محمد عبدالله ابراهيم
نظام حكم الجبهة الاسلامية البائد في السودان يعد من أعمق أنظمة الحكم الفاشية في العالم، حيث إستطاعت ان تحافظ على وجودها في سدة الحكم طوال ثلاثون عاما، رغم التحديات الكبيرة التى واجهته في الداخل والخارج ولا سيما الحصار الخارجي، وعلى الرغم من تبني النظام الشعارات الدينية والتظاهر بالانتماء للاسلام والذي اتخذ منه مسمى ومشروع ديني سياسي، إلا انه في الحقيقة بعيد كل البعد عن الدين، ولا يخرج من كونه نظام أمنى فاشي يحمل عدة واجهات واجسام ظل يعمل فيها بطريقة سرية يسعى من خلالها تحقيق اهداف، كما في تاريخ الانظمة العميقة، والدولة العميقة عبارة عن شبكة علاقات متشابكة من عدة مجموعات عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفنية واعلامية تمتد على طول وعرض الوطن تربطهم مصالح مشتركة يعملون على تحقيقها بشتي الوسائل المشروعة والغير مشروعة، تحت قيادة واحدة تضع لهم الاهداف والبرامج، وتعمل المجموعات على إعدات الخطط وإختيار الوسائل، كما في مجموعات الإجرام والمافيا، والدولة العميقة ليست لها دين، ويرجح بعض المؤرخين ان مصطلح الدولة العميقة ترجع الى تركيا، حيث اشار المؤرخين الاتراك إلى اللجنة السرية التي قام بإنشائها السلطان سليم الثاني لتقوم بحمايته بعد محاولة إغتياله عندما عاد من الحرب مع النمسا وروسيا.
ونظام الجبهة الاسلامية الذي اعتلى عرش السلطة في السودان عن طريق انقلاب عسكري، ظلت تعمل لها سراً منذ ستينات القرن الماضي، تحت غطاء الدين الاسلامي، نسبة لتدين غالبية السودانيين به، معتقدين بان ذلك قد يسهل لهم عملية الاستقطاب والحشد والتأييد، والشعارات الدينية الفضفاضة الخادعة ليست ببعيدة عن اذهان السودانيين، حيث رفعت نظام الجبهة الاسلامية عدة شعارات دينية اسلامية، على شاكلة لا لدنيا قد عملنا نحن للدين فداء وهلمجرا من الشعارات الدينية الزائفة التى لا تحصى ولا تعد، والذي تم استخدامها لقرض الاستقطاب والتأييد الشعبي، للوصل الى التمكين العميق في الحكم، ولتحقيق ذلك شرع النظام في سن القوانيين والتشريعات السياسية سميت “سياسة التمكين” لشرعنة افعالها وسلوكها، فصنعت حروب دينية وارتكبت مجازر ضد الخصوم والمعارضين مستخدمة نفس تلك الشعارات الدينية، كما في حالة السودانيين الجنوبين في جنوب السودان، والسجن والتعذيب حتى القتل لبقية المعارضين السودانيين وفصل الآلاف منهم من الخدمة وإحالتهم للصالح العام، واصبحت المؤسسة العسكرية والأمنية هى الركيزة الاساسية لحماية نظام الجبهة الاسلامية، بعد ان قامت بأدلجتها وتحجيمها من القيام بالواجبات العسكرية والمسؤوليات الأمنية الشاملة تجاه الوطن والمواطن، أضافة على ذلك عمل نظام الجبهة على تجييش وعسكرة الافراد والمجتمعات السودانية، حيث أسست العديد من الاجسام كواجهات قتالية وجهادية تحت مسميات مختلفة، مثل الامن الشعبي وكتائب الظل، والدفاع الشعبي، والمجاهدين، والدبابين، وحرس الحدود، والدعم السريع …الخ، وجميع هذه المجموعات تعمل خارج اطار القانون تحت اوامر قيادات نظام الجبهة، ولديها ميزانيات ومؤسسات تمويل ضخمة، تسندها آلة اعلامية مسيطرة تعمل على اخفاء الوجه الحقيقي، وإظهار وجه آخر على الشعب، والهدف من انشاء هذه المجموعات هو حماية مصالح الدولة العميقة بشتي الوسائل، والملاحظ ان معظم قيادات وافراد هذه المجموعات غير عسكريين وليس لهم ادني صلة بالمؤسسات العسكرية، غير انهم عبارة عن مجموعات تحمل سلاح وتدافع عن النظام تحت عدة مسميات، ولم يقف نظام الجبهة الاسلامية عند هذا الحد، بل تعدتها ليشمل المجتمع بأكمله، ولسنا بغافلين عن اللجان الشعبية ولجان الاحياء، واعتقد ان جميع السودانيين في احياء المدن والقرى والارياف يتزكرون عمل وافعال تلك اللجان، ويعرفونهم فردا فردا، وحيث ان عمل نظام الجبهة الاسلامية داخل المجتمعات بواسطة اللجان الشعبية لا يختلف كثرا عن عملها داخل المجتمع بواسطة الادارت الأهلية، والتى تعتبر مسؤولة بنسبة ٩٠٪ عن اسباب الحروبات القبيلة التى حدثت في السودان، ونظام الجبهة الاسلامية تمكنت من القبضة التامة على مفاصل الدولة، بحكم نظامها العميق الذي سيطرة على الداخل وامتدت للخارج لتوسيع نفوزها من اجل الحصول على ادوات ووسائل آخرى تعينها على فرض سيطرتها المطلقة للبلاد، واحتكرت الوظائف والوظائف الخدمية في كل قطاعات ومؤسسات الدولة ونقاباتها، بأسلوب سياسي بشع، غيرت الاخلاق والقييم السودانية المعروفة، مثلما تم غيرت الجبهة المناهج الدراسية وافرغتها عن محتواها الاكاديمي، واصبح من النادر ان تجد من بين شاغلي المناصب والوظائف غير التابعين والمؤيدين لها، وحتى الذين وجدوا في الاصل هم اعضاء اومؤيدين، لكنهم يعملون تحت واجهات الجبهة السرية، ويتظاهرون بالمعارضة، وهذه السياسة ألحقت ضررا شاملا بالسودان لم يحدث له مثل على مر تاريخ الدولة، وهى السبب الرئيسي في تدهور الدولة السودانية وفشلها الزريع الذي بلغ ما لا يسطيع احدا تحمله، إلا ان قامت الثورة السودانية والتى اسقطت نظام الجبهة الاسلامية بشكل لم يتوقعة المراقبين في الداخل والخارج، بل النظام نفسه لم يتوقع ذلك، مما احدث صدمة كبيرة لرأس النظام وقياداته وجميع عضوية التنظيم الاخواني وحلفاءهم، على الرغم من استخدامهم شتي الوسائل القمعية لدرجة القتل من اجل القضاء على الثورة، ولكن بفضل الصبر والعزيمة ووحدة وتماسك السودانيين وتمسكهم بسلمية الثورة شعارا واداء وتنظيما، حقق الشعب السوداني النصر واسقط اعتي نظام قمعي في تاريخ السودان، ولا ذالت الدولة العميقة موجودة، وتمارس نشاطها في كثير من مفاصل الدولة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر حادثة ارباك المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء مع ضيفه وزير الخارجية الألماني ليست ببعيدة، كما ان العديد من الاشخاص والمؤسسات لا ذالو يمارس سلوك الدولة العميقة، وللاسف الشديد ان نجد بعضهم ينتمون الى احزاب معارضة للنظام، وسلوك دولته العميقة، لقد ركبوا موجة الثورة واصبحوا يعملون ضد اهدافها في تحقيق التغيير الجزري واقامة سودان جديد خالى من الاقصاء والحروب والعنصرية والتهميش والنظرة الاستعلائية للآخرين، هاؤلا النفر يبحثون عن تحقيق مصالح شخصية وحزبية ضيقة تحت ستار الثورة، ولا يعيرون ادنى اهتمام لحل القضايا الوطنية المتجزرة، وما حدث عند توقيع الاعلان الدستوري، حيث رفض البعض تضمين الوثيقة التى تم التوقيع عليها في اديس ابابا بين الجبهة الثورية وقوى الحرية دون سبب مقنع هو غير دليل، والعديد من السلوك موجود ويمارس الان خاصة على مستوى الاعلام والاعلاميين بما فيه تلفزيون السودان القومي، وهى نفس سلوك الدولة العميقة في التعاطي مع القضايا والممارسة والتعامل مع الآخرين، لذلك اذا ما اردنا ان ننشد التغيير الحقيقي في اقامة السودان الجديد كدولة حديثة لكآفة السودانيات والسودانيين، تتمتع بالحرية والعدالة والمساواة والسلام والسلام الاجتماعى، علينا اولا ان نقبل انفسنا كسودانيين، ونغيير سلوكنا ونظرتتا للوطن وقضاياه، ونكون صادقين مع انفسنا قبل كل شئ، آخر، ونعلم كما يعلم الجميع ان عاتق هذه المرحلة تقع على رقاب الحكومة الانقالية، لذا ان واجبها هو القيام بعدة ثورات داخلية ليست من اجل القضاء على الدولة العميقة فقط، بل من اجل القضاء على كل السلوك الذي يتشابه مع سلوك الدولة العميقة.