في محاولة لتبليغه رسالة شديدة اللهجة من السلطات السعودية أبرزت صحيفة عرب نيوز تقريرا عن زيارة البشير لموسكو بدأته بتذكير قرائها بارتباط البشير بالمحكمة الجنائية الدولية. ولا يمكن أن يكون افتتاح التقرير بجملة كهذه إلا محاولة لتذكيره بأنه ما يزال بحاجة الى المملكة التي أعانته بثقلها السياسي في هذا الملف الذي يمثل هاجسا مؤرقا للبشير. ولو أن حسن النية واردة في التقرير لتم تناول الحدث بعيدا عن إكساب البشير اتهامات عملت المملكة لتخليصه منها.
فصياغة الخبر التي تجاهلت ارتباط نظام السودان بحلف عاصفة الصحراء، وإيرادها معلومات عن الإبادة الجماعية في دارفور ضمن التقرير، لا بد يعني أن القيادة السعودية غير راضية عن التصريحات التي أدلى بها البشير في روسيا، والتي شغلت الرأي العام على كل الاصعدة. وعرب نيوز المدعومة من الجماعة المالكة تعد من المطبوعات التي تمتلكها أسرة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز. ولهذا يأتي تقريرها كأول رد فعل مبطن من الرياض تجاه ما تراه تبدلا جديدا في الموقف السوداني الرسمي حيال الأزمات التي تعصف بالمنطقة. والمعروف أن تصريحات البشير بشأن إيران وسوريا تعاكس تطلعات الساسة السعوديين الذين يسعون للتخلص من نظامي طهران ودمشق. وقد بذلت المملكة جهدا إعلاميا بدأته الأسبوع الماضي لتسويق تصريحات ولي العهد السعودي بأن آية الله خامئني أخطر من هتلر.
وعلى كل حال فإن ما يجري على ناحية مواقف النظام الآن ليس هو فقط نتاج تهور البشير، وإنما هو مردود أصلا لجانب من نظرية الإخوان المسلمين المتعلقة بالحكم. وينبغي ألا نحمل على النتائج العملية وننسى المقدمات النظرية. فَلَو أن أي شخص إسلاموي في مكان البشير فإنه لن يفعل تسييسا أفضل مما فعل: ممارسة التقية، أو فقه الضرورة بأغلى ثمن. أولم يكن التنظيم كله جسدا واحدا حين صمت التلاميذ عن الذرائعية التي طبقها شيخهم، وما تزال البلاد تدفع ثمنها الباهظ الى اليوم؟
إن ما يفعله البشير في مواقفه الاخيرة في روسيا، ويلومه عليها إسلاميون قبل جوقة المعارضين، هو نوع من الهروب إلى أعلى. فالتذاكي الإسلامي الذي ينثره الكودة، وحمدي، وسائر جماعة الشعبي، على أمخاخ الجماهير هو ما يماثل تحايل البشير الممض على المكون المحلي، والاقليمي، والدولي. وهذا النوع من تبرئة النظرية التي ما يزال هؤلاء الإخوان يصرون عليها، وإقناعنا بأن البشير المنفذ لها هو الملام الأول، يمثل دجلا لا ينفع لخدمة الدين والسودان معا.
فببساطة حاول البشير العسكري، بعد أن وظف فقه الضرورة على مكونه المحلي حتى يضمن استمرار جماعته في الحكم، الاجتهاد على المستوى الإقليمي بناء على موروث زملائه السياسيين الأكاديميين. وحتى إن نجح نسبيا في ذلك حاول البشير أن يوظف هذا النجاح للعبة البيضة والحجر على مستوى آخر. سوى أن السياسة الدولية لا تستقر على حال، وتفرضها حمى مصالح الدول العظمى الباحثة عن مصادر للنفوذ والثروة. فالانغماس في لعبة التحولات التي نشهدها في إقليم الشرق الاوسط يتطلب ظهرا قويا، وإمكانية لوجستية معقدة، وقدرات دبلوماسية حكيمة. ولكن النظام السوداني الذي يعاني الخصام مع مكونه المحلي فضلا عن تحدياته الاقتصادية، والأمنية، المتعددة دخل في متن هذه التحولات ببصيرته الانتهازية القائمة على عرض الخدمات لهذا المعسكر المذهبي، أو ذلك المعسكر الحضاري. وحيث إن طريقة عدم الانحياز للمعسكرين المذهبيين لم تسعف النظام فإن طريقة إقامة التوازن في العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا قد أوردته الى هذا الاتساق غير الدبلوماسي الذي كشفته زيارة الكرملين. وربما تتوالى ردود فعل في القريب العاجل بشكل أقوى من رسالة عرب نيوز.
والحقيقة ليست هذه هي المرة الاولى التي يحاول فيها نظام الإخوان المسلمين التشبث بموقفين رماديين في المنطقة. فقد جربوا هذا الأمر عند غزو صدام للكويت ولكن حالا تم ردهم خاسرين. وما ذلك التشبث في الضبابية الدبلوماسية إلا نسق من الوفاء لفقه الأيديولوجية. فمن جهة كان تذاكي الترابي يروم نصرة العراق أمام جيوش الإمبريالية وفِي ذات الوقت لا يكشف الوضوح البارز في المقاتلة بجانب صف العراق حتى لا يدفع نظامه الثمن الباهظ.
إذن فالبشير من ناحية يسير الآن في خطى شيخه الذي أضر مصلحة البلاد بفقه الضرورة المخاتل، والذي لا يحيك إلا بصانعه. ولكن الاختلاف الجوهري هو أن الذي يحرك البشير في كل سياسته المحلية والإقليمية والدولية مأزق المحكمة الدولية الذي يتحكم في وعيه، ولا وعيه. ولكل هذا فإنه يتصرف لربط حمايته ونظامه بحماية كل السودان. والسؤال هو ما الذي فعله غالب السودانيين للعالم حتى يهرول رئيسهم لطلب حمايتهم من النظام الشيوعي الروسي، أو الصيني، وهل حقا تستهدف أمريكا بسياساتها الشعب السوداني بشكل مباشر أم الطبقة الحاكمة لحملها على الاستجابة لمصالحها؟
إذا كانت تناقضات البشير الإقليمية، والمحلية، قد أكدت خواء جديدا لنظرية الإخوان. فهو قبل سفره قد كشف عن حجم التجاذبات بينه وزملائه في السلطة. فمن ناحية يحاول جناح البشير ومؤيديه في السلطة تذكير الأجنحة الأخرى بقدرته على استخدام القوة ضد كل من يناور عكس سياسته. وقرارته الفردية في حل مجلس تشريعي الجزيرة وإعلان حالة الطوارئ بلا مبرر سبقتها تجاذبات بين البشير وتشريعي الشرق وحينها كان المستهدف ايلا الذي يحظى بتأييد جناح البشير. والحال هكذا يحاول إسلاميون في البرلمان استخدام أغلبيتهم لتركيع وزرائه، وتتفيه إجاباتهم. وقد حدث هذا مع الوزير أحمد بلال الذي بلع تصريحه عن قناة الجزيرة، ولاحقا تعرض وزير المالية الركابي ووزير الكهرباء والموارد المائية معتز الى انتقادات حادة من البرلمانيين، وأسقاط اجاباتهم، وأحيلت المعالجة إلى لجان متخصصة. وهنا يبدو كل طرف داخل السلطة إظهار قدراته قبل المعركة الفاصلة التي ربما تنتهي بانقلاب طرف ضد آخر.
من هنا تأتي الرسالة السعودية التي أبرزتها عرب نيوز لتعقد مهمات جناح البشير في السيطرة على السلطة. فهو من جهة يستطيع ان يكسب معركته المحلية بكثير من وسائل السلطة اللوجستية كما انتصر على شيخه يومذاك، إذا لم يتحرك عسكريون إخوان للإطاحة به، خصوصا ان كل الأزمات أحاطت بالبلاد سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا. ولكن تحديات البشير الإقليمية والدولية شائكة للغاية في منطقة توشك أطرافها ان تقرع طبول حرب طويلة الأمد، وربما تشكل منعطفا خارقا في تاريخها. ولا يتخيل المرء أن محاولة الحياد بين السعودية وقطر وجني ثمارهما سيعين البشير لمدى أطول بعد تصريحاته التي أغضبت السعودية. ومن ناحية ثانية فإن محاولة عدم الانحياز التام لروسيا أو الولايات المتحدة سيبعد ابتزاز الطرفين لنظامه.