الجنوب قد خرج من المنطقتين وإبتدعه المرحوم يوسف كوة مكي.وسيخرج علينا نفر غبي يعشق لواكة هذه الأفيونة وهي أن الجنوب دولة قبلية يسيطر عليها الدينكا وهم في إقتتال دائم مع النوير وغيرهم .. إلخ، وقد يتمادى ويقول بأن الأمر سيكون عبارة عن إستبدال حكم الجعليين وأبناء عمومتهم الشوايقة، والدناقلة بحكم الدينكا. ورغم أن مثل هذا المدمن الشقي الذي لايتحسس عورته المتسخة لايستحق الرد وقد تم الرد عليه كثيراً، إلا أنه يمكن أن يتم الرد عليه من زاوية أخرى صادمة ربما تجعله يصحو ويغتسل، وهي على الأقل فإن الدينكاوي حاول تحريري بينما تحاول إستعبادي حتى هذه اللحظة، الدينكاوي ومن يتقاتل معه من نوير وشلك وغيره من الجنوبيين حملنا السلاح معاً كشعوب على قدم المساواة لنتحرر منك أنت، إحترقنا معاً، تقاسمنا القوت والذخيرة معاً، مُتنا وأكلتنا الضباع في العراء معاً لنتحرر ولنحررك أنت نفسك، وهذا لايعني بأنه لم يكن هناك خلافات بيننا ولكنك العدو الأكبر، يتقاتل الجنوبيين بينهم بدون أوامر من السماء كقبائل أفريقية عادية في بداية تكوين الدولة الحديثةودون أن يحمل أحدهم في يده شجرة حسبة شريفة مختومة في كنتين في مكة، وسيؤوبون إلى رشدهم قريباً كما حدث في العديد من الدول الأفريقية وحتى إذا لم يؤوبوا قريباً فإن رشدهم لم يكن في يوماً ما أخبل من رشدك. لقد أقسم المرحوم جون قرنق اليمين أمام المرحوم يوسف كوة مكي في شقدوم، أبريل 1994م، على هيكل للحكم أسسه الأخير وكانت هذه لحظة إستقلالنا الحقيقية التي لم نستكملها في المنطقتين مع الجنوب، إن إستقلالنا لم يكن يوماً عندما رفع المحجوب وأزهري العلم المزعوم سوياً، فإن تاريخ رفع ذلك العلم كان تاريخاً مقلقاً للإنجليز والجنوبيين والمنطقتين وعموم الهامش معاً، لقد كان الجميع يتوقع ويعلم ماذا سيفعل الشمالييون. يجب أن ترى حقيقتك، لاشيء يجمعنا معك، أنت مُستَعِمر ليس إلا، إن الذين يشعرون من المنطقتين بأن ما يجمعهم معك أكثر مما يجمعهم مع الجنوب هم من نجحت في تنزيحهم وإعادة إنتاجهم أو إستعبدتهم حرفياً في الماضي، وإذا لم يعوا لحقيقتهم فهم حلالٌ عليك.
إن المنطقتين إذا إنضمتا للجنوب فإن فرصة أن يحكم نوباوي أو شخص من الأنقسنا أو الأدوك مثلاً الجنوب في إنتخابات حقيقية نزيهة هي فرصة عالية جداً لايمكن مقارنتها مع الشمال، لنفس السبب الذي يجعل عبدالعزيز الحلو رئيس مطلق حقيقي للحركة الشعبية شمال بجيشها وكادرها المدني والسياسي الذي ينتمي في معظمه للمنطقتين برغم عدم إنتماء عبدالعزيز العرقي لهما، ولكن لأنه ’’أسود‘‘ وهو عامل مهم، فالمشكلة لا يمكن إنكار أن من أهم جوانبها أنها مشكلة ’’سُود‘‘ وهي حقيقة ينكرها اليساريين واليمينيين الشماليين ويشدون لها شعورهم ويلطمون خدودهم ولايطيقون إعطائها حقها في تحليلاتهم رغم أنها حقيقة في غاية الوضوح والبساطة وشكلت تاريخ السودان والواقع الذي نعيشه الآن، ولها أدب عالمي كامل، إن اليساري واليميني الشمالي إذا كان مخلصاً ففي أحسن تقدير فإنه يعيش غربة كاملة ولهذا كنت مقتنعاً بأن اليساري الشمالي كان يمكنه حكم الإتحاد السوفييتي أو العراق أو مصر ببراعة بينما نظيره اليميني يمكنه حكم إيران ببراعة ولكنهم لا يستطيعون حكم قرية في السودان. ولكن الأمر كذلك ليس بهذه البساطة فتلفون كوكو كذلك ’’أسود‘‘ وهو نوباوي أصيل وله حق تاريخي في قيادة الحركة الشعبية وكذلك دانيال كودي، ولكن الحلو يحمل في يده خطاباً إقتنع به وإطمأن له أبناء المنطقتين وهو شخص أسود يعيش في المنطقتين ولايعرف له موطن أصلي غيرهما ولهذا كان إنتمائه لأحد القبائل الأصلية في المنطقة غير مهم وليس له علاقة Irrelevant بينما تلفون وكودي فالأول له خطاب يعطي إنطباع بأنه لأخ مسلم ملتزم في جماعة الأخوان المسلمين، ونحن نعلم مشكلة المنطقتين والجنوب سابقاً مع الأخوان المسلمين والفكر الإخواني عموماً وهو الفكر الرئيسي لجميع الأحزاب والتنظيمات الرئيسية الكبيرة في الشمال ويختلفون فقط في طريقة التطبيق، بينما كودي فقد البوصلة وإستسلم لخلافاته مع رفاقه ولمؤآمرات الشماليين. في الواقع فإن ياسر عرمان نفسه مع أنه لاينتمي للمنطقتين وليس أسوداً بالمعايير السودانية بل وينتمي لقبيلة صاحبة إمتيازات كان يمكنه أن يكون قائد مطلق للحركة الشعبية وجيشها في حالة غياب الحلو وعقار لأي من الأسباب دون أي تحفظات من أبناء المنطقتين لولا أنه قد إنحرف بأجندته بوضوح نحو إتجاهات شعر أبناء المنطقتين أنها لاتصب في مصلحتهم أو مصلحة إندماجهم في السودان بطريقة تضمن لهم حفظ حقوقهم من تغول الشماليين، وأعطى إحساس مؤسف بأنه قد عاد من حيث أتى. إن الجنوبيين يمكن أن يعطوا أصواتهم لشخص نوباوي إذا كان خطابه مقنعاً دون النظر للونه بطبيعة الحال كما هو في الشمال ويمكن للدينكاوي أن لا يعطي صوته للنويراوي والعكس صحيح ولكن لا يوجد ما يمنع كليهما من إعطاء أصواتهم للنوباوي لأن اللون لا علاقة له مطلقاً هنا ولهذا نظرياً فإنه يمكن أن يحكم الجنوب أو حتى جبال النوبة إذا إستقلت عربي فاقع الصفار إذا كان خطابه مقنعاً في أي إنتخابات نزيهة لأن المشكلة الحقيقية وقتها ستكون مشكلة ديكتاتورية أو ديمقراطية أو حتى مشكلة قبلية وليست مشكلة عنصرية تقوم على اللون أو العرق.
نستطيع القول أيضاً بأن الجنوب لن يخسر شيئاً بمنح الحرية الإقتصادية للمنطقتين، والتعامل الإقتصادي سيكون أسهل بكثير مع الجنوبيين كشركاء، بعكس الشماليين الذين يتعاملون إقتصادياً كمؤسسة جلابة لديها فوبيا هستيرية من الإستقلالية الإقتصادية للعرقيات السوداء والهامش عموماً. وكلنا يعلم بأننا لم نكن نسمع ولو بالخطأ بشيء إسمه رجال الأعمال الجنوبيين إلا بعد إتفاقية نيفاشا. إن عدم حشر الجلابة لإنوفهم بقيمهم الإستغلالية في إقتصاديات المنطقتين بدعم من الدولة السودانيةووقوفها الكامل خلف ظهورهم هو أمر حيوي ونقطة مفصلية لأي محاولات لتطوير إقتصاد حقيقي في المنطقتين لصالح السكان الحاليين والمواطنين الذين يفترض أن يقوموا بهجرة عكسية من الشمال. إن الشماليين يمكنهم التمتع بالإستثمار والأعمال في المنطقتين في حالة الإنضمام للجنوب بحسب قوانين الإستثمار والتجارة الجنوبية الفيدرالية وقوانين المنطقتين، وفي حالة المواطنة – حيث لا أحد يقول بأن الشماليين لايمكن أن يكونوا مواطنين في المنطقتين – فبالمنافسة الشريفة العادية التي تعود بالفائدة على كل المواطنين.
وبذكر المواطنة فإن إحساس سكان المنطقتين بالمواطنة قطعاً سيكون حقيقياً في حالة الإنضمام للجنوب، وقد عبر عن هذا صراحة عدد من أبناء دارفور وجبال النوبة الذين يعيشون في الجنوب بدواعي النضال أو التجارة أو غيره بقولهم بأنككمنتمي لهذه المناطق عندما تتجول في جوبا مثلاً تشعر بأنكفي وطنك بعكس تجوالك في الخرطوم. في الحقيقة فإن هذا الشعور مفهوم حيث أن مواطني الهامش السود في الشمال في أغلبيتهم محصورون في تجمعات سكانية ومجالات عمل محددة، وهذه الظاهرة نتاج لتقسيم العمل الصارم في المجتمع الشمالي كتعويض لفقدهم للعبيد، وعملياً فإن المجتمع الشمالي هو مجتمع فصل عنصري غير مكتوب فعال للغاية كما هو في الولايات المتحدة بعد تحرير العبيد. بينما في الجنوب ستجد الرئيس والوزير والغفير وجامع القمامة والطبيب والمهندسواللص والحقير والفنان والعازف والمذيع والضابط ورجل الأعمال والعتالي ستجدهم سود كالأبنوس أو غير سود، في كلا الحالتين لن يكون هناك شيء غريب أو غير طبيعي كأن تجد فنان نجم أو رجل أعمال كبير نوباوي مثلاً في الشمال أو نوباوي صاحبسيارة أو عقار فخم في الرياض أو الخرطوم ثلاثة أو الصافية أو حتى يأكل آيسكريم شهي في لذيذ. لقد تحرر الجنوبيين وأصبح لهم فنانين وعارضي أزياء ورياضيين عالميين حتى قبل إنفصال الجنوب، لقد أصبح الجنوبي مذيع في الإذاعات العالمية، أين كان هذا قبل الإنفصال؟ أو لم يكن لهم ألسنة ليغنوا أو يذيعوا بها أو عضلات يتريضون بها، أو لم يكونوا جميلين ليصبحوا عارضي أزياء. الغريب في الأمر أنه حتى في مصر القريبة والتي هي دولة عربية حقيقية، إذا سلمنا بأنها مرتفع ثقافي بالنسبة لنا فإنك تجد الوزير وجامع القمامة من نفس اللون، رغم أن مصر مليئة بالسود المصريين، لقد تجولت في القاهرة لقرابة الشهر وبحثت عمداً عن جامع قمامة أسود ولم أجد، إلا أنه بقدرة قادر فإن جميع جامعي القمامة عندنا من السود الشيء الذي أزعم أنه غير موجود في أي مكان في العالم. لقد كنت بمعية صديق لي من الشماليين أصحاب الأمتيازات (وهذا وصفه فعلاً ولا عيب في أن تكون صاحب إمتيازات، فهو قدر، ولكن العيب في أشياء أخرى ليس هناك مجال لذكرها الآن) في سيارته أمام سوبر ماركت راقي في إحدى الأحياء الراقية وبمعيتنا شخص آخر ترجل عن السيارة وذهب ليتسوق في حين كنا في إنتظاره، وبما أنها كانتالليلة التي تسبق أول أيام رمضان فقد كانت هناك حمى شراء وتجمع كبير للسيارات والمارة حول المحل وصفوف في داخله، لقد فشلت طول فترة إنتظارنا في أن أعثر على سحنة سوداء داخل السوبرماركت (واجهته زجاجية، يمكنك أن ترى كل من في الداخل) أو خارجه سوى صبي كان يقوم بغسل إحدى السيارات،ولسخرية القدر كان وراء السوبرماركت مكب للنفايات كنا في حذيته تماماً، ونحن نتجاذب أطراف الحديث سمعنا أصوات عالية مزعجة من جهة المكب وعند إلتفاتنا رأينا ثلاثة من أبناء الهامش السود – غالباً من النوبة – يقومون بالتقليب ونبش القمامة ورمي بعض المحتويات التي يبدو أنها ثقيلة على الأرض، بادر صديقي بالتعليق بكل صدق: (سبحان الله شوف في ناس ربنا جاعل ليهم قسمتهم هنا ده). بالطبع جاريته ببعض الهمهمات المؤيدة التي لا أذكرها، ولكن ما لم أقله له بأن الله لم يجعل لهم ’’قسمة‘‘ هنا ولكن ’’تقسيم‘‘ العمل في المجتمع الشمالي جعل ’’قسمة‘‘ أولاد البلد الشماليين في السوبرماركت و’’قسمة‘‘ من علق عليهم صديقي من أبناء الهامش السود في مكب النفايات تماماً على بعد خطوات وراء ذلك السوبر ماركت.في الحقيقة يمكنني أن أملاء مجلد ضخم بصور ولوحات معبرة من هذا النوع حيث أنني نفسي كاتب هذه السطور قد عشت لفترة طويلة في حي للطبقة الوسطى الشمالية، وهو موقع مثالي لهذا النوع من اللوحات والتي دوما تثير دهشة لا تنقطع من شدة عدم تخييبها لظنك بعضها مضحك ومؤلم للغاية ولايصدق لأن الحقيقة فعلاً أغرب من الخيال. ولا ينقصنا القول بأن هذه اللوحات لايمكن رسمها في جوبا.
في حالة خيار الإنضمام للجنوب يمكن الإفتراض بسهولة أنالترتيبات العسكرية والأمنية ستكون أسهل ولن تكون هناكهواجس مع جوبا كالتي مع الخرطوم. في الأصل فإن جيش المنطقتين هو إحدى تشكيلات الجيش الشعبي الأم التي تقاتل في الجبهتين الرابعة والخامسة جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق في حرب التحرير الثانية التي إندلعت رسمياً في العام 1983م وإنتهت في العام 2005م والتي كان الهدف منها توحيد السودان على أسس جديدة. ولهذا يمكن القول بأنه أصلاً جيش واحد بينما لا يوجد أي شيء يجمع الجيش الشمالي مع جيش المنطقتين ولهذا يحتاج الجيش الشمالي بشدة لدمج جيش المنطقتين في حالة أي توقيع لإتفاقية سلام. كما لا يوجد أي تهديد إستراتيجي أو مشكلة أمنية بين المنطقتين والجنوب تمنع المنطقتين من الأحتفاظ بتشكيلاتهم العسكرية كما هي وإعتراض الجنوب على ذلك، على الأقل لأطول فترة ممكنة كحماية ذاتية من الشمال أولاً ومن هشاشة الدولة الجنوبية نفسها، بل وربما يحمل هذا عبء أمني كبير عن حكومة الجنوب. ويتيح هذالقدامى القادة العسكريين في المنطقتين أخيراً الراحة وإلقاء السلاح وترقية صف جديد دورياً للقيادة وتجديد الدماء دورياً بإدراج أبناء المنطقتين رسمياً في المؤسسات التدريبية العسكرية الجنوبية لترفد الجيش المحلي للمنطقتين بالقيادات وإدراج جزء من أبناء المنطقتين في الجيش الفدرالي الجنوبي والعكس، بكلمات أخرى العودة للوضع الطبيعي الذي كان سائداً قبل إنفصال الجنوب. من المنطقي القول بأي حال من الأحوال فإن الترتيبات الأمنية بين المنطقتين والجنوب يفترض أنها ترتيبات بين أخوة لا تحمل في داخلها أي هواجس من الآخر والذي هوفي الأصل لم يكن آخر في يوم من الأيام.
إن من أهم التحديات التي يحاول بها أعداء تقرير المصير تخذيل وإحباط طرح هذا الحق هي تحديات الجيوب العربية والإسلامية في المنطقتين ومن المعروف بأن أغلبية كبيرة من الذين ينحدرون من المنطقتين هم مسلمون، ولكنهم في أصلهم مسلمون صوفيون لايتعارض إسلامهم مع دعاوي الدولة الحديثة، ولهذا فالمقصود هنا أصحاب الإسلام السياسي المدرسي من أبناء المنطقتين وهم في غالبيتهم من قامت الدولة بتربيتهم بمؤسساتها المختلفة وتأثروا بهذه التربية التعليمية والإعلامية والسياسية، وهؤلاء يجب الحوار معهم وفي نفس الوقت التعامل معهم بحزم كما في أي دولة علمانية طبيعية في العالم لاتسمح لأي أوهام من العصور الوسطى بتقويض الدولة. أما العرب فهم مكون مهم داخل المنطقتين، وفي الحقيقة لولا تدخل الحكومات الوطنية بعد الإستقلال لتنفيذ أجندتها العروبية فإن عرب المنطقتين لم تكن لديهم أي مشكلة في الإندماج والحياة مع جيرانهم لمئات السنين، ونستطيع أن نقول بأنه سابقاً وحتى الآن فإن مصلحة عرب المنطقتين هي مع بقية المكونات الأخرى في المنطقتين وليس الشمال، لقد حاول الشمالييون دمجهم معهم في ذيل جماعتهم المتخيلة ليكونوا كحاجز بينهم وبين السود وغير العرب الثائرين، إن فرص عرب المنطقتين في جميع النواحي أفضل بكثير مع إخوتهم في مناطقهم، ولقد رأينا كيف أن البقاري والدينكاوي والنوباوي تقاتلوا بلا هوادة وعندما نزحوا جراء هذا القتال للشمال فإنهم كلهم تحولوا لخفراء في هياكل المنازل حديثة التشييد في الشمال، وتلقوا نفس القدر من العنصرية والإزدراء. إن عرب الهامش رغم إمتلاك بعضهم للثروة الحيوانية إلا أن غالبيتهم أفقر بكثير من باقي أخوتهم في الهامش وأوضاعهم غاية في السوء، على الأقل فإن الهامش الأسود حاول تعويض سوء وضعه بالتعليم والتمدن مما خفف عنهم الأوضاع قليلاً إلا أن عرب الهامش في هذا الجانب لا زالوا بعيدين بفعل فاعل لأن تعليمهم وتمدنهم غاية في الخطورة بالنسبة للمركز من تعليم السود وغير العرب من الهامش وهو ما ينطبق على عرب المنطقتين تماماً. لقد كان العرب في المرحال يتركون أطفالهم لدي النوبة ينامون مع أطفال النوبة في فراش واحد بنات وأولاد ويأكلون نفس الطعام ويلبسون نفس الملابس، بل أدخلوهم نفس المدارس مع أبنائهم دون حتى موافقة ذويهم من العرب، ويسلم النوبة أبقارهم للعرب ليرعوها لهم ويزرع العرب لدي النوبةوهكذا، كما حكى لنا كبارنا من النوبة والعرب معاً، وهناك قصص عن العيش المشترك ربما لاتصدقها الأجيال الحالية في جبال النوبة. يجب أن ينتزع العرب وغير العرب في المنطقتينوخصوصاً جبال النوبة الإسفين الذي دقه بينهم الشمال، وجانب كبير من هذه المسؤلية يقع على الحركة الشعبية التي نستطيع أن نقول بأنها قد فشلت فشل بين في ذلك. وقد قلنا من قبل بأنه بالنسبة لحركات الهامش عموماً فإن أي جهد في التفاوض يجب أن يُبذل مع الجيران من عرب الهامش وليس مع الحكومات الشمالية لأن هذه عملية فارغة ولا يوجد أي مبرر إستراتيجي لها، وفي الحقيقة فإن هذا هو المدخل الوحيد الذي يتم به هزيمة الهامش وتشتيته، وبإنجاز التفاوض المذكور مع عرب الهامشيكون التفاوض مع أي حكومة شمالية على الأمر الواقع فقط الذي توصل له الطرفان الأفريقي والعربي في الهامش. إن عرب الهامش عموماً غير مؤدلجين ولايهمهم شكل الدولة بقدر ما يهمهم أن تحفظ مصالحهم. يجب التوافق على صيغة لتقرير المصير مع عرب المنطقتين ودمجهما في قضايا المنطقتين دون إستضعافهما (لأن وضعهم أضعف بكثير من عرب دارفور) حتى لو أدى ذلك للإتفاق معهم على تداول حكم المنطقتين في حالة إستقلالهما التام أو إنضمامهما للجنوب، وبما أنهم هم أنفسهم يعيشون في المنطقتين فإن مصلحتهم مع جيرانهم بالتأكيد أولى من مصلحتهم مع أي كان ولا ننسى بأن أموالهم كذلك موجودة في المنطقتين فإن ماشيتهم تاريخياً ترعى في المنطقتين وفي الجنوب وليس في الخرطوم.
كوكو موسى