د حمدي عبدالرحمن
عندما سئل أحد زعماء السوزو في الجنوب الأفريقي عن المشاكل الحياتية التي يواجهونها قال : لدينا مشكلتين هما الفئران والحكومة ، وهو ما يعني أن مؤسسات الدولة مابعد الكولونيالية في أفريقيا أضحت مشكلة في حد ذاتها بدلا من أن تكون أداة للحل،وهو ما دفع بها لامحالة إلى طريق الهشاشة والفشل. وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود على رحيل الاستعمار من القارة الأفريقية، فإن أهمية الدولة تتضاءل بدلا من أن تُرسخ أقدامها. كما أن الدولة ليست فقط كولونيالية الطابع من حيث أنها موروثة عن العهد الاستعماري ولكنها هلامية أيضا إلى حد كبير في المخيال العام للمواطنين. تصطدم مؤسساتها المستوردة مع الموروث الأفريقي الحضاري، حيث تجعل من الدولة أداة للتعبير عن المصالح الضيقة. ولاشك أن هذه التناقضات الداخلية التي عانت منها الدولة مابعد الكولونيالية في أفريقيا أضعفت من قدرتها على البقاء وأثرت سلبا على تأدية وظائفها العامة ولاسيما التوزيعية منها ، وهذا كله يُفضي إلى اليأس والقنوط بين المواطنين.لم يكن مستغربا أن يتحين جيش الشباب العاطلين عن العمل الفرص للتمرد وممارسة العنف ضد الدولة وغير ذلك من أنماط السلوك المعادي للمجتمع ككل مثل السطو والاختطاف والتطرف الديني..وهلم جراز.
وبالتالي، أضحت الفوضى بالنسبة لكل من الحكام والمحكومين، أكثر من مجرد “أداة سياسية”ن وهو ما يخلط بين ماهو قانوني رسمي وماهو غير قانوني وغير رسمي. واتساقا مع ذلك، تحولت دراسة مختلف الأنشطة الإجرامية المتعلقة بالفساد في أفريقيا من تحليل أدوار الأفراد إلى التركيز على المسؤولية الاجتماعية. وهو مايعطى الموضوع طابعا أشمل.فقد قام جان-فرانسوا بيارت، على سبيل المثال، عام 1989 بإبراز مسئولية الدولة القرصان في كتابه “الدولة في أفريقيا: سياسة ملءالبطون”.وفي مرحلة لاحقة استطاع جان فرانسوا بيارت،و ستيفن إليس، وبياتريس هيبو في كتاب”تجريم الدولة في أفريقيا”، توسيع نطاق دراسة الفساد لتشمل كافة الأنشطة الاجرامية التي تدعمها الدولة في أفريقيا.فالدور الذي تقوم به الدولة في مساعدة والتحريض على الممارسات الفاسدة يطلق عليه “تجريم” الدولة.وقد تناول الكتاب الطريقة التي تقوم من خلالها الدول الأفريقية بالتستر على الممارسات الفاسدة لمن هم في السلطة، والروابط المشبوهة بين الرسمي وغير الرسمي في عمليات الغش المؤسسى والتهريب ونهب الثروات الطبيعية ودور الجيوش الخاصة، وخصخصة مؤسسات الدولة، بما يؤسس في نهاية المطاف لتطوير “اقتصاديات النهب”.
إن النماذج المعرفية السائدة التي تعبر عن تقاليد الليبرالية الجديدة أثبتت فشلا ذريعا في دراسة الواقع الأفريقي، وعليه يصبح التغيير المطلوب هو إعادة بناء لحمة التكامل الوطني أي بناء الأمة بشكل صحيح هذه المرة باعتباره مقدمة لبناء الدولة.وفي سياق تيارات العولمة المتسارعة، يصبح التوكيد على الهوية الوطنية بما لاينفي التوفيق بين الأصالة والمعاصرة واستيعاب جيل الشباب المتطلع للمستقبل ، والعمل من أجل تكريس مبادرات التكامل الإقليمي،كلها أمور لازمة لإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة في أفريقيا.