المجلس التشاركي المزمع تكوينه من مجاميع الطيف السياسي للمرحلة الانتقالية، يمثل شراكة حقيقية للقادمين من جوبا عبر وثيقة السلام وسانحة طيبة للإسهام الفاعل في إدارة مؤسسات الحكم، وهذه تعتبر المرة الأولى التي يأتي فيها الذين تمردوا على سلطان الدولة المركزية على صهوة الجواد الذي لا كبوة تعترض مضماره، حيث أن كل الحجج التي أدلى بها السابقون من الوالجين لباب السلام من شاكلة (لم يمنحونا السلطات الحقيقية)، لن يجدها الانتقاليون الجدد، ولا مكان لمثل هذه الشاكلة من المبررات التي لا تجد لها طريقاً إلى أذن المواطن بعد أن يتسلم رموز السلام مهامهم السيادية ويتسنموا سلطاتهم التنفيذية، فعدد الشهور والأيام المضافة لزمن الفترة الانتقالية بناءًا على إلزام الأتفاق ليست بالعمر المديد، وسوف تنقضي بين غمضة عين وانتباهتها ويواجه المنتقلون بسيل من الأسئلة الحائرة والدائرة بين شح الرغيف وانعدام الجازولين، إضافة إلى ملفات اللجوء والنزوح التي هي من اكثر القضايا تعقيداً، ليس في طرائق إعادة المشردين إلى أرضهم وتأمين العيش الكريم لهم، وإنما في التشرذم السياسي وتقاسم ولاءات هؤلاء النازحين واللاجئين بين القوى المسلحة المشاركة في عملية الانتقال من جانب، وبين تلك الفصائل الممانعة والرافضة للاندغام في الجهاز الحكومي الجديد من الجانب الآخر، وبين هذا الشد وذلك الجذب تكون المرحلة المنوط بها تهيئة الساحة السياسية للانتقال إلى الوضع الدستوري الضامن لاستدامة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، قد دخلت نفق الفشل.
الحزم الدستورية المنصوص عليها بالنسب المئوية في بوروتوكولات سلام جوبا، بعد دمج الطرف الآتي من حاضرة الجنوب في حكومة الانتقال، تلزم هذه المنظومة الجديدة بالوفاء لهذا الأستحقاق الدستوري المستهدف للمجتمعات، وعليه لابد أن يحذر الموكول إليهم أمر التوزيع العادل لهذه الاستحقاقات أن يتعظوا من الأسباب والدوافع التي ألهمتهم تأليف السفر الأسود الكاشف عن اختلال ميزان العدل المركزي، بمعنى أن يهبوا المجتمعات التي دفعت ثمن مآسي الحرب هذه المنجزات التاريخية التي أتى بها كتاب السلام، وعندما نقول بضرورة إشراك المجتمع فإننا نعني تنزيل هذه المستحقات لعامة الناس لا أن تكون دولة بين رموز النخبة، تحسباً لعدم إعادة إنتاج صفوة مركزية أخرى تكلف المهمشين حرب ضروس ثانية لاسترداد الكرامة والحقوق، وربما علم الحاملون لأعلام السلام عظم حجم التحدي بعد ان هبطوا على مدرج مطار الخرطوم، وبعد أن استقبلتهم نوافذ الإعلام المحلي بسلسلة متتابعة من الاستفهامات واللقاءات الباحثة عن إجابات لفك طلاسم أزمة الوطن المستحكمة منذ عهود، والإيحاء للمواطن بأن ملائكة الرحمة قد حلت بأرض السودان متوكأة على العصا الموسوية الساحرة، فهذه واحدة من مظاهر الحرب الناعمة التي يقودها الصراع السياسي المعتمد على الوسائل المدنية.
القوى السياسية المشاركة بفاعلية في هذه المرحلة المؤقتة عليها أن تعمل للغد لا أن تستكين للحظة الحاضرة، هذا مع ضرورة أن تتحمل الأعباء والمسؤوليات الوطنية لوضع الأساس المتين لبنيان الدولة الذي ينقذ الناس من تبعات هشاشة المؤسسات الحكومية وتشوهاتها، ذلك العبء والواجب القومي المزيل (للدغمسة) المتراكمة عبر الحقب والسنين، لا أن ينجر شركاء الانتقال إلى ميادين التناحر والتشاكس والتضاد التي عهدناها في السودانين المعاصر والقديم، وفي هذا الصدد لا مفر من القضاء على ظاهرة التكالب على الوظيفة العامة من باب الفعل السياسي، واستئصال المفاهيم الخاطئة التي تخلط بين دور رجل السياسة وواجبات الموظف الحكومي، والتي تشجع المواطن على أن يتخذ من العمل العام مصدراً للرزق وأساساً لتحقيق الرفاهية الشخصية، يجب تصحيح هذه التصوارت الشاذة التي شرع في تلافيها سابقاً الراحل قرنق بمقولته المأثورة (علينا تغيير نظرتنا تجاه الحكومة باعتبارأنها مصدر لنهب الثروات)، فكل هذا التداعي التكالبي الذي تشهده ساحات العاصمة المركزية هذه الأيام لا يخدم جهود تعبيد الطريق المؤدي لبناء دولة المؤسسات.
العامل الفيصلي والجوهري في نجاح الحكومات هو مدى وفاءها لبطون الجوعى وصحة المرضى، فبعد أن يخلص الانتقاليون من تنسيب الشركاء الجدد سينفتح الباب الواسع والكبير لدخول وإطلالة رأس الغول الاقتصادي الذي أرسل الطاغية إلى (كوشة) التاريخ، فالسنة المالية الجديدة على الأبواب وسكان البلاد يستبشرون بعودة الفاتحين سلماً، ولسان حالهم يقول سئمنا حمدوك وحق لنا أن نأمل في انفراجة على أيدي من خفقت على إثر خطاهم رايات السلام، ولا أدري هل هو حسن الحظ أم سوء الطالع الذي سوف يلحق بالفاتحين الجدد، باعتبار أن الموازنة العامة الواجب إعدادها سوف تلقي بثقلها على أكتاف حملة عرش المنظومة الجديدة، ومن يكون ذلك الوزير المالي المقتصد الذي يضمه التشكيل الوزاري المرتقب؟، وهل ستكون هذه الحقيبة المحورية من نصيب القدامى أم الجدد، لو يدري هذا الوزير المنقذ أن مستقبل المرحلة الانتقالية برمته مرتبط بحنكته ودرايته ومقدرته في الخروج من الأزمة المعيشية، وأن هزيمة بعبع الغول الاقتصادي قد علّم عمالقة الحكام والديناصورات العتيقة من السياسيين والسياسيات ما لم يكونوا يعلمون، لما قبل بالتكليف، فعلى وزير المال المرتقب أن ينظر إلى سماء الخرطوم الملبدة بالغيوم والتعب والضنك و شدة البأس ومرارة الفقر وشح الرغيف وخلو (الطرمبات) من الجازولين والبنزين.
اسماعيل عبد الله
[email protected]