المجموعة السودانية للديمقراطية اولا
نتشار الرشوة أينما كان يعود فى الأساس لتوُفر البيئة الحاضنه للفساد و تقاعس الأجهزة الرسمية المنطوب بها محاربته بتطبيق القوانين الرادعة للحد من هكذا ممارسات، هذا بالإضافة للتدهور الأخلاقي والقيمي الناتج عن هذه البيئة. كما معلوم ، للرشوة ، كأحد أنواع الفساد ، مضار اقتصاديَّة، سياسيَّة، اجتماعية وضياعاً لحقوق الناس وفقداناً لهيبة الدولة، وهي من مؤشرات الفساد في الحكومات والمجتمعات، وتفشَّيها في السودان ليس غريباً؛ فقد جاء السودان في المرتبة الرابعة للدول الأكثر فساداً في العالم في تقرير منظمة الشفافيَّة الدوليَّة السَّنوي حول الفساد في العالم،وحاز السودان على المرتبة 165 من أصل 167 دولة شملها التقرير الصَّادر في يناير من هذا العام 2016.
تعتبر الرشوة جريمة في القانون الجنائي لسنة 1991 كما نصَّت على ذلك المادة 88 منه التي تقرأ (من يرتكب جريمة الرشوة، يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سنتين كما تجوز معاقبته بالغرامة وفي كل الأحوال يصادر أي مال تم الحصول عليه بسبب الجريمة) يشمل ذلك الموظف العام و متلقى الخدمة والوسيط، أي الرَّاشي والمرتشي ومن يعاونهما.
من الشائع الآن في كثير من المرافق الحكومية إعطاء وتلقي الرشاوى ، التي لم تعد تحمل ذات الاسم، فبعضهم يسميها (رُقْعَة) او (تمشيَّة) أو (تَسَليك) أو (تسهيل) لتسهيل أي من المعاملات الرَّسميَّة. وكغيرها من المرافق الحكومية نجد أن الشرطة السودانيَّة لم تنأى بنفسها عن دائرة الرشوة المتعاظمة ابتداءً من أدنى الرتب فيها وتدرجاً لأعلى الرتب.
من الملاحظ أن عملية الرشوة في قطاع الشرطة أصبحت ممارسة معلومة لدى قيادات الشرطة و لوزارة الداخلية ، إلا قيادة هذه الجهات الحكومية تفتقر للأرادة السياسية و المهنية لمحاربة هذه الظاهرة . فمثلآ فى إحدى جلسات البرلمان التى حضرها وزير الداخلية ، كال النواب الأتهامات لوزارتة ، المسئولة عن قطاع الشرطة ، حول استشراء الرشوة بين أفراد الشرطة، و حكت النائبة البرلمانية سامية هباني قصة تورط أحد أفراد شرطة المرور في رشوة مع ابنها الذي كان يقود سيارته في شوارع الخرطوم. استهجن وزير الداخلية ذلك الأمر ، وأشار إلى ضمنيآ أن السبب هو ضعف رواتب الشرطيين وطالب بزيادتها منعاً لتفاقم ظاهرة الرشوة. (صحيفة الراكوبة الإلكترونية نقلاً عن صحيفة الأهرام اليوم 12 يناير 2010).
مثال آخر لمعرفة قيادة الشرطة بهذا النوع من الجرائم ، الرسالةٍ الموقعة بواسطة المجموعة التي أطلقت على نفسها “الضباط الوطنيين” و المعنونةً إلى وزير الداخلية بتاريخ 25 ديسمبر 2013 والتي جاء فيها: (أخي الوزير ابحث ونقب وانظر وتأمل واستخلص ما حولك من أشخاص ومكان وآليات تنفيذ، ابدأ بالسؤال عن مرتب الشرطي وما يتقاضاه من أجر، الشرطي الذي يعمل بحكم القانون أربعة وعشرين ساعة في اليوم، فلم تهتم القيادة بأن يسعوا إلى تحسين وضع الشرطي، إنما كان السعي نحو تجنيب الأموال خصماً من مستحقات الشرطي والميزانيات لتحقيق كسب ذاتي كاذب بإطلاق الأسماء المشخصة على المباني دون مراعاة شعور العباد والقوة التي تعيش المسغبة، والنتيجة أن اتجهت غالبية القوة إلى الرزق الحرام سرقة وارتشاء). (صحيفة حريات 1 يناير 2014)
من الملاحظ أيضآ أن معظم الذين يقرون بوجود الرشوة فى معظم تعاملات أجهزة و أفراد الشرطة ، يحاولون تبرير الظاهرة لضعف مرتبات أفراد هذه المؤسسة و يتجاهلون البيئة السياسية و الأجتماعية من مؤسسات الدولة و نظام حكم و ولوغ القيادات السياسية للحزب الحاكم و أسهرهم فى الفساد . فالخبير القصادى محمد إبراهيم كبج ، يرى أن رواتب الشرطة تجعلهم عرضة للإغراءات وتضعهم تحت دائرة الفساد ، كما ورد فى صحيفة آخر لحظة بتاريخ 29 أكتوبر 2015 .كذلك وصف الفريق شرطة محمد أحمد علي مدير شرطة ولاية الخرطوم الأوضاع المالية لأفراد الشرطة بالتردي و السؤ وطالب بمساواة رواتبهم مع رواتب الجيش والأمن، وأضاف لدى مخاطبته جلسة المجلس الأعلى للتخطيط الاستراتيجي لولاية الخرطوم “ما في رواتب ما في شغل”، واعترف مدير شرطة ولاية الخرطوم بتساقط أعداد كبيرة من الشرطة بمغادرة أفرادها للخدمة. وأشار إلى أن خطورة هذا التساقط تكمن في تحوَّل أفراد الشرطة السابقين لمجرمين بدلاً من عملهم السابق في حماية المواطن. (راديو دبنقا، 7 يونيو 2014).
تشجعِّ مثل هذه التبريرات استمرار وضعيات الفساد وتناميها، بحيث لا تقتصر على المبالغ التي يتقاضاها بعض صغار الضباط وضباط الصَّف والجنود كرشوة من المواطنين الذين يعانون أصلاً من الضيق الاقتصادي والشُّح، بل أنها سوف تتطور لتصل لمبالغ ضخمة ورتباً كبيرة في الشرطة ومناصب عليا في الحكومة.
للأستدلال بحالات بعينها لهذه الممارسة الغير قانونية أو أخلاقية ، حكي مواطن ، فضَّل عدم ذكر اسمه ، أنه أعطى أحد جنود الشرطة بقسم بعينه مبلغ 20 جنيهاً كي يسمح له بزيارة أحد أصدقاءه المحتجزين في حراسة القسم وإدخال الطعام له فى مخالفة للقوانيين التى تطبق على بقية المحتجزين بحراسة القسم . كما أفادنا أيضآ المتهم (أ.ع) بأن رجال الشرطة في القسم الذي كان محتجزاً به يستغلون المحبوسين ويستولون على أموالهم، فذكر بأنه طلب من أحدهم أن يُحضر له صعوط (تبغ جاف يوضع تحت اللسان أو تحت الشفة السفى ) وأعطاه مبلغ 5 جنيهات ، فأحضر له كيس واحد قيمته و جنيه و نصف ، وحين سأله عن ما تبقى من الخمسة جنيهات، أجابه الشرطي باستنكار (وحقي وينو؟!). وفي اليوم التالي طلب من شرطي آخر أن يحضر لهم خبزاً في الحراسة وأعطاه 10 جنيهات، فأحضر لهم خبزاً بـ 5 جنيهات فقط و إحتفظ بباقي المبلغ لنفسه، فسكت المتهم ولم يسأله.
قصةً أخرى سردتها لنا إحدى المحاميات ، بأنه وبعد الانتهاء من إجراءات تحرِّي روتينية خاصَّة بتحويل مريض مدمن على شرب الخمر إلى مستشفى الأمراض النفسيَّة والعصبيَّة الحكومي لمعالجته من الإدمان ، ويتطلب ذلك الأمر طلب إذن من النيابة ، ومن ثَمَّ فتح بلاغ بأحد أقسام الشرطة ، والتحرِّي مع الشاكي ، ثم يتم تحويل أوراق المدمن إلى المستشفى . بعد الإجراء الروتيني بالتحري مع أحد ذويي المدمن طلب الشرطي المتحرِّي من المحامية التي كانت تتابع الإجراءات أن (تعطيه حقَّه) فأعطته مبلغ 50 جنيهاً ، بالرغم أن هذا الإجراء من صميم عمل الشرطى وتمَّ بشكل قانوني، وهو لم يفعل سوى أن كتب إجابات الشاكي وحوَّل الأوراق إلى النيابة للتَّصديق عليها.
كذلك افاتنا محامية في مدينة ودمدني بأن الشرطي المكلف بتوصيل سجل البلاغات اليومية (المعلومية) من أحد أقسام الشرطة إلى مكاتب النيابة العامة يطلب من المحامين أن يدفعوا له تكلفة الوقود (حقّ البنزين) رغم الموترسايكل الذى يقوده يتبع للحكومة و يعطى حصته من الوقود يوميآ . فيطر المحامون و المحاميات للرضوخ لطلبه حتى لا تتعطل المستندات و بالتالتى عملهم اليومى . أضافة المحامية أيضآ أنه حال إصدار أمر قبض من النيابة على متهم فإن الشرطي المكلَّف بتنفيذ هذا الأمر يطلب من الشاكي أو محاميه أن يدفع له تكلفة المواصلات العامة (حقّ المواصلات) ، أو أن يطلب المتهم رشوة كي يماطل في تنفيذ أمر القبض . عليه فإن أمر تنفيذ أمر القبض على المتهم أو عدمه ، يخضع على من الذى يدفع رشوة أكبر.
ويحدث أن يدفع أحد المحتجزين رشوة لأفراد الشرطة بأي قسم ليسمحوا له بالذهاب الى منزله ليلآ على أن يعود لقسم الشرطة فى الصباح الباكر لتجديد حبسه . كما تسمح الرشوة للمحبوس أن يتمتع بمزايا ليست لغيره، كأن يسمح له بالإحتفاظ بتلفونه المحمول داخل حراسته و إجراء مكالمات تلفونية حسب رغبته ، أو السماح لأفراد أسرته و أصدقاءه من زيارته في أي وقت شاء.
وحكي لنا ايضآ المواطن (ع.أ) أنه في أحد شوارع الخرطوم أثناء قيادته لسيارته دخل في بالخطأ فى شارع ذا اتجاه واحد ، فأوقفته شرطة المرور و إقتادته إلى أحد مراكز شرطة قسم المرور وتركوه منتظرآ عن عمد ، ففهم المواطن أن هذا معناه أن يدفع رشوة لأفراد الشرطة ليتركوه و شأنه بدون تدوين بلاغ ضده . انتحي المتهم ببأحد أفراد الشرطة جانباً وقال له كم تريد؟ ، وفتح له محفظته التي تحوي مبلغ 83 جنيهاًـ وهو أقل من قيمة الغرامة التي تبلغ 200 جنيه ، فمد الشرطي يده الى داخل محفظة المتهم و إستّل مبلغ 50 جنيهاً وترك للمواطن البقية و من ثم سُمح له بالذهاب في حال سبيله.
بما أن هذه التَّدابير الفسيدة تتم عبر أفراد الشرطة داخل الأقسام ، فإن هذا الأمر يدعو للتساؤل إن كانت إدارات تلك الأقسام تعلم بهذه التدابير أم لا، فإن لم تكن تعلم فإن هذا يعتبر تقصيراً مريعاً في مسؤوليتها ومهامها مما يستوجب المساءلة والمحاسبة والعقاب، وإن كانت هذه الإدارات على علم ورغم ذلك بقيت صامتة دون اتخاذ أي إجراءات ردع أو عقاب لوقف هذه التدابير الفسيدة ، فإن هذا يشير إلى أنها متورطة في الوضعية الإفسادية وأن الفساد لا يقتصر على الجنود فقط، إنما هم جزء من شبكة كبيرة تغطى كل قطاع الشرطة.
هذه الانتهاكات الصريحة للقانون و الأخلاق و المثل ، تمارس بشكل يومى من قبل الكثير من أفراد الشرطة السودانية فى مختلف بقاع السودان و على مختلف تخصصاتها و مهامها .أن قانون شرطة السودان لسنة 2008 يحتم على أفرادها القيام بواجباتهم كما نصت المادة 13 منه على الآتى :”أ” المحافظة على أمن الوطن والمواطنين، “ب“سلامة الأنفس والأموال والأعراض،”ج” منع الجريمة واكتشاف ما يقع منها “د” ترسيخ سيادة حكم القانون …. الخ) ، لكن واقع الحال أن قوات الشرطة تخل بهذه الواجبات ، بل هى التى تمارس هذه الجرائم و هى المنوط بها حماية المواطنين منها ، إلا أن أفرادها محميون بحكم سلطاتهم من تطبيق العقوبه الوارده فى الماده أعلاه و هى السجن لمدة لا تتجاوز سنتين أو الغرامة أو العقوبتين معاً . كما أن المادة 89 من القانون الجنائي لسنة 1991 الخاصة بالموظف العام الذي يخالف القانون بقصد الأضرار أو الحماية والتي تنصّ على “كل موظف عام يخالف ما يأمر به القانون بشأن المسلك الواجب عليه اتباعه كموظف عام أو يمتنع عن أداء واجب من واجـبات وظيفته قاصداً بذلك أن:”أ” يسبب ضرراً لأي شخص أو الجمهور أو يسبب مصلحة غير مشروعة لشخص آخر، أو”ب” يحمى أي شخص من عقوبة قانونية، أو يخفف منها أو يؤخر توقيعها، أو”ج” يحمى أي مال من المصادرة أو الحجز أو من أي قيد يقرره القانون أو يؤخر أياً من تلك الإجراءات، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز سنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً.
لمقاومة هذه الوضعية الإفسادية في الشرطة السودانيَّة يجب على الدولة و أجهزتها سنّ المزيد من القوانين و تطبيق العقوبات الرادعة على أفراد الشرطة ، بغض النظر عن مواقعهم القيادية و رتبهم . كما أن الفساد المستشرى فى جميع أجهزة الدولة و حمايته من أعلى السلطه الحاكمة قد ساعد كثيرآ فى إفلات افراد الشرطة من العقاد . و بالتالى فأن محاربة فساد الشرطة المتمثل فى الرشوه و الذى نحن بصدده ، لا يمكن تحجيمه بمعزل عن باقى الفساد فى الدولة و بين قياداتها.
من المهم أيضآ كذلك حث المواطنين على التبليغ عن جريمة الرشوة والإصرار على معاقبة مرتكبيها، وذلك بتسليط الضوء على هذه الجريمة والتحدث عنها في أجهزة الإعلام رغماً عن انتهاك الحق في حرية التعبير الذي نعيشه. وتكوين إدارات رسمية رقابية تقوم بالكشف والملاحقة والمتابعة لأي عملية رشوة تحدث وسط أفراد الشرطة أو أي مرافق حكومية وتقديم مرتكبيها للمحاكمة العادلة. كما أنه من الضروري كذلك رفع وعي المواطنين بحقوقهم القانونية وتنويرهم بأضرار الرشوة و مساهمتها فى تفشى الفساد بين رجال الشرطة و موظفى الدولة عمومآ . كما يجب حثهم على الإمتناع عن دفع أي مبالغ دون إيصالات مالية وتضح أستحقاقات هذه المبالغ و تضمن أنها سوف تودع خزينة الدولة وليس جيوب بعض المنتفعين.
وعلى المحاميات والمحاميين أن يتوقفوا عن دفع أي مبالغ مالية مهما قلَّت قيمتها مقابل تنفيذ إجراءات روتينية هي من صميم عمل أفراد الشرطة. كما يجب عليهم و على المواطنين أن تغيير كلمة (رشوة) الى أى مسمآ آخر لا تغيير من أنها جريمة تستوجب العقاب.
كما على يستوجب على الحكومة زيادة مرتبات أفراد الشرطة، بالرغم من أن هذا المطلب لن يمنع تلقي أو طلب الرشوة، فالرشوة هي نتيجة فساد إداري وسياسي ومالي وأخلاقي وليست نتيجة ضعف مرتب فقط أو نتيجة فقر أو ضيق اقتصادي، هذه عوامل مساعدة ولكن الأساس فيها هو وضع الفساد العام في السودان وغياب المحاسبية والملاحقة وعدم تنفيذ القانون وانتهاكه.