تؤلمني كثيراً وتسعدني في ذات الوقت قصائد الشاعر الأمريكي والت ويتمان Walt Wittman 1819-1892- والذي عاصر الحرب الأهلية الأمريكية وكان ضميراً حياً وشاهداً على بشاعتها. تؤلمني الحرب إذ تنقلها ببراعة أشعار ويتمان ، ويسعدني صدقه في دقة تصوير المعطى الإنساني. يقول في إحدى قصائده راسماً مشهد جندي يحتضر:
بصعوبة تخرج حشرجة الموت
وتبدو العين زجاجية ملساء
بينما يحتدم الصراع المستميت
من أجل البقاء
(إقبل ايها الموت الجميل !
كن رحيماً أيها الموت الجميل وخذني !!)
من أيسر الأمور أن تطلق الأحكام، وتحسن رسم الخطط وأنت جالس في الظل، وأمامك كوب من الشاي أو فنجان من القهوة. وفي هذا يقول المثل السوداني الشائع (الفي البر عوام) ! أمثال هؤلاء ما عرفوا جحيم الحرب مثلما عرفها الشاعر الإنسان ويتمان أومثلما عرفها شعبنا في دارفور وجبال النوبة والإنقسنا!
ولعلّي أدلف دون إطالة إلى القول بأني ما رأيت أمة يجيد مثقفوها وسياسيوها التنظير مثلما ابتليت به الأمة السودانية. ولأن الغث تفيض به أروقة المكاتب والبيوت منذ أن حلّ طائر الشؤم بهذه البلاد قبل قرابة الثلاثة عقود واجتث اخضرها وأحرق يابسها ، فإنّ الحدث الأخير في ساحتنا السياسية – وأعني توقيع قوى نداء السودان على خارطة الطريق- كان جاذباً لشهية كل من هبّ ودبّ ليكتب.. خاصة وأنّ مواقع التواصل الإجتماعي تلعب دور الحمام الزاجل في إيصال كل ما يكتبون دون إبطاء.
أدّعي أنني شخص متابع للهم الوطني لبلادي. ودفعت وسأظل أدفع مثل الكثيرين ضريبة وطني قدرما تسمح به طاقتي وجهدي المتواضع. ولقد آلمني أن أقرأ كماً هائلاً من الكتابة حول (التوقيع على خارطة الطريق) لا ينال كتبتها من وراء ثرثرتهم البائسة غير أجر المجتهد. كثيرون أطلقوا الأحكام الفطير بفشل مسعى قوى نداء السودان والبعض لم يبخل بتوزيع صكوك التخوين! بل إنك لتكاد تعرف من أولى العبارات في المقال السليقة “حلالات” و”فرقان” الأحزاب والانتماءات التي جاء منها كاتب المقال! أمثال هؤلاء لم يصنعوا ثورة ولن تقوم على أيديهم انتفاضة.. كما إن معظم هؤلاء بكل أسف غاب عنهم أنّ التوقيع على (خارطة الطريق) في العاصمة الأثيوبية لا يعني بأي حال أنّ الفرقاء قد توصلوا إلى اتفاق سياسي لحل المشكل السياسي السوداني. ولعل الناشط السياسي خالد عمر يوسف (سلك) كان محقاً إذ كتب في مداخلة قصيرة له بموقع فيس بوك يقول: (الخارطة ليست اتفاقاً سياسياً ولا علاقة لها بموضوعات الحوار ولكنها حددت الآلية التي يمكن من خلالها الاستجابة لاشتراطات المعارضة للحوار عبر اجتماعين: الأول لوقف العدائيات وفتح ممرات الإغاثة والثاني لباقي الإجراءات من إلغاء للقوانين المقيدة للحريات وإطلاق سراح المعتقلين وتحديد أجندة الحوار وضمانات تنفيذه….ألخ).
كاتب هذه السطور كان ضمن وفد الخبراء في جانب الحركة الشعبية – ش ، بدعوة من الاتحاد الأفريقي لجلسة الحوار في شهر نوفمبر 2015م. وأشهد أننا كنا على مرمى حجر من التوقيع على ذات البنود أعلاه حتى تعبر الأطراف السودانية من بعد تنفيذها لمؤتمر دستوري جامع – ظل حلم السودانيين للخروج بالبلاد من دولة الحزب إلى دولة المواطنة. لكن الذي حدث – وقد كتبنا عنه آنذاك- أنّ وفد الحكومة أشاع في صحف النظام زإعلامه ذي الإتجاه الواحد بأن الآلية الافريقية رفيعة المستوى برئاسة امبيكي أنحازت لأطروحة وفد الحركة. طار بعدها رئيس الوفد آنذك ابراهيم محمود عائدا إلى السودان بحجة أن له ارتباطات!! كنا نعرف أنه ما من شيء يضيق به الإسلامويون أينما كانوا – وإسلامويو السودان بصفة خاصة مثل الحوار والمنطق. واليوم – كل الذي حدث – أن قوى نداء السودان قبلت التوقيع على خارطة الطريق بعد قبول اشتراطاتها القديمة – الجديدة ، والتي لم تضمن في مارس الماضي مما دفعهم لعدم التوقيع آنذاك.
لم يقل أي حزب أو كتلة سياسية في السودان حتى الآن بأنه ضد الحوار مع حكومة الواقع الحالية– بما في ذلك الحزب الشيوعي السوداني الذي أنهى مؤتمره العام قبل أيام. ربما تختلف الأطراف في كيفية الحوار مع سلطة الأمر الواقع الجاثمة بقوة السلاح على صدر شعبنا منذ اكثر من ربع قرن. لكنها جميعها تتفق على حل سلمي يجنب البلاد ويلات الطحان وتفتيت البلاد أكثر مما هي عليه اليوم. الجهة الوحيدة المستفيدة من دولاب الدم والحروب والمجاعات الطاحنة وهجرة الكفاءات والمضي قدماً في تفتيت ما تبقى من الوطن هي حكومة “الإنقاذ”. إنّ أي جهد يوقف الحرب وأي نافذة تهب منها نسمة الحريات العامة وطي صفحة القوانين المقيدة لها ستذهب بنظام المؤتمر الوطني إلى مزبلة التاريخ. ولا أظنّ أن أي حزب أو جماعة سياسية – عدا حزب الإسلامويين الحاكم- يمكن أن يرفض التوقيع على خارطة يبدأ الطريق إليها أولاً بإطلاق الحريات العامة وخروج المعتقلين والسجناء السياسيسن من السجون. ولا أظن أن حزبا – غير حزب الحكومة – يرفض التوقيع على خارطة يبدأ الطريق إليها أول ما يبدأ يوقف نزيف الحرب بحيث تصل الإغاثة ومنظمات العون والخدمات الطبية للملايين التي تحاصرها مليشيات عمر البشير منذ سنين؟ من هنا يكون الصراخ حول حرمة التوقيع على الخارطة مكابرة لا فائدة منها. الكيزان – لمن لا يعلمون- يعرفون جيدا أن الخارطة، إن اتبعت آلية الحوار فيها كما ينبغي- ستؤدي في النهاية إلى تفكيك دولتهم وذهاب مشروعهم الفاسد إلى مزبلة التاريخ. فالمؤتمر الدستوري الذي يرجى أن تشارك فيه كل ألوان الطيف السوداني، والذي يفترض أن يكون خلاصة ما يقود إليه حوار خارطة الطريق يعني بناء دولة القانون والمواطنة ، وهي ليست حلم الإسلامويين ولا بعضاً من تفكيرهم على أي حال. قوى نداء السودان لم تأت صاغرة إلى توقيع الخارطة ، فالحوار مع حكومة الواقع لم يكن بدعاً ذات يوم، والكفاح المسلح والكفاح المدني –وهم أدوات شعبنا في كسر شوكة هذا النظام- لن يتوقفا متى ما حاولت حكومة الخرطوم القفز من القارب والإخلال بشرط واحد من الشروط التي اتفق على تنفيذها للوصول للمؤتمر الدستوري والإنتقال لدولة المواطنة.
بقيت نقطة أخيرة لابد من أن أختم بها مقالي. للذين يتهمونني بأني بمثل هذا المقال إنما أدفع عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، لمثل هؤلاء أقول: لم تأتوا بجديد، فإن صداقتي للحركة الشعبية “تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه” كما قال زعيم ثورة 1919 المصرية سعد زغلول حين قال له البعض إنّ المقالات الناضجة التي يكتبها آنذاك الشاب عباس محمود العقاد إنما هي بقلمه هو – سعد زغلول. قصدت أن أقول إنّ تخوين البعض للحركة بهجومهم المسعور على قادتها كلما دعا الداعي (الآلية الأفريقية) للحوار مع الحكومة ، لن يزيد مؤسسات الحركة وقادتها إلا صلابة ومنعة. الحركة الشعبية كتيار ثوري له قضية عادلة – وكذا الحركات الحاملة للسلاح في دار فور. وعلى من يحاولون الاصطياد في الماء العكر أن يبحثوا عن موقع آخر يمارسون فيه هوايتهم. إنّ مجرد الوقف النهائي للحرب يعد مكسباً لكل سوداني ناهيك عن ملايين أبناء وبنات شعبنا في دار فور وجبال النوبة والأنقسنا. ومن يده في الماء البارد ليس كالقابض على الجمر. وقادة الحركة الذين التقيت بعضهم وأعرفهم عن كثب أشرف من أن تنال منهم نبال تصوب إلى صخور كاودا الشماء.
دعونا ننصرف لما هو أهم وهو حصر هذا النظام في زاوية ضيقة اسمها الحوار الجاد وبشهادة المجتمع الدولي..وليحاول النظام القفز من المركب هذه المرة ليرى كيف أنه لن يتبقى لشعبنا بأحزابه وحركاته المسلحة ومنظوماته المدنية غير الانتفاضة الشعبية بديلاً، وهي رهان لم ولن يسقط أبداً.