عبدالغني بريش فيوف
سحبت الخرطوم قبل ما يزيد على أسبوعين من تأريخ اليوم، سفيرها من العاصمة المصرية القاهرة للتشاور حسب بيان مقتضب لها دون أن توضح للشعب السوداني أسباب السحب والإستدعاء. ولم تمر سوى ساعات قليلة على استدعاء السفير إلى الخرطوم حتى إمتلأت الصحف السودانية بأخبار تزعم بوجود تهديد أمني على الحدود الشرقية للسودان ، متهمة مصر واريتريا والإمارات بالوقوف وراءه.
وعلى وقع تلك المزاعم المشوهة، اغلقت الخرطوم حدودها مع دولة اريتريا، وطلب حزب المؤتمر الوطني الحاكم من عضويته لبس “الكاكي” ، والإستعداد للدفاع عن الوطن حسب بيان اصدره قبل أيام. كما اعطى سفاح السودان عمر البشير الأوامر لمليشياته من قوات الدعم السريع من الجنجويد بقيادة سارق الحمير محمد دلقان دقسو الملقب بـــ”حميرتي”، وفطايس الدفاع الشعبي من الدبابين، ومليشيات قبلية أخرى، للتوجه إلى الحدود الشرقية للسودان للدفاع عنه.
إن التهديدات التي يقول بها نظام الخرطوم، لا وجود لها في أرض الواقع، إنما هي تهديدات وهمية متخيلة أرادها النظام كوسيلة للهروب إلى الأمام والفرار من ورطة زيادة أسعار الخبز والكهرباء التي اخرج الشعب للشارع في بداية هذا الشهر للتظاهر والإحتجاج.
أنا ابتداءاً لا أنفي وجود بعض القضايا الشائكة بين السودان ومصر -كقضية “مثلث حلايب” -وقضية عصابات الإخوان المسلمين التي تروع أمن مصر وأهلها بالتحرك من الحدود السودانية -وقضية سد النهضة بين اثيوبيا والسودان ومصر.. لكن هذه القضايا ليست بجديدة حتى تصعد الخرطوم لهجتها السياسية والعسكرية تجاه القاهرة وكمان تقحم معها اريتريا ودولة الأمارات العربية اللتان لا مصلحة لهما في هذه المعمعة.
ولأن اتهامات الخرطوم لمصر بحشد قواتها داخل دولة اريتريا لمهاجمة السودان ، وهمية ومتخيلة فقط في عقول “أهل الإنقاذ”، فقد رد عليها الرئيس عبدالفتاح السيسي باسلوب ساخر: قائلا يوم الأثنين 15/1/2018 (أن بلاده لن تشن حربا على السودان، مشددا في الوقت نفسه على حرص القاهرة على عدم صدور “أي لفظ مسيء” تجاه السودان أو أي دولة أخرى.
وقال السيسي: “أرجو كمصريين أن نحافظ على حرصنا على عدم صدور أي لفظ مسيء للسودان أو لأي دولة أخرى”، مضيفا: “لن نحارب أشقاءنا في السودان”.
وتابع: “أوكد لأشقائنا في السودان وأثيوبيا نحن لا نتآمر على أي دولة، لا نناور ولا نقول تصريحات عكس توجهاتنا”.)، وكأن الرئيس المصري يقول ..إنما الضرب على الميت حرام.
عزيزي القارئ..
النظام السوداني أجبن من أن يدخل في مواجهة عسكرية “حرب” مع مصر أو اريتريا أو أي دولة أخرى ، لكنه يجيد تماما كيف يهرب من مسؤولياته وواجباته ،ولأن التهرب من الوقوف وجهاً لوجه أمام الأزمة الإقتصادية ووضع الحلول الناجعة لها هو نهج أصيل عند سلطة لا تهمها راحة الشعب، بل مرتاحة لما أنتجته تجاربها القمعية في إرهاب الناس وشل دورهم في التعبير عن أراءهم بحرية ، وربما لأنه نظام اعتاد الرهان على عامل الزمن ويأمل بهروبه إلى الأمام لكسب مزيد من الوقت عساه يحمل له جديداً يساعده على إعادة الأمور إلى سابقها.
النظام يأبى الاعتراف بأزمات المجتمع ومشكلاته المختلفة، ولا يريد وبعد ثماني وعشرين عام في الحكم ، الإقرار بفشل خياره وبأن ما تمر به البلاد هو نتاج أزمة سياسية وتحتاج لحلول سياسية، بل قاعدته الوحيدة هي الهروب نحو تصعيد العنف واستخدام مختلف وسائل القمع والقهر التي يمتلكها، وها هو اليوم يهرب من مسؤولياته بالحديث عن تهديدات متوهمة من مصر واريتريا ، لكن الشعب السوداني لم يعد يصدق أي كلام يصدر عنه.
المحاولات المستميتة التي يبذلها النظام المأفون من أجل الإمساك بزمام الأمور في السودان، باتت بالغة الصعوبة ولم يعد بوسعه المزيد من الإستغفال والمضي في هذا الإتجاه المعقد، ذلك ان التقارير الواردة من هنا وهناك تؤکد بأن الاوضاع قد بلغت مستويات غير مألوفة وإستثنائية، وأصبح الموقف بالنسبة للنظام أصعب ما يكون ، بل وأن بعضا من هذه التقارير تشير إلى أن النظام لم يعد بإمکانه الإمساك بزمام الأمور كما كان في الالمور السابق، وأنه صار يتخوف ويتوجس ريبة من کل شئ سيما بعد التحرکات الإحتجاجية الأخيرة في البلاد، وكان لابد عليه أن يأتي بكذبة وفرية التهديدات المصرية الأريترية الإماراتية للحدود الشرقية للسودان للهروب للأمام، لكن لم يعد هذا الاسلوب يجدي نفعا خصوصا بعد أن بدأت الإحتجاجات الجماهيرية ضده تتصاعد يوما بعد يوم.
إن خير طريق لنظام الإنقاذ هو أن يغادر السلطة اليوم قبل غد، ويترك الشعب السوداني يقرر مصيره السياسي. أما تضخيم الصورة بواسطة تزويد النرجسية بعنتريات فارغة المحتوى، والهروب للأمام بخلق أزمات وهمية مع دول الجوار الإقليمي بشكل تصنعي يجعل المتأمل للمشهد الكوميدي يستلقي على قفاه من شدة الضحك ، سيرسم نهايته عاجلا لا آجلا.