إبراهيم إسماعيل إبراهيم شرف الدين
النضال الحقيقي يكون في قلب الحدث وليس من وراء البحار، والمناضلون الحقيقيون يواجهون الموت والمتاعب في ساحة المعركة التي ليست بالضرورة أن يحملوا فيها السلاح فينشرون الرعب والدمار في أوطانهم فالحوار هو السلاح الوحيد القادر على تحقيق النصر لصالح الوطن وليس لأي فريق أو حزب أو جماعة مسلحة. التغيير لن يتحقق عن بعد والتواري خلف شاشات الفضائيات والحواسيب أو المكوث في الأدغال والعواصم الأجنبية.
لم تعش دارفور قبل عام ٢٠٠٣م ما عاشتها بعده فالقرى كانت آمنة نسبيا والحياة على طبيعتها والناس يمارسون أنشطتهم اليومية في أمن وسلام المزارعون والرعاة يعيشون جنبا إلى جنب والتجار يسافرون من المدن إلى القرى والضواحي دون أن يعترض أحد طريقهم الا ما ندر صحيح كانت هناك حوادث نهب مسلح يقوم به بعض قطاع الطرق وعصابات النهب المسلح ولكن ليست بهذه الدرجة من الفظاعة والجشع الذي يدفعهم للسطو على المصارف واختطاف المركبات والأشخاص فلا شك أن هناك من له اهداف شخصية فاتخذ من إثارة الفتنة التي اذكت شرارة الحرب القذرة مطية لتحقيقها؛ تجار الدماء وامراء الحرب الذين أشعلوا شرارتها ولاذوا بالفنادق مصطحبين أسرهم وأطفالهم إلى المدن السودانية الوادعة وإلى أوروبا واميركا حيث الرفاهية والترف تاركين النازحين واللاجئين في مخيماتهم والمحرومين في المدن والبوادي يكتوون بنار الحرب التي اشعلوها باسم التحرير والديمقراطية.
تتعارض فكرة القومية مع الفطرة والأخلاق والدين والتطور. ويقول الله تعالى في كتابه الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ولم تتمكن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا من التفوق على شعوب العالم إلا بعد أن توحدت وارتدت عن الأفكار القومية العنصرية المتطرفة ووهم التفوق العرقي، على الأقل داخليا القانون يقف على مسافة متساوية من كل الأديان والاعراق والألوان. ولذلك إذا اراد السودانيون النهوض ببلادهم أن يتعلموا من تجربتهم الدموية الطويلة والفاشلة في الحرب الأهلية التي مازالت مستمرة منذ خروج المستعمر في كانون ثاني يناير عام ١٩٥٦م من القرن الماضي.
أثبتت التجربة العملية فيما يتعلق بالأزمة السودانية المعقدة أن الحل ليس في إسقاط الأنظمة أو منح الشعوب التي تتمترس خلف الافريكانية في مقابل العروبة، وترفع شعارات التحرير الزائف حق تقرير المصير الذي لم يضع حدا للعنصرية واحتكار السلطة والتطهير القبلي وتصفية الخصوم السياسيين والمجاعة والنزوح والفساد وكل أشكال الظلم والإستبداد والاستعباد في دولة جنوب السودان الحرة. اي تحرير بعد خمسين عاما من حرب عبثية طاحنة اهلكت الحرث والنسل، استنزفت فيها موارد بشرية ومادية كانت بامكانها الارتقاء بالسودان وشعوبها بمختلف اعترافهم وثقافاتهم وليس جنوبه أو شماله أو غربه أو شرقه ووسطه فحسب إلى آفاق أرحب ومراتب البلاد المتطورة فيما لو استغلت هذه الموارد استغلالا صحيحا، ولكن ما الذي يدفع الجنوبيين إلى القتال فيما بينهم بعد تقرير المصير وتحرير بلادهم؟؟
ومنذ خروج بريطانيا قبل أكثر من ستة عقود مرت على سدة الحكم حكومات وأنظمة كثيرة ولم يتغير وضع السودانيين، فما زال الفقر المدقع يضرب باطنابه على الشعب والسودان يتصدر قائمة الدول الفاشلة بحسب التقارير الدولية. ولكن المؤسف حقاً أنه أي حزب أو فئة اتيحت لها فرصة الحكم كانت تكرر نفس التجربة وتكرس موارد البلاد في الانتقام وتصفية حسابات شخصية مع الخصوم السياسيين وهي ثقافة ابتدعها بعض رموز المهدية قبل قرن ونيف فتلك حقبة من عصر سحيق اكل الزمان عليه وشرب ولكن للأسف الشديد مازال السودانيون يحملون الضغائن ويتوارثون هذه الاحقاد جيل عن جيل فلابد من وضع حد لهذه الحماقة والحقد الذي لم نجن منه غير الدمار والخراب.
ويستغل الغرب الأزمات الإنسانية والكوارث الطبيعية للتدخل في شؤون الدول ولايجاد موطئ له للتنقيب عن النفط واستكشاف الكنوز في باطن الأرض وما فوقها كما يسعى بكل الطرق لزرع بذور الفتنة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد عبر استغلال المعارضه ومايسمى الحركات الثورية بتغذية الأفكار القومية المتطرفة والكراهية العرقية والقبلية، ولكن بالرغم من أن حق تقرير المصير مكفول في العهود والمواثيق الدولية كحق طبيعي كالحق في الحياة غير أن الغرب لايسمح بممارسته في أراضيه ولذلك أضحت أميركا قوة عظمى بفضل الإتحاد وتخطي هاجس القبيلة والعرق والدين كما تلاشت حدود الدول في أوروبا بينما هم يحرضون الانفصاليين في إفريقيا والشرق الأوسط على الإستقلال والانفصال عن أوطانهم.
ولم تسلم المعارضة والحركات التجارية المسلحة في إقليم دارفور التي تتهم الحزب الحاكم بالتهميش واحتكار السلطة من ممارسة الإقصاء والتفرقة القبلية والجهوية والتمييز على أساس الدين والعرق فظلت رئاسة حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي بما فيه الحزب الشيوعي السوداني على سبيل المثال لا الحصر حكرا على أسر بعينها أو شخصيات منحدرة من جهة واحدة. وتمارس مايسمى بالحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان التي أصبحت محض ضيعة قبلية تسيطر فيها أقلية قليلة من مكونات السودان على القرار وتستغل بعض المخدوعين باسم التهميش وشعار السودان الجديد المضروب لتحقيق مكاسب قبلية وشخصية لا تمت بالمصلحة الوطنية بصلة. وانشطرت مايعرف بحركة تحرير السودان التي أصبحت كالاميبيا إلى أكثر من خمسين جسم على أساس قبلي أو عشائري أو جهوي فصارت لكل خشم بيت او أسرة حركة مسلحة بسبب الجشع والطموحات الشخصية، وورث رئيس إحدى الحركات المسلحة شقيقه الذي قضى في غارة جوية مجهولة ضاربا بدستور الحركة ومؤسساتها إن وجدت عرض الحائط.
وتتجلى انتهازية ونفاق قادة المعارضة والحركات المسلحة بما فيها منظمات المجتمع المدني، في عدم التزامهم بالقوانين والشعارات التي يطلقونها، فما الذي يجعلهم يتنافسون على الزعامة ويقاتلون بعضهم البعض حتى قبل وصولهم للسلطة إذا هم يؤمنون اصلا بالتغيير والديمقراطية؟؟ ولذلك فإن تجربة دولة جنوب السودان هو السيناريو المتوقع حدوثها في حال نالت اي جهة استقلالها عن السودان الوطن الذي يسعنا جميعا فيما لو احتكمنا للحوار والاحترام المتبادل والاسوأ الذي ينتظره الحالمون بالتغيير على الأقل إنزلاق البلاد إلى فوضى عارمة.
التغيير الحقيقي يبدأ بالنفس وضرورة تنقيتها من الاحقاد والجشع والأنانية التي تحرك آلة الموت والاقصاء. المطلوب منا جميعا أفراد وجماعات على المستوى الرسمي والشعبي أن نضع مصالحنا وامننا القومي المتمثل في الوحدة الوطنية نصب اعيننا وذلك يتحتم علينا ايضا سد جميع الثغرات التي يستغلها المستعمرون لاختراق امننا القومي وضرب وحدتنا الوطنية في مقتل كما علينا العمل جنبا إلى جنب بصدق واخلاص وان نحتكم للحوار الجاد في المسائل والقضايا الخلافية مهما كانت درجة الاختلاف وعلى كل الأطراف التحلي بالحكمة والصبر والاحترام فالحرب مدمره وغير ذات جدوى سوى استنزاف للموارد واهدار للوقت والأرواح من أجل لا شيء.