واشنطن : صوت الهامش
ناشدت الدكتورة عائشة البصري، المتحدثة السابقة باسم البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في دارفور الـ(يوناميد)، المجتمع الدولي بألا يرتكب خطأ لا يمكن إصلاحه في دارفور إذا هو قررّ خفض حجم قوات اليوناميد نهاية الشهر الجاري.
واستهلت البصري مقالا -نشره موقع هفنجتون بوست الإلكتروني- بالعودة بالأذهان إلى ثلاثة عشر عاما مضت، عندما أعلن المجتمع الدولي عن وقوع عملية إبادة جماعية في إقليم دارفور؛ إلا أن الأمم المتحدة آنذاك أنكرت مخاوف الكونجرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي، قائلة على مضض إن ما حدث إنما هو مجرد اعتداءات في الإقليم الغربي من السودان، وعلى أثر ذلك تم إرسال قوات حفظ سلام هنالك لحماية المدنيين.
وعادت البصري إلى الزمن الحاضر، قائلة: “اليوم، ها هي الأمم المتحدة مرة أخرى تُضلل المجتمع الدولي عبر الدفاع عن خطتها لخفض نحو نصف قوة حفظ السلام الموجودة، على نحو يُعرّض بلا شك حياة ملايين المدنيين للخطر. هذا القرار مبني على الأكاذيب ذاتها والخداع وعمليات التستّر التي شاهدتُها عندما كنت أخدم كمتحدث رسمي باسم اليوناميد في الفترة بين اغسطس 2012 إلى أبريل 2013”.
وأضافت البصري “أثناء الثمانية أشهر التي خدمتها في دارفور، رأيتُ كيف تقترف قيادة اليوناميد الكذبة الكبرى: وقد أعلن قائدها الأول -السياسي الكونجولي رودولف أدادا- في 2009 أن حرب دارفور قد انتهت. وبدعم من إدارة عمليات حفظ السلام في نيويورك، قام القادة وكبار المسئولين في اليوناميد بالتستّر على جرائم مروعة ارتكبها نظام الخرطوم عبر اختزال الحرب في دارفور إلى مجرد ‘نزاع لمكافحة التمرد’ بين الحكومة السودانية ومتمردي دارفور؛ هذا الخداع ساعدهم في التستّر على حرب مدمرة شنّها نظام عمر البشير المتعصب ضد مدنيّي دارفور ممّن معظمهم من أصول غير عربية، على مدى أكثر من عقد من الزمان حتى الآن”.
وتابعت البصري “على مدى أعوام، لجأتْ بعثة اليوناميد وإدارة عمليات حفظ السلام لكل حيلة ممكنة لإخفاء الحقيقة بشأن القصف الحكومي المتعمّد وعمليات القتل الجماعي والتشريد القسري لمدنيين عُزل من قبائل الـزغاوة والـمساليت والـفور. وقد التزمتْ اليوناميد وإدارة عمليات حفظ السلام- الصمت إزاء الاغتصاب المنهجي ضد النساء والفتيات وفظائع أخرى عديدة كانوا يوّثقونها بعناية بما في ذلك المذبحة التي تمت تحت رعاية الحكومة في الحرب على مناجم الذهب بـجبل عامر”.
ومضت البصري قائلة “أثناء خدمتي في دارفور، شاهدتُ كيف أخفى قادة اليوناميد وشركاؤهم في نيويورك حقيقة أن الحكومة السودانية بدلا من نزع سلاح ميليشيات الجنجويد السيئة السمعة -كما طالب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1556 لعام 2004- بدلا من ذلك قامت الحكومة على نحو صفيق بتحويل وزيادة تسليح وإعادة تصنيف الجنجويد لتصبح ‘قوات الدعم السريع’ الأكثر فتكًا تحت قيادة أجهزة استخبارات الدولة السيئة السمعة”.
وقالت البصري “ولما رفضتُ أن أشارك في مؤامرة الأمم المتحدة ضد المدنيين الأبرياء، تقدمتُ باستقالتي من منصبي، واضعة نهاية لـعشرة أعوام في المنصب ومتعهدة بأن أفضح عمليات التستّر تلك من جانب الأمم المتحدة؛ وقد ساهمتْ شهادتي مشفوعة بتحقيق أجرته مجلة الفورين بوليسي، في تحريك المحكمة الجنائية الدولية طالبة من الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون بإجراء ‘تحقيق شامل ومستقل وعلني’ ؛ لكن بان كي مون عمد بدلا من ذلك إلى عمل ‘استعراض في غُرَف مغلقة داخل المنظمة’ وقد وجد هذا الاستعراض أن بعثة اليوناميد أخفتْ بشكل روتيني عن الأمم المتحدة أدلة تثبت مسئولية قوات حكومية سودانية عن هجمات دموية ضد مدنيين وعناصر من قوات حفظ السلام؛ ومع ذلك وعلى الرغم من وقائع إجرامية كثيرة إلا أن استعراض بان كي مون أصرّ على أنه لا يوجد دليل على عملية تستّر متعمدة”.
ورات صاحبة المقال أن “اليوم، من الواضح أن إخفاق بان كي مون في التحرّي بشكل مناسب وتقديم المخطئين من مسئولي الأمم المتحدة للمساءلة إنما تمخض عن تشجيع كلا من اليوناميد وإدارة عمليات حفظ السلام على الاستمرار في تشويه الحقائق والادعاء مرة أخرى بأن الحرب قد انتهت وأن الوقت قد حان للبدء في سحْب قوات حفظ السلام من المشهد الذي وصفه بالحق موكيش كابيلا -رئيس بعثة الأمم المتحدة الأسبق في السودان وأول مَن دقّ ناقوس الخطر في دارفور- بأنه “عملية الإبادة الأكثر نجاحا في العالم”.
وتابعت البصري قائلة “في 14 يونيو الجاري، قال الأمين العام المساعد لعمليات حفظ السلام، القاسم وين، لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إن الحكومة السودانية قد قلصت وجود التمرد في دارفور وأن الوضع الأمني قد تحسن بشكل كبير إلى درجة أنه أوصى بتخفيض قوات اليوناميد والشرطة بنسبتَي 44% و30% على التوالي في خطوة على طريق الخروج النهائي”.
ورصدت البصري في هذا الصدد، تعليق دانييل بيكيلي، من منظمة هيومان رايتس ووتش، قائلا ” إن التخفيضات المخطط لها تعكس سردية مضللة عن الحرب في دارفور”.
وقالت البصري: “بالفعل، إنما تحدث القاسم وين عن ‘النزاع المُنْحسر لمكافحة التمرد’، لكنه لم يقل شيئا عن الحرب التي تحميها الأمم المتحدة، والتي شنتها الحكومة السودانية ضد المدنيين من غير العرب؛ لقد فوّت القاسم فرصة ذهبية لإخبار الهيئة المكونة من 15 عضوا أن تقرير اليوناميد المغطّي للربع الأول من عام 2017 أكد زيادة ملحوظة في انتهاكات حقوق الإنسان والاعتداءات مقارنة بنفس الفترة في 2016، كما أكد التقرير ذاته أن قوات الحكومة السودانية استمرت في منْع قوات حفظ السلام من حماية المدنيين”.
وأضافت البصري: “إن القاسم لم يخبر المجلس أن قوات الدعم السريع، والتي تعني ‘فِرَق موت الجنجويد’ لا تزال هنالك تهاجم وترهب نساء ورجالا وأطفالا عُزلا في مخيمات دارفور، وأن تلك الميليشيات المتجبرة هاجمت مئات القرى عامي 2015 و2016 واعتدت على المزيد في مايو 2017، بحسب منظمة الهيومان رايتس ووتش ومصادر أخرى موثوقة”.
وتساءلت صاحبة المقال: “كيف يمكن للقاسم أو أي مسئول آخر محترم، أن يوصي بخفض نحو نصف قوات اليوناميد بينما إقليم دارفور لا يزال تحت حالة الطوارئ حيث نحو2,7 مليون نسمة يعيشون حالة من التشريد القسري، و1,6 مليون يعيشيون في 60 مخيما؟ كيف يمكنهم اقتراح خفْض 36 موقعا للفِرَق إلى 18 موقعًا فقط، بينما هم يعلمون أن كلا من تلك المواقع يعتبر ملجأ آمنًا لآلاف المدنيين الفارّين من هجمات الجنجويد التي لا تنقطع؟ وأين ينشد الدارفوريون الأمان والملجأ إذا ما تخلى عنهم المجتمع الدولي على هذا النحو الخطير؟ وإذا ما غادرت بعثة اليوناميد، فمَن ذا الذي سيتولى حراسة عُمّال الإغاثة الإنسانية الذين يكافحون لحماية الحياة في إقليم دارفور المنسيّ؟
وطالبت البصري مجلس الأمن بضرورة الإجابة عن تلك الأسئلة لدى اجتماعه لتجديد مهمة اليوناميد قبل نهاية يونيو الجاري؛ و”بدلا من سحْب القوات رغم الحاجة الماسة إليها، ينبغي على هيئة الأمم المتحدة اقتراح طُرُق لوقف عمليات الذبح المستمرة للمدنيين في دارفور عبر إيجاد سلام مستديم وقابل للحياة، وإخضاع مرتكبي الإبادة من أعضاء النظام السوداني للمساءلة”.
ورأت البصري أنه “عبْر الاستسلام للخطط الضعيفة والخبيثة التي يوصي بها القاسم وغيره، فإن مجلس الأمن وديمقراطيات العالم التي تدفع بتلك الخطط – سينفذون رغبة النظام السوداني بحذافيرها والمتمثلة في ألا يكون هنالك شهودٌ دوليون على الأرض عندما ينتهي النظام من تنفيذ أجندته الخاصة بالإبادة”.
وشددت الكاتبة على أن “أعضاء المجلس ينبغي أن يعلموا أن رحيل كل عضو من أعضاء بعثة حفظ السلام عن دارفور إنما يعني ترْك مئات الآلاف من المدنيين خلفه دون حماية؛ إن السماح ببدء خروج اليوناميد يعتبر خطوة رئيسية في التطبيع مع الإبادة وغيرها من الفظائع في دارفور وما وراءه”.
واختتمت البصري قائلة “في نهاية الشهر الجاري، ستسنح للمجلس فرصةٌ تاريخية لتفادي وقوع ضرر لا يمكن علاجه في دارفور؛ آمل من كل قلبي أن يغتنم المجلس تلك الفرصة”.