بقلم عثمان نواي
على اتساع مدي النظر إلى المشهد السوداني، سياسيا، ثقافيا أو اجتماعيا، نجد أن القاسم المشترك هو سيطرة الكهول على قمة السلطة. من الأسرة الي القبيلة إلى النادي إلى المنتدى إلى الحزب السياسي والمؤسسة الثقافية والمنظمة المدنية وطبعا عبر كل مؤسسات الدولة واتحادات المهن المختلفة انتهاءا طبعا برأس الدولة الذي تعدي منتصف السبعينات من العمر. يختنق شباب السودان تحت عناوين الأبوة والمشيخة والإمامة وتحت مسميات القيادات التاريخية والنخب المستنيرة والقامات ذات الخبرة ، حيث يحتل الكهول قيادة ركب الوطن بنظرة محدودة وقاصرة، ليس فقط نسبة لضعف البصر نتيجة لعامل السن، بل أيضا نسبة للبعد عن الواقع من جهة ومن جهة أخرى نسبه لأن هؤلاء الكهول هم احد اهم اسباب الأزمات التي يعتقدون أنهم يقومون بحلها.
فعلى قمة الأحزاب الطائفية نجد الأئمة في نهاية الثمانين وفي الأحزاب اليسارية نجد الكهول الذين تعدوا السبعين أيضا في قمة هياكل الأحزاب. حتى الكيزان يراسهم الشيوخ من شيخ الترابي إلى شيخ السنوسي وشيخ نافع والمشير البشير الذي حتى ركبتاه خذلتاه في الرقص الرشيق في الاحتفالات فأصبح يرقص مكانك سر وترك العرضة إلى غير رجعة بعد تركيب الركب الصناعية.. ورغم ذلك هناك شباب حول الرئيس، كل ما لديهم القدرة على الوصول إليه هو أن يكونوا (حوله.) . فهؤلاء الشباب حول الرئيس اختاروا موقعهم بعناية لأنهم يعلمون انهم لن يستطيعوا أن يكونوا مكانه أو بديلا له إبدا.
في الوقت الذي يحكمنا على كل مستويات والسلطة كهول ضعفت أبصارهم وخذلتهم ركبهم وانحنت ظهورهم، فان العالم من حولنا ينتفض على شيوخه. وتحدث عملية انتقال السلطة بكل مستوياتها إلى أجيال شابة في كل العالم من الاول الى الثالث.. ففي زمن التحديات التي تحتاج إلى إبداع وسرعة في الإنجاز، فإن الشباب من أكثر الدول تقدما كفرنسا إلى أكثرها رجعية مثل السعودية، فإن الشباب يقودون الأمم نحو المستقبل. فكل من تعدى الستين أصبح غير قادر بشكل فعلي على صناعة تغييرات خلاقة الا بمساعدة كبيرة من شباب أيضا على مستويات السلطة المختلفة. فحتى ترمب في أمريكا يعتمد بشدة كما هو معروف على ابنته وزوجها وغيرهم من الشباب في إدارة ملفات حساسة، وذلك لأنه مدين لهم بمساعدته على الفوز من الأساس.
هناك عالم متغير حولنا و انترنت يحمل معه قدرات هائلة للتعبير والابتكار والتنوع، بينما لا يزال كبار السن الذين يقودون السودان محصورين في عهد البيانات والندوات والخطب الرنانة. الآن تويتر ب 140 حرف يحكم العالم، وهذا ما يفعله ترمب منذ صعوده إلى السلطة . كما ان الامر يتعدي التكنولوجيا إلى القدرة على استيعاب مختلف التغيرات والتحديات على مستوى المجتمع. ان الشيوخ المصرين على التمسك بالسلطة في السودان لا يدركون مشاكل الشباب السوداني الذي يمثل أكثر من 60 ‰من ألشعب، فنحن أمة شابة للغاية. حيث أن أكثر من 45 في المائة من السودانيين هم بين 16 و35 عاما. فحتى إذا تحدثنا عن الديمقراطية فإن حكم الأغلبية يجب أن يجعل الشباب هم المسيطرون لكن كلا وهيهات. فإن الشيوخ الكهول على قمة كل كيان حزب أو نادي أو اتحاد أو أي كان يصدرون الأحكام علي الأجيال الجديدة بأنها غير واعية وغير مسؤولة وتهتم بسفاسف الأمور. في حين أن الواقع يثبت العكس تماما.
ان الشباب الان هو الذي يموت في البحار بحثا عن فرص للعيش بكرامة لإعالة آلاف الأسر التي عجز فيها الآباء عن اعالتها وتحمل تكاليفها.. لذلك يضحي هذا الشباب بروحه ومستقبله لاجل تحمل مسؤوليات الآباء الذين في بعض الأوقات يقدرون هذه التضحيات ولكن في أوقات أخرى ينضمون إلى ركب الاحكام السليية تجاه الشباب خاصة عندما يتعلق الأمر بأبناء الآخرين. فعلى مستوى المجتمع يقولون ان هذا جيل (قليل الادب ولا يحترم الكبير). ان هذا الجيل لم يجد كبيرا يستحق الاحترام، فالاحترام يكتسب ولا يمنح بلا سبب. وان كبار هذا الوطن من النخب الحاكمة إلى الي قادة القبائل إلى شيوخ الطرق الصوفية الي نخب المثقفين، كل هؤلاء من الأجيال القديمة ليسوا سوى سيرة متصلة من الخذلان وتاريخ مستمر من صناعة الأزمات.
تلك الأزمات التي صنعتها هذه الأجيال منذ الاستقلال في كافة المجالات ويتم مطالبة الشباب الان بحلها! ان هؤلاء الشباب يقومون وحيدين بحل ما ورثوا من أزمات، لأنهم لم يجدوا غير تلك الأزمات. فالشباب الذي وجد وطن تاريخه مزور وحاضره فاسد ومستقبله مظلم ليس أمامه سوى البحث عن مخارج سواء علي المستوي الشخصي أو الجماعي. فاختار بعضهم الهجرة والاغتراب مهما كان الثمن، وبعضهم الذي بقي في الوطن خياراته بين التجنيد في الامن أو الجنجويد من ناحية، أو السمسرة والجلوس على أرصفة الشوارع أمام ستات الشاي أو سواقة ألركشات والأمجاد. ومن كان موهوبا بصوت جميل فقد امتطي المكرفون يغني عن حال جيله الذي وجد وطنا في القاع فكيف لا يتغنى بكلمات وصفت بالهابطة. في حين لا ذنب للكلمات والشعراء ولا حتى المغني في هذا الهبوط الإضطراري. فان الوطن بأكمله يهبط، ابتداءا من مساحته التي هبطت من مليون ميل مربع بمقدار 30%. مرورا بعملته التي عامت ثم غرقت وبين هذا وذلك هبطت أهم القيم وهي قيمة الإنسان الذي أصبح يتوسل الكرامة بين معسكرات النزوح وأبواب دواوين الزكاة وموتا او عبورا من شواطئ المتوسط.
ان هذا الشباب الذي كفر بالماضي بكل أشكاله التي تمثلها الأجيال الأكبر، وكفر بالصور المزوة للامس الجميل الذي لا ُيري له أي أثر في الحاضر، هذا الجيل يصنع الان تغييرات عميقة ومعادلات جديدة تنتمي إلى واقعه بكل ازماته الموروث منها والجديد الذي نتج عن ذلك الموروث. فهذا الشباب الذي حاول بعض منه صناعة ثورة تشبه الربيع العربي، يقوم بصناعة ثورات صغيرة كل يوم. اولا عبر الرفض بالاجماع السكوتي ليس فقط للنظام ولكن لكل بدائل النظام من النخب السياسية العجوز التي لا زالت تطرح نفسها بديلا للنظام ورفض الانقياد لها . ان هذا الرفض يتجلي في عدم الاستجابة المستمرة لنداءت القوى السياسية للتظاهر، في الوقت الذي صنع فيه شباب مستقلون أهم الثورات منذ قيام الإنقاذ وهي ثورة عفوية لحد كبير لا يستطيع أي حزب الادعاء بأنه صنعها أو امتلاكها انها ثورة سبتمبر التي كان ضحاياها ال 200 من شباب صغار لم يصل بعضهم ال18 سنة. فحتى الثوريين الحقيقيين داخل الأحزاب القديمة هم من الشباب الذي يبدو أنه لن يصبر طويلا على هولاء الشيوخ بل هو فعليا يخرج من أحزابهم الهرمة التي اصبحت نوادي للونسة ليس لها أي قدرات على الفعل والتأثير في المجتمع.
ان الشباب اليوم هو أيضا منقسم على ذاته إلى شرائح اقتصادية وحتى أثنية وثقافية ولكن الفوارق بين هذا الجيل هي اضعف بكثير من أي جيل سابق لأن مجموعة على الواتس أو الفيس يمكن أن تجمع بين كل مكونات المجتمع السوداني من فئة الشباب. هذا الشاب يتفق تماما بكل شرائحه على أن هذا الوطن بهذا الشكل لن يمضي إلى الأمام وأن كل الاجيال القديمة لا تفهم واقع البلد ولاتستطيع حل ازماته لأنها هي التي صنعتها، فالمجرم لا يمكن أن يصبح هو نفسه القاضي والجلاد. لذلك فإن تحديات هذا الجيل بصعوباتها وتشعبها تحتاج إلى قفزات كبيرة على كثير من القضايا القديمة وإيجاد حلول آنية احيانا لمواجهة هذا الواقع. في مجالات متنوعة وعديدة وبشكل مبدع تقوم هذه الأجيال بمبادرات فريدة وأحيانا مذهلة ومتجاوزة للنخب بحثا عن حلول عملية لأزمات هذا الوطن. وعبر مقالات قادمة سأحاول تلمس بعض التيارات التي تصنع مشهدا مغايرا للواقع السودانى في كل المجالات. ان هذه الأجيال الجديدة تقاتل معركة وجود في هذا الوطن، وهي تتجاوز تماما الأجيال القديمة حتى في موضع المشورة، بحثا عن حلول جذرية ومستدامة لأزمات السودان المتطاولة الأمد والمعقدة التكوين كل في مجاله، ليس فقط سياسيا بل في كل مجالات الحياة هناك حلول وتوجهات جديدة يقودها شباب بعضها ناجح فعليا وبعضها لا زال يتطور. وعلى أعتاب ذكرى الاستقلال فإن حال السودان الذي لا يسر، والمهدد بالانهيار التام تحت قيادة الكهنة الكهول، لا يمكن أن يتغير هذا الحال سوي بإكمال الثورة على هؤلاء الموتى الأحياء أو (الزومبي) الذين يقودون الوطن إلى الدمار، وإحلال قيادات شابة مكانهم تمارس سنة الحياة في التجديد وهذا التغيير هو التغيير الأساسي الذي سيسبق عملية التحول الجذري في السودان.
على مستوى الوطن الرحيب أتقدم بأحر الأمنيات بأن يكون العام القادم هو عام النقلات الثورية التاريخية لكل أشكال السلطة من أصغر كيان إلى رأس الدولة إلى يد الشباب الذي عليه تنعقد كل الامال في صناعة الاستقلال الحقيقي الذي يحرر الوطن من أوهام الماضي وينطلق به نحو آفاق المستقبل اللامحدود.
nawayosman@gmail.com