في العقود الأخيرة حقق الروائيون السودانيون ثورة في كتابة الرواية، وما يزال معظمهم يثابر لمضاعفة الإنتاج، وتجويد المعالجة، وتغطية القضايا المعضلات التي شغلت مثقفي، وأدباء، بلادهم. وقد ترافق مع رواية السوداني المكتوبة بالعربية روايات لسودانيين أخر عُبِر عنها من خلال لغات أخرى كتبها أبناء الجيل الذي هاجر في الستينات، أو السبعينات تقريبا. وهكذا من الممكن أن تجد روايات لمبدعينا كُتِبت أصلاً باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، بل إن هناك روايات لهذا الجيل تُرجِمت لبعض من هذه اللغات فأنجزت الصيت. وبسبب هذا الصنيع صار من المتاح أن تجد أسماء جديدة، يصدر واحد منها خلال عقد واحد فقط روايات تتجاوز عدد روايات الأديب الراحل الطيب صالح الذي نشط لنصف قرن ليكتب أربع روايات، أو خمس، لا غير. وربما يمكن القول إن عدد الروايات السودانية التي قُرِأت خلال هذه الفترة تمثل أضعاف أضعاف دواوين الشعر السودانية التي تراجع صدورها في الآونة الأخيرة. بل إن عدد الروايات التي صدرت مؤخرا في العقدين الأخيرين فاق عدد الروايات التي صدرت في الفترة بين صدور رواية “إنهم بشر”، وهي أول رواية سودانية للأستاذ خليل عبدالله الحاج، وبين نهاية الألفية السابقة.
ولم لا فربما تحققت بهذا البيات الشتوي الشعري، والانفجار الروائي، نبوءة الناقد المصري جابر عصفور الذي قال، قبل عقدين، عبر كتابه المثير للجدل إن الزمن الذي نحياه هو زمن الرواية بامتياز. ذلك لكونها أقدر على التعبير عن القضايا العصرية بصورة يعجز عنها الشعر الذي اختبأ الآن في مادة النثر، ثم انحصر في تقديم صور جمالية مختزلة، وصعبة التذوق، وشديدة التجريد. ونظرا لضعف الاهتمام بنقد الرواية في وسائطنا الإعلامية، أو قل ـ في الحقيقة ـ نظرا لقلة عدد النقاد الأدبيين، لم تجد كثير من هذه الروايات الفرصة للعرض، ومن ثم القراءة النقدية الموازية. وذلك حتى نتعرف على المضامين التي تناولتها الروايات هذي، وقدرة نساجها على إحسان بنائية النص، وثراء الحكي، وامتلاك ناصية اللغة الممتعة المتماسكة، وغيرها من التفاصيل التي يدركها النقاد عند النظر لمثل هذه الأعمال. فضلا عن ذلك فإن عددا كبيرا من هؤلاء الروائيين لم يجد الفرصة للتعبير عن ذاته من خلال محاورين صحافيين يستنطقون أصحاب، وصاحبات، الروايات الجديدة حول الشؤون العامة، والغوص في دواخلهم، حتى يتيحوا مفاتيح للقراء لمعرفة خلفياتهم الثقافية، وبالتالي قد يشكل هذا مرجعا لفهم تصوراتهم عبر النص الروائي المنشور، وذلك بعيدا عن النقد الصحفي، والسياسي، المبتسر للعمل الروائي. فقليلة هي الروايات التي أثارت الجدل هنا، وهناك، بالنظر إلى هذا الكم الهائل من العناوين التي أُخبِرنا بها. بل إن هناك أسماء معدودة للروائيين الذين وردت سيرتهم في الملاحق الثقافية للصحف، أو في الميديا الحديثة، على اعتبار أنهم بلغوا شأواً في إثارة قراء، ونقاد، الرواية، اتفاقاً، أو اختلافاً، أو تحفظاً حول المطروح.
الملاحظة الثانية أن وجود اهتمام داخلي بتحفيز المبدعين في هذا المجال الأدبي الحيوي من خلال مراكز ثقافية، وكذلك لاهتمام الروائي السوداني بالمشاركة في مسابقات الحيزين الإقليمي والدولي، توفرت مساحات للاعتراف المثمن بموهبة عدد من الروائيين السودانيين. وقد نال بعضهم الجائزة الأولى داخليا، وخارجيا، وبعض دخل في قائمة ترشيحات البوكر. ودون الحاجة لذكر أسمائهم فإن معظم هؤلاء المبدعين أثبتوا قدرة فائقة على الاستفادة من الإرث العالمي في كتابة فن الرواية، وحازوا على الاعتراف الإقليمي، وقبله المحلي والذي هو الطريق للعالمية. كذلك علمنا من خلال ما قرأنا لنقاد تناولوا هذه الروايات أن رهطاً منهم حقق قفزة في مجال كتابة الرواية الحديثة ما يعني مواكبة مبدعينا للاتجاهات الروائية العالمية لكتاب كبار ثوروا هذا الحقل حتى نالوا جائزة نوبل للآداب، كأقصى تقدير. وبرغم أن كثيرين أشاروا إلى ما قد تسببه هذه الجوائز من دعاية للروائيين المعنيين على حساب آخرين لم يترشحوا لنيلها سوى أن حكم نقاد محترفين بعينهم لا بد أن يجد منا التقدير، على أن تظل الرؤى الأخرى المخالفة محل تقدير أيضأ. فلجان التحكيم المختصة الداخلية، والخارجية، نادرا ما تنحاز مسبقا لروائي، أو روائية، دون آخرين، وأخريات، خصوصا إذا عُلم أن أعضاء لجنة التحكيم، كما جرت الأعراف، يقرأون النص المرشح دون أن يدركوا اسم صاحبه، ولأي إقليم، أو وطن، ينتمي، أو لأي اتجاه فكري يميل.
على أن حكم لجان التحكيم، من جهة أخرى، يعبر عن فئة ناقدة. ولذلك ليس هناك في مجالات الإبداع إلا الحكم النسبي، وليس القيمي المطلق، حول أفضلية هذه الرواية على تلك. ففئة ناقدة أخرى يمكنها أن تنظر بمرجعياتها النقدية لذات هذه الأعمال المقدمة للانتخاب، ويمكن أن يأتي حكمها مخالفاً لحكم اللجنة السابقة التي منحت الجائزة الأولي لهذا الروائي والمركز الأخير لتلك الروائية. فالنقاد مدارس، وذوائق. فرغم انطلاقهم في التقييم من منصة التخصص النقدي إلا أن أحكامهم تتمايز بتمايز نظراتهم للنصوص. بل إن للنقاد انتماءات إيديولوجية، وفكرية، قد تؤثر فيهم أحيانا أثناء النظر البحت لما هو فني متلبس بلبوس الحياة. ومع ذلك يبقى حكم هذه اللجنة مقدرا أيضا ما دام القياس يأتي بثقتنا في أن القرار جاء من لجنة مختصة. ومهما يكن فإن اللجان التحكيمية في الإبداع عموما، سواء على المستوى العالمي أو المحلي، معترف بها، وأن المبدعين هم الذين يمنحونها الشرعية حين يتقدمون بأعمالهم لها.
إن العمل الفني لا يقاس بالكم فقط، وإنما بالكيف وحده. وعمل مثل الرواية يتطلب صبرا كبيرا حتى يخرج للناس وبه الإضافة الحقيقية من كل النواحي. ولو كان لصعوبة النشر قبل عقدين من الزمان جانب إيجابي في جعل الروائيين، والشعراء، والنقاد، يتأنون كرها قبل نشر كتبهم، ويراجعونها باستمرار، فإن تكاثر عدد الناشرين الآن، ضف وجود النشر الإليكتروني غير المحدود، ربما يصبحان عاملا سلبيا فوق إيجابيته في نشر الإنتاج الضعيف الذي يأتي حتما خلوا من أي إضافة فنية. فليس كل إمكانية لكتابة رواية يمكن أن تثمر إذا وضع الكاتب في باله أن سهولة النشر ستصنع منه نجما أدبيا عبر روايتين، أو ثلاثة، في ظرف عقد من الزمان. وإذا كانت مجاملات الميديا الحديثة تصنع نجوما في حيز الأصدقاء، والمعارف، وأبناء الجغرافيا، فإنها لن تنزع اعترافا من جملة القراء الذين لا يعرفون المحاباة الزمالية، أو الأسرية، أو المناطقية، أو الأيديولوجية. فالرواية صنيعة القارئ الجيد لها، والذي انتخب المئات من جيادها العالمية، وتمكن من الحظو بمنظور ثقافي عميق، وألم بمعرفة تفاصيل الحياة، والقضايا المعقدة التي ترتبط بها، إضافة إلى الإلمام الجيد بناصية الكتابة السردية. وليست هي عمل يدر نجومية بالسهولة التي يتصورها الكثير من الكتاب المغمورين الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى كتاب لعدد من الروايات دون أن يجربوا حظهم عبر القصة القصيرة. والملاحظ أن معظم الروائيين الجدد يتحاشون إصدار مجموعات قصصية، أو لا يحسنون كتابتها، حتى يجودوا الفكرة، والحبكة، والسرد.
وجزء من مشاغل الروائيين هو اهتمامهم بتناول القضايا التي تتعلق بتاريخ السياسة السودانية، وهويتها، وما أنتجته من تفاوت على مستويات الحياة تاريخا، وحاضرا. وربما سعى بعضهم إلى التطرق للأزمات الوجودية الكبرى التي ألمت بالإنسان، كما تطرق إلى ذلك الكثير من كتاب الرواية العالميين. ولعل هذا أمر طموح، ولا بد من تشجيع الرواة على انشغالهم به. ولكنه يحتاج إلى قدر عالٍ من الإبداع السردي في صنع الرواية دون الانجرار إلى الهتافية في معالجة الموضوع. فالروائي المتمكن هو الذي يصوغ مشروعه الروائي عبر منظور فكري بالتزاوج مع الأدب والاجتماع. وتبقى في خاتم المطاف القيمة الفنية التي تبدو عليها الرواية من خلال شخوصها، وسردها الباهر، ولغتها الجزلة. ولعل المكتبات تمتلئ بالكثير من الروايات التي فشلت في تحقيق نقلة في هذا المجال. بل لا بد من أن هذه الروايات الأخيرة التي أصدرها سودانيون تتراوح بين القوة، والضعف. ومع ذلك تظل هناك روايات قليلة ستجد يوما نقادا محترفين لاكتشاف أهميتها إن لم يتيسر لكتابها الآن نوع من الصيت الذي يستحقونه، أو سعوا إلى تحقيقه.
إن صدور أي كتاب سوداني مهما كنت قيمته الفكرية، والأدبية، والفنية، يمثل ظاهرة إيجابية، خصوصا أننا متخلفون كثيرا في مجال النشر. وما نزال نعيش بلا مجلة ثقافية ـ أدبية مطبوعة، ولا نملك مجلة للطفل حتى في زمان تيسر فيه نشر الكتاب. كما أن من يدخل مجال التأليف الروائي لا بد أن يجد التشجيع مثنى، نظرا للرهق الكبير الذي يعاني منه الأديب في صناعة هذا النوع الصعب من الإبداع. ومسؤولية النقاد تتمثل في التفضل بدراسة هذه الأعمال عبر الصحف، وعلينا أن نقيم لهؤلاء الروائيين الطموحين منتديات نتعرف فيها على أفكارهم، ونتناول فيها أعمالهم بالملاحظات التي ربما يستفيدوا منها في مشاريعهم المستقبلية، وأن نحثهم على منح رواياتهم لمحررين كما يحدث في العالم المتطور، والذين هم يعملون عمل مصححين لغويين لهم دراية بفنون الرواية حتى يتفادوا أخطاء اللغة، وتراكيبها، ورسمها. ومهما ضعف إبداع بعض الروائيين فمزيد من التشجيع والتقدير قد يمنحهم الثقة في تكرار التجربة مرات ومرات بشكل أفضل. وفي مجال الإبداع والفنون لم يخلق أديب أو فنان مكتمل من إنتاجه الأول. فلا بد أن يتعثر المبدع هنا، وينجح هناك، حتى يستوي إبداعه في قابل الأيام بكثير من الاعتبار، والاستفادة من رؤى المختصين، وملاحظات القراء الذين بينهم من يدركون الجيد من الغث.