في تفكيك الخطاب اللاهوتي
بقلم : محمد أبكر
إن عنوان المقالة أعلاه يحيلنا بالإقتراب الإبستمولوجي الإستقرائي مباشرة إلي محاولة فهم طبيعة خلق محددات الدِّين وتجلياته – الدين هنا بالمفهوم اللاهوتي السمائي وموضوعنا هنا القرآن بإفتراض وجوده عن الله- وطبيعة علاقة الدِّين بمنتجه الأول (الإله) وبقية مُنتجيه( من جبريل مروراً بمحمد الرسول إلي الإنسان) في إطار مفهوم التاريخية، وأعتبارات اللغة ومحددات الثقافة، وإلي أي مدى أن فهم وتأويل الخطاب الديني ضرورة معرفية، ومطلب إنساني مهم، وفرص إعتباره إيديولوجيا لاهوتية باليوتوبيا، فضلاً عن أنهُ بإحالات مفهوم التاريخية وآليات التعقل منطلقات التفكير العقلاني المنطقي، والإفهام الإنساني يمكن عدهُ ووضعه في مفاهمة أيديولوجية ناسوتية بضرورة التأويل والإستقراء العقلي للنصوص أي كانت مستوياتها الخطابية والمضمونية، وقيمتها الإشكالية، ومصدر نشوئها الأول، ومظاهر وجودها، وتجليات مصيره في نهاية القضية.
إذا سلمنا في المبتدى أن (العلم، والقدرة، والقِدم”الأزلية”، والحياة ) لهي الصفات الأولية المؤسِسِّة للذات الألوهية في خلق وتكوين وإيجاد الكون، وتطويع ناطقة(كُن) الخَلقية لمعطيات العالم ومظاهر وجوديته، فإن الخطاب الإلهي لطالما يُفهم أنهُ نتاج صفة (القدرة) في وضعية الإنشاء الخالص والإبداع المطلق والإيجاد الكلي يبقى أنهُ النتاج أو الحصيلة الكلية لصفة(الأزلية) لتحقيق ضرورة صفة(الحياة والوجود) للإله ومدى وجوديته في أعماق تجليات شيئيته. أي بعبارة أدق أن الخطاب/النص الديني ليس في حقيقة الأمر سوى الرؤية الكاملة والتصور المطلق لعِلمانِّية(نسب إلي العلم) الإله المنظورة في خطابهُ أو المتمثل في كلامهُ(القرآن) وأصفياء كائناتهُ إلي حيث رعنائهُ من البشر أو إلي مجموع موجوداتهُ في محددات الكون وأشكال الطبيعة، وأشياء العالم فدواليك.
وهكذا نلاحظ عند الإستقراء أن قضية تحقيق صفتيِّ(العلم والحياة) لوجود الذات الإلهية قد تنتفي إلا من خلال صفة(القدرة) التي هي أيضاً إمكان تحقيقها مشروط بوجود من يعلم بها ويفهمها ويدرك مجموع محدداتها، وأشكالٍ مشاهدة عنها، ولِمَا لها من صفات التعقل والتأويل والإفهام من خلال منتوج له خصائص الفهم والتأثير والإقناع عنه. أي ما نقصده أن حقيقة وجود الذات الإلوهية تنتفى بعدمية وجود رؤيتها ومفهوميتها اللتان تتمثلان في الخطاب اللاهوتي بواسطة كلام أو ملفوظ أو نصوص في دفتيِّ القرآن. وهذه الرؤية من وجهةٍ ما هي يوتوبيا إيديولوجيا الإله في تحقيق ذاته الكاملة، وتأكيد ذاتيته ووجوديته الخالصتان، وتجسيد عِلمانيته الكلي، وتمثيل قدرته المطلقة، وإبلاغ حقيقة بقائه القديم، والإخبار بحق حيايته الأزلية.
ثم أنهُ عندما يُفهم أن القرآن صفة من صفات الأفعال وليس محدد من محدات صفات الذات الألهية. أي أنهُ مخلوق تاريخي حدثي، وليس أنهُ منتَج قديم أزلي، لأن القرآن خطاب الله أو كلامه أو ملفوظه النصي، والخطاب منتوج فعلي، أو أن الكلام محدد مفعول وليس محدد صفة، فإن حقيقة (تاريخية ثقافية) القرآن وزمانيته تتجلى في صورةٍ أوضح من أشعة الشمس، لأن حقيقة تحقيق الفعل الكلامي أو الممارسة التخاطبية تنعدم مع عدمية منتِج الخطاب ومتهيئ لتلقيه. أي أن الوجود الفعلي للقرآن شريطة وجود فاعل له ومفعول عنه، فضلاً عن إشتراطات السياق، ومحددات المناسبة، وفرص إمكانات القبول، ومستويات التأثير، ومدارك الإقناع والإفهام، أو حتى الرفض واللااحترام والتأويل عنه.
وبما أن صفة(العلم) – هنا حسب فرضية موضوع القراءة – من الصفات المطلقة للذات الإلهية، فإنه لكي يتحقق هذه الأخيرة فالضرورة عندئذ أن يتمثل تلك الصفة في منتوج فعلي يدل على القدرة وإمكان الفعل لإظهارها، أو ليتجسد في ملفوظ حركي ذو فواعل منتجِة ومنتجَة. أي أن يتمظهر في خطاب أو كلام الذي هو فعل فاعل أول إلي مفعول فاعل ثاني وفق السياق وتجليات المناسبة. كما يظهر في الخطاب القرآني.
وليس الخلاف بين الفقهاء والمفكرين المسلمين في طبيعة خلق القرآن في أنه أزلي قديم أم تاريخي محدث سوى السجال المفروغ لإي مظاهر القيمة والهدف، ذلك لأن التسليم بحقيقته (التاريخية الثقافية) يحيله إلي فعل من صفات الأفعال، وهذا الفعل يكون هنا (كلاماً)، والكلام يتضمن تلفظ نصي أو تعبيري أو معرفي أو إبداعي أو غيره، أوهذا الكلام قد يتجسد في لغةٍ بصفتها وعاء (الثقافة)، والثقافة هي التي تعتصر الوعي الذي يحيل بالضرورة إلي الحمل بمجموع سوابق الإدخال إلي إنتاج خطاب بعينه، وهذا الخطاب لهو حامل لرؤية محددة، وتضمر نظرة ما، وتكمن فكرة معينة التي تتمثل في إنتاج مفهوم (الإيديولوجيا) بالمنظور الوجودي، أو إنتاج (المعرفة) بالمفهوم الثقافي، ثم أن هذه التاريخية للقرآن تحيله إلي “منتوج سيميائي ثقافي” ذو رؤية أو يوتوبيا ايديولوجي (الله) عن تحقيق عِلمانيته، وأزليته، وقدرته على الحياة بالكمال من ناحية، أو بمفهوم التأويل والإستقراء للقرآن يحيله إلي خطاب/كلام ناسوتي في سياق لغة وثقافة محددان، ومستوى فكري وحضاري بعينه من ناحية ثانية، أو لأن مفهوم (التاريخية) يحيل القرآن إلي خانة الفلكلور بتعبير أبو زيد من ناحية آخرى.
ورغم أن طبيعة وصول القرآن وإفهامهُ ثم إيصاله إلي حيث من هو متهيئ للتلقي والإفهام بين كل من (الله وجبريل)، أوبين (جبريل والرسول محمد)، أو بين( الأخير وعامة البشر) موضع جدال وتحاور مضني طبقاً لطبيعته الغامضة، إلا أنهُ وبمحددات ثلاثية(اللغة والثقافة والتاريخ/العالم) وتجليات وجوديتها يتضح عنا حقيقة إحالة وتحول يوتوبيا الملكوتية، وقداسة الخطاب اللاهوتي بأنماط التأويل وآلياته، وأشكال القراءة ومستويات الفهم، إلي منتوج لغوي ثقافي بلا أدنى شك، ومفهوم تاريخي خالص، ورؤية أيديولوجية بعينها، وخطاب بشري معين، وفكرة ناسوتية لا تشوبها أي شائبة ميثولوجية. ذلك لأن حقيقة وجودية القرآن تكمن في تأويله العقلاني، وقراءته الإنسانية، ورؤيته العَلمانية، وغايته الخيرية الأخلاقية.
وهكذا الحقيقة تبقى أن (النص/الخطاب اللاهوتي) قد يتحول بالقراءة وآساليب المقتربات والتأويل وفق المصالح البرغماتية، والفوائد الخيريِّة للانسان، الي نصٍ تاريخي بشري ناسوتي خالص. فالنص القرآني السمائي – في حالة إفتراض حقيقة وجوده اللاهوتي- أُرسل لأجل مصلحة (البشر) حسب سيرورة الزمان، وصيرورة التطور والتفكر والعمل، وعلاقات الفعل السياسي، وأنساق التثاقف، وأبنية نزعة الأجتماع، جدليات الميثولوجيا الدِّين والعلم والأخلاق، وليس أنهُ قط قد يعود إلي السماء ببذور فائدةٍ البتة، أو يدرُ لها سيولةٍ عن توحيدها أو الحجد بها أو الحياد عنها .
ولأن العقل الإنساني بالضرورة دائماً في حالة نمو وتطور وإرتقاء، فعندئذ يغدو أن النص اللاهوتي والفكر الكهنوتي رهينتا منجزات التأويل العلمي والإقتراب المفاهيمي، شريطة أعمال العقل، ومحددات بناء منتوجات الحضارة، وتأكيد تميٌز وتمييز الكائن الإنساني خَلقَاً وخُلقاً فضلاً عن تحقيق وجوديته، وتأمين تأكيد شخصيته الإنسانية وتوازن النزعة الفردية ومطلب الإنحياز إلي الجماعة.
وهكذا نخلص إلي أن تكمن حقيقة وجود القرآن في الإرادة/الذات اللاهوتية لتحقيق ذاتيتها الكاملة، وصفات وجودها المطلق، ولتأكيد عِلمانيتها الخالصة، وأزليته الكلية، وقدرتها النهائية، وحياتيها القِدمية. وكل ذلك من خلال رؤيتها اليوتوبية(تحيل بالإسقاط الإبستمولوجي تأويلاً للقرآن إلي وعي أو نظرة أيديولوجية بعينها) في إنتاجها لهذا الخطاب(القرآن) المتمثل في أذهان متلقيه/منتجه الأول(جبريل)، ثم الثاني(الرسول محمد)، ثم الثالث(رعناء البشر). بينما يصبح الثالث في حقيقة الأمر هو المنتِج والمجسد والمُفهم الأول والأخير في تحقيق وجود (الله) بالخطاب القرآني أو بغيره، ثم تأكيد عِلمانية القرآن وحقيقة تاريخيته، ثم ضمان تحقيق وجودية الإنسان لنفسه الأمر الذي يؤدي إلي أن (الدِّين) إيديولوجيا ناسوتية خالصة وإن كان يحوي في أحشائه النصوصية المضمرة أو الظاهرة أي إشارة إلي أنهُ يوتوبيا أيديولوجيا (الله) بالدرجة الأولى لذاته وعنه وعبر رعنائه.