في الأيام القليلة الماضية أعلن ولي عهد المملكة العربية السعودية أن الإسلام المتطرف الذي تبنته السعودية لعقود لن يستمر بعد الآن وأنه قد أعلن عليه حربا لا هوادة فيها. ويعج تويتر بتغريدات المتشددين المتخوفين من علمنة السعودية على يد محمد بن سلمان. ولكن ما يجري في السعودية ليس سوى انعكاس لهزيمة كامل ما يسمى بمشروع الأسلام السياسي، خاصة مع قرب انتهاء أكثر صوره تطرفا عبر القضاء على داعش في معظم المنطقة.
أما السودان والذي أصبح تحت حكم الكيزان، إحدى أوائل نماذج سيطرة الإخوان المسلمين والأسلام السياسي على الحكم، فإن عملية الأسلمة والتعريب القسري الذي وصل حد الابادة الجماعية، قد وصلت إلى أقصاها على بد هذا النظام. حيث أن مشروع صناعة السودان العروبي الاسلاموي يتعرض الان للهزيمة الأخيرة تحت حكم أقصى اليمين الاسلاموي المتطرف الذي طرح دولة المشروع الحضاري، والتى انتهت إلى دولة المشروع التجاري، حيث يتم الاتجار بالوطن والأرض والشعب والجيش وحتى القيم لصالح العصبة الحاكمة. وكما تقول الشاعرة مي زيادة فإن القمة هي بداية الانهيار. وقد وصل مشروع الاسلامويين للعروبيين في السودان إلى قمته، عبر استخدام أقصى درجات العنف للتخلص من غير العرب وغير المسلمين في البلاد. حيث أن الابادة الجماعية في دارفور قد أثبتت أن أزمة التعريب والاسلمة القسرية التي تقودها الدولة المركزية في السودان منذ الاستقلال هي أزمة سيطرة وهيمنة ذات طابع أثنى عنصري مركب وليست فقط أزمة دين كما كان المركز يصور الحرب ضد الجنوب الغير مسلم.
لكن الآن ومع وصول العنف إلى أقصاه فإن هذا المشروع العروبي الاسلاموي قد استخدم آخر أدواته، كما أنه اثبت عجزه التام في الوصول إلى غايته في تحويل السودان الي دولة عربية إسلامية كما يشتهي. فان الوعي لدى الشعوب الغير العربية مسلمة وغير مسلمة قد أدى إلى صناعة مقاومة حقيقية أدت إلى موضعة المركز والمشروع العروبي الاسلاموي في موقع الدفاع عن النفس. وهذه كانت بداية الهزيمة. حيث أن قدرة الوعي الجمعي واجتهاد مثقفي الهامش الأفريقي في إعادة تعريف الهيمنة والعنف وتحليل حالة الاحتراب الاهلي التي تقودها الدولة منذ الاستقلال ضد الأقاليم الغير عربية مسلمة وغير مسلمة قد انتهى إلى تصنيف تلك الدولة وتسمية ما تقوم به من ممارسات. وهذه هي أيضا بداية عملية التحرر على المستوى الفكري، حيث تمكن الهامش من تسمية هذه الممارسات وتقييمها على المستوى المحلي والدولي، مما جعل هذه الدولة الاسلاموعروبية هي نفسها تستخدم هذه المسميات لتعريف ذاتها. فلم يستسلم الهامش في مقاومته لقدرة السلطة المهيمنة على تصنيفه ووضعه في خانة التمرد والتعصب، والعنصرية، بل تمكن الهامش أيضا من وضع مسميات مثل (الدولة العروبية الاسلاموية) وغيرها من المصطلحات التي أسهم في تركيبها بلا شك بعض الأكاديميين من كل أنحاء البلاد. ولكن الأهم هنا هو أن هذه التسميات والتعريفات ذات الطابع السلبي جعلت هذا المشروع في موقع المدافع عن نفسه وليس موقع المهاجم.
وفي ظل تغيرات الواقع السوداني والتي صنعتها الحروب والعنف الذي استهدف القضاء على تلك الشعوب غير العربية وغير المسلمة، فإن الفرار من السودان الي دول المهجر قد أدى إلى تقديم فرص لبناء وعي ومعرفة وتقييم مختلف لواقع الحال في السودان. فلم يعد المركز وحده هو مصدر ومنتج المعرفة ولم يعد هو المسيطر على حركة الوعي في مناطق السودان المهمشة. ومع وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها فان العنف الذي أجبر الملايين إلى الهرب من قراهم إلى المعسكرات أو أطراف المدن، قد أعاد بناء الوعي بالأزمة السودانية لدى المجموعات المضطهدة بحيث أصبحوا يمتلكون مفاتيح تعريف ازماتهم وقدرات الدفاع عنها بأنفسهم. ولكن هذه الحقائق يبدو أنها لا تزال غائبة عن الكثيرين من القوى الاسلاموعروبية في المركز في كل توجهاتها السياسية يمينا ويسارا. ولا يزال البعض يحاول ان يلبس ثوب عبء الرجل الأبيض الذي عليه توعية الشعوب الجاهلة بمصالحها. لكنهم ينسون أن هذا عصر الفيسبوك وألواتس اب ولم نعد في مؤتمر جوبا 1947. لقد تغير الهامش بقدر العنف الذي وجهه له المركز وقد ازداد وعي الهامش بنفس حجم الابادة التي ارتكبها ضده المركز الاسلاموعروبي. حيث أن أقصى درجات العنف قادت تلك الشعوب إلى أقصى درجات الوعي.
والان ونحن نقف على اعتاب مرحلة جديدة في السودان، حيث لم يعد الاسلامويين هم الاسلامويين ولم يعد المشروع الحضاري حضاريا، ولم يعد اليسار ثوريا، فإن الهامش لم يعد أيضا ضعيفا ولا جاهلا. ومبررات منع الجنوبيين من وظائف السودنة بحجة أنهم لا يمتلكون الكفاءة قد انتهت، فمن أبناء الشعوب التي تعاني الحروب في السودان من لديهم قدرات على مستوى عالي في كل المجالات الان. ومع انتهاء خيارات الاستمرار مابعد العنف المفرط للمشروع الاسلاموي العروبي في السودان بعد تجربة الكيزان التي تمثل أقصى درجات تطبيق هذا المشروع، فإن هذا المشروع الان في حالة موت سريري. فالآن هذه الأيام تشهد الخرطوم مهرجانا للموسيقى الأفريقية وأصبحت الملابس الأفريقية هي موضة الشباب، من بينهم أبناء الإسلاميين أنفسهم. ان التغييرات التي تجري الآن تقر بأن مشروع الأسلمة والتعريب في السودان في حالة موت غير معلن. ولا يخشى أبناء الأجيال الشابة من إعلان افريقيتهم، بل ويفخرون بها كما أنهم لا يتوجسون من نقد عروبتهم المزعومة التي تروج لها الدولة. ولكن من يخشى إعلان موت هذا المشروع هم أصحاب المصالح الذين لا يزال هذا المشروع يقدم لهم أمتيازات لا يتخيلون الاستغناء عنها أو التنازل عن بعضها. ولكن المستقبل لن يظل رهينا لوقت أطول في أيدي هذه عصابة أصحاب المصالح ، وسيعلن موت مشروع القتل والإبادة الاسلاموعروبي في السودان لا محالة مهما حاول الكثيرون تأجيل هذا الاعلان، الا ان عجلة التاريخ لن تتوقف وستسير حتما في اتجاه الحقيقة والعدالة.
عثمان نواي