من الواضح جدا أن التطورات التي لازمت الأزمة القطرية ساهمت بشكل سلبي في رفض الحكومة الأميركية رفع العقوبات، ونعتقد أن كلمة الرفض أوضح من محاولة القول بتأجيل رفعها. ولكنها هي لغة الدبلوماسية التي لا تجهر بالوضوح في أحيان كثيرة. ولا بد أن قرار الرفض قد نتج عن استشارة دول المنطقة، خصوصا السعودية التي كانت تريد مكافأة السودان لوقوفه معها في حرب اليمن، وقبلها قطع علاقته مع الدولة الإيرانية، وآيات هذه المكافأة استخدام النفوذ السعودي في التأثير في القرار الأميركي. ولكن فالمملكة ـ ودول محورها أيضا ـ عبرت باكرا عن عدم الرضا بموقف السودان الوسط من أزمتها مع قطر. فقد رفضت مبادرة الوساطة السودانية لحل الأزمة، كما أن تصريحات سفير المملكة في الخرطوم كانت مؤشرا واضحا لضمور العلاقة بين البلدين بعد أن حاول النظام اللعب في أتون الفسحة بين المحورين.
ولا شك أن موقف الخرطوم الرمادي هو ذات الموقف الذي حاولت اتخاذه عند نشوب أزمة دخول صدام الكويت في مستهل التسعينات. ولعلها اتبعت تلك الرمادية حافرا بحافر في أزمة الدول الأربعة مع حليفتها القوية قطر. إذ يتذكر الكثيرون أن الترابي وقتذاك قاد وفدا إسلاميا – عربيا للتوسط بين العراق وبقية دول الخليج. وقد رُحب به بالفعل في بغداد. ولكن حين حاول زيارة بلدان الخليج رُد على عقبيه، وسفهت مبادرته، وعنف الملك فهد البشير في مؤتمر القمة العربية الذي سبق تحرير الكويت. أما الآن فالتاريخ يعيد نفسه ما يعني أن هذه الموقف الرمادي السوداني سيثمر عن عدم رضا لهذا الطرف أو ذاك حين يجد الجد، وتدلهم الخطوب.
إن رفض رفع العقوبات يمثل أول العواقب التي لا محالة ستترى في حال مواصلة النظام السوداني في اللعب بالبيضة السعودية والحجر القطري. ولا ننسى أن تعيين الفريق طه المغضوب عليه كان يمثل أيضا رسالة مبكرة للحكومة السودانية بأن الرياض لا ترضى إلا بإتمام ركوع البشير للمحور السني المعارض لإيران. والسؤال الأساسي هو أنه كيف ترجم استراتيجيو الحكومة خطوة استعانة السعودية بطه في هذا الظرف الذي تلعب فيه الضربات الاستخباراتية دورا فاعلا في الكيد لدول المنطقة بعضها بعضا؟ الحقيقة أن استعانة السعودية بطه الذي جنسته حين كان مديرا لمكتب البشير يعني لا بد أنها ربحت كثيرا في توظيف “بلطي استخباراتي” في مستقبل العلاقة بين النظامين. ولا شك أن طه صرح من قبل أنه، وليس الخارجية السودانية، أو البشير حتى، هو الذي ساهم في تخفيف العقوبات الأميركية على البلاد. والسؤال الآخر: هل ساهم طه هذه المرة أيضا بمعلوماته التي أمدها للسعوديين في التأثير في رفض رفع العقوبات الأميركية بعد أن اكتشفوا أمرا مخفيا داخل بنية النظام؟. كل شئ وارد. ولكن تعيين طه المنبوذ من البشير في الخارجية السعودية حالا لا يمثل سوى الصيد في البركة العكرة.
إذا عدنا لتصريحات السفير السعودي في الخرطوم التي اضطرته لعقد مؤتمر صحفي بعد رفض كتاب النظام مضمونها نجد أنه كرر تصريحه بأن على السودان أن يقرر موقفه في حال فشل وساطة الكويت. ولا يمكن أن يستغرق السفير في هذا الوضوح الخارج عن عرف اللغة الدبلوماسية المبطنة ما لم يكن قد تلقى توجيهات بهذا الشأن من الرياض، والتي تقوم بتنسيق كامل مع مصر في هذا الملف. وحقيقة أن مطالبة الطيب مصطفى بطرد السفير السعودي، وتعاطفاته مع قطر في البرلمان تعبر، بلا شك، عن حقيقة موقف الكوادر الإخوانية في النظام. فضلا عن ذلك فإن التهجم الشرس للطيب مصطفى القريب من دوائر الرئيس على السفير السعودي يعطينا تفسيرا لغضب النظام من خطأ تفسير موقفه الوسط والذي به بعض الميلان لقطر، كما كان الميلان للعراق حينذاك، خصوصا بعد أن وافق السودان على رعاية المصالح القطرية في صنعاء، والتي يعدها محور السعودية بأنها لا تتجاوز دعم التيارات الإسلاموية المتطرفة. وما أدرانا ربما أوعز الرئيس للطيب مصطفى بكتابة ذلك المقال خصوصا أن الصحافة والمطبوعات لم تستدعه بعد نشر مقاله وهو مقال لا بد أنه يسهم في ابتزاز الرياض، من ناحية أخرى، بأن السودان يملك بعض مفاتيح اللعبة بعد أن أرسل الآلاف من جنده الذي يحارب لصالح السعودية ارتزاقا. ويجب أن نذكر أن هجوم الطيب مصطفى على القذافي بعد عملية الذراع الطويل أدى لإيقاف صحيفته بعد أن استجابت الخرطوم لشكوى ليبية. ولكن لماذا لما تعطل “الصيحة” بتفسير أنها تضر بالأمن القومي، كما هو حال الانتباهة يومذاك.
مصر من جانبها ظلت صامتة منذ أن بدأت بوادر انقشاع الهجوم الإعلامي بين مؤيدي نظامها ونظام البشير. ولكنها ما تزال تتحين الفرص للتضييق على إخوان السودان، وتخريب مجهوداتهم الدبلوماسية الإقليمية والدولية، خصوصا الولايات المتحدة. ولكن تقارب مصر الشديد مع إدارة ترمب لا بد أن ينعكس على شكل العلاقة بين الرئيس الجمهوري والسودان. فقبل يومين سرب موقع العربية السعودي خبرا بأن مصر طالبت بإبعاد الدول الراعية للإرهاب عن المحور الذي كونه ترمب والملك سلمان لمحاصرة الدول المتطرفة أو الإرهابية.
يقول الخبر إن مصر طالبت “بإخراج الدول الداعمة للإرهاب من التحالف الدولي ضد تنظيم داعش. وأكد وفد مصر خلال اجتماعات مجموعة الاتصال الإستراتيجي بالتحالف الدولي ضد داعش، والتي بدأت أعمالها اليوم في العاصمة الأميركية واشنطن أنه لم يعد مقبولاً أن يضم التحالف دولاً داعمة للإرهاب، أو تروج لخطاب الإرهابيين في إعلامهم”. وأضاف متحدث باسم الخارجية المصرية “أن الوفد المصري في الاجتماع سيقدم مزيداً من الأدلة التي تبرهن على دعم دول بعينها للتنظيمات الإرهابية وضرورة بلورة موقف حازم تجاه تلك الدول، والتوقف عن سياسة المهادنة أو إنكار الواقع..”.
والسؤال هو ما هي بقية هذه الدول التي “بعينها” بعد أن ذكرت مصر في العاصمة الأميركية قطر فقط؟ لا بد أن الإجابة عند السيسي نفسه، والذي طالب أثناء مقابلته الرئيس المجري “بمواجهة دولية ضد من يمول الإرهاب ويدعمه بالمال والسلاح والمقاتلين ويسانده سياسيا وإعلاميا..” بلا أي تورية أن السيسي يستبطن النظام السوداني أيضا في تصريحه، إذا نظرنا للمواجهة غير المباشرة بين دعم السيسي لحفتر في ليبيا ودعم السودان وقطر لحكومة طرابلس. وكما نعلم أن الإعلام المؤدلج للنظام السوداني يساند إعلاميا إخوان مصر ويعادي حلفاء السيسي في ليبيا.
إن الاجتماع الذي صرح فيه وفد مصر في واشنطن قبل ثلاثة أيام من رفض الولايات المتحدة رفع العقوبات لا بد أن اثر في الموقف الأميركي من العقوبات ضمن تأثير خطوط الاتصال السالكة بين نظام السيسي ونظام ترمب. فذاك الاجتماع الذي عقد في العاصمة الأميركية، والذي لا يضم السودان وهو منبثق من مبادرة الرياض انعقد تحت لافتة “اجتماعات مجموعة الاتصال الإستراتيجي بالتحالف الدولي ضد داعش”. ولا ندري إن كانت الحكومة السودانية على علم بذلك الاجتماع، أو قد وجهت لها الدعوة لحضوره، أو أعلمت بمقرراته.
ولكن المؤكد أن الحكومة الأميركية تلعب دورا محوريا في مثل هذا الاجتماعات وتعمل بتوصياتها. وبخلاف هذه التصريحات المصرية فإن إدارة ترمب تلقي بثقلها على الجانب المصري في ما خص الإرهاب والذي يجعل اوليته متصلا بتنظيم الإخوان المسلمين العابر للقارات، وليس الجماعة المصرية فحسب. وفي هذا فإن لا أحد يناكف في أن أولى أوليات السيسي تعويق الدبلوماسية السودانية إقليميا ودوليا، ونتذكر أن المندوب المصري في مجلس الأمن قد طالب بالإبقاء على العقوبات الدولية المفروضة على الخرطوم بشأن دارفور. وقد وصف غندور موقف مصر الأخير بأنه قد “شذ عن كل مواقفها السابقة طوال السنوات الماضية، حيث كانت دائما الأكثر دعما للسودان في مجلس الأمن..بالنسبة لنا هذا موقف غريب، ونتمنى ألا يكون انعكاساً لبعض الخلافات الطفيفة بين البلدين..”.
المشكلة الحقيقية للنظام السوداني في كل مواقفه عند هذه الأزمات المماثلة يحاول التراوح بين الالتزام الأيديولوجي وبقائه في السلطة. ولكنه في خاتم المطاف تأتي عواقب الموقف لتحرمه من استقرار مصالح بقائه، أو التزام سدنته بالموقف الأيديولوجي الراديكالي. ما يقر في ذهن الإخوان هو أنه لا بد من التذاكي على الدول الإقليمية والدولية. ولكنه لا يملك ضمانات بأن هذه الدول تنطلي عليها هذه المواقف الحربائية للبشير وأعوانه. ما ضر النظام السوداني شيئا لو حافظ على ماء وجهه الأيديولوجي، واعتمد التصالح مع شعبه، بدلا من أراقة ماء وجه الإخوان المسلمين السودانيين المتقربين زلفى لمن يسمونهم في غرف الأنس “شيوخ الخليج..ونصارى الغرب”…!