قبل أيام تعرض فريق الهلال الخرطومي للتهديد بألعقاب من قبل الفيفا لأن ألتراس الهلال رفع في مباراة الكأس مع المريخ صورة لهتلر، مما أثار غضب عالمي وأورد الخبر في وكالات أنباء عالمية. وفي السودان علق الكثيرين على الحدث خاصة من النخب السياسية والثقافية بسخرية من اجيال الإنقاذ الجاهلة ومن اساليبهم التي تدل على انعدام الثقافة. واعتبروا أن هذا الوضع هو نتيجة طبيعية لسياسات الكيزان ومناهجهم التي اوصلت الشباب الي هذا القدر من الجهل. لكن هؤلاء المثقفين والنخب هم أنفسهم خارج دائرة الوعي والإدراك الحقيقي بمدى التغيير الذي شهده المجتمع السوداني. فهذا التصرف ربما يراه البعض جهلا أو تصرف عشوائي، لكنه لا يخلو أيضا من إبداع ومن خروج عن المألوف والتقليدي، بل ربما يدل عن ثقافة أخرى، متحررة من التقاليد وكل ماهو متعارف عليه.
ان هذه المجموعات العريضة من الشباب السوداني الذين تمكنوا من النجاة عبر سنوات الإنقاذ الثلاثين التي شكلت حياة كل الشباب من سن 15 وحتى 40، هم في الحقيقة رمز للمقاومة والإبداع في اختلاق أساليب للتعايش مع الواقع المازوم لهذا الوطن. فهذا الشباب الذي نجي من حملات التجنيد الاجباري والدفاع الشعبي، ثم تحمل قوانين النظام العام التي تحد من حريته في كل شي. ابتداءا من حرية شرب الشاي على أرصفة الطرق مرورا بحريته في الاحتفال والرقص والفرح وانتهاء بحريته في المشي في الشارع مع من يحب دون خوف. ففي دولة الإرهاب الديني والقمع الأمني تحولت حياة شباب وشابات السودان إلى معركة يومية من أجل ابسط التعبيرات عن الحياة.
هذه المعركة التي يخوضها هذا الجيل لها جانبها الأكثر إيلاما أيضا، جانبها الذي يتعلق بالقتال اليومي من أجل البقاء على قيد الحياة نفسها. الصراع في كل صباح من أجل لقمة العيش التي اصبحت مسؤولية كل فرد في الأسرة صغيرا وكبيرا بعد أن عجز الآباء و الأمهات عن أن يكونوا الأعمدة التي تحمل البيوت. فاضطر الشباب الي الخروج الي الشارع أو إلى غابة الحياة مبكرا جدا. فأبن ال 15 يقود الركشة وبنت ال 16 تبيع الشاي أو الطعام. وللأسف في حالات أكثر من اللازم تحدث السيناريوهات الأسوأ، حيث تنعدم الخيارات سوى من السير في الطرق الخطرة. المخدرات والدعارة والكثير من الطرق التي لم يختارها معظم الذين ساروا فيها. فقد تفككت الأسر وانهارت تحت ضغوط القتال اليومي لأجل ما يسد الرمق.
ونتيجة لهذه التجارب الصعبة والمعقدة نتجت هذه الأجيال التي تؤمن فقط بنفسها والتي تعلمت التعايش مع الأسوا. هذه الأجيال التي تقاوم وتهزم هذا النظام كل يوم وهي تحافظ على قدرتها على الحياة. فهي لم تجد أمامها قيادة ولا مثل عليا. هذا الشباب الذي ينظم نفسه بنفسه سواء في الجروبات في العالم الافتراضي أو في الواقع، يمثل احد اهم القطاعات من الشعب السوداني. وهذا القطاع بهذه الخصوصية لا يمثله لا نقابات ولا اتحادات ولا أحزاب ولا حتى مجموعات شبابية في الساحة، وهو لا يحتاج لمن يمثله فهو قادر تماما على تمثيل نفسه والتعبير عنها بالوسائل التي يريد. سواء كانت موسيقى أو رياضة أو تمثيل أو تجميل أو غيرها. هذا الجيل ابتدع مساحات أخرى خارج السياسة والثقافة الرسمية التي تتبناها الدولة والمعارضة معا. خارج أطر المتعارف عليه والتقليدي. بل صنعوا تغييرات تلائم أوضاع البلاد التي وجدوها بلاد بلا رؤية وبلا أسس دولة وطنية راسخة.
ولماذا يهتم هؤلاء الشباب بالسياسة أو الثقافة بشكلها التقليدي ؟ فهل هناك أي حزب أو أي قوي سياسية أو حتى منظمات مجتمع مدني في السودان الان لها أي تواصل أو تأثير مباشر على هذا القطاع أو القطاعات الواسعة الأخرى التي تشكل الشعب السوداني كما هو في الواقع وليس كما يتخيله النخب السياسية المسجونة في ذكريات ماضي لم يعد موجودا.؟! فاين النخب والقوى السياسية السودانية من المجموعات العريضة من الشعب السوداني، أين هم من سواقين الركشات، والإمجاد والذين يمثلون شريحة واسعة تعول ملايين الأسر. وأين هم من النساء فهناك آلاف النساء يعملن في تقديم خدمات التجميل من حنة وبيع ملابس وتقديم خدمات المناسبات ولهم جروبات ومجموعات نسائية مهما كان أهدافها فهي تحوي عشرات الآلاف من الأعضاء يعيشون في فضاءات خاصة بهم يحلون مشاكلهم كما يستطيعون. مهما كان محتوى هذه المجموعات فهي تشكل إحدى صور تجمعات واسعة في داخل المجتمع لها تأثيرها في آلاف بل ملايين النساء من أمثال قروبات فسخ وجلخ أو غيرها من التي يحتقرها البعض، لكنها في النهاية تمثل شريحة واسعة لا يمكن تجاهلها . هذه القطاعات التي يتحدث عنها النخب في إلسودان بتعالي شديد ويتحدثون عنها على أنها ظواهر، اي كأنها شي مؤقت سيزول . لكن الحقيقة هي أن هذا هو الشعب السوداني، انه هو الموجود داخل هذه الجروبات وهذه المجموعات. فاما أن تقبل هذه النخب هذه الحقيقة أو تذهب لتبحث عن شعب آخر تقوده.
أن هذا التعالي والاستبعاد من قبل القوى السياسية على للغالبية الكادحة العظمى من الشعب هو أيضا دليل على العجز وانقطاع التواصل وانعدام القدرة على التأثير. فاالابراج العاجية والأحلام المتوهمة من مخلفات ثوارت القرن الماضي لا زالت تسيطر على النخب التي شاخت فكريا وروحيا وأصبحت منقطعة عن الواقع بشكل كارثي. ان جماهير محمود عبد العزيز لها القدرة على تنظيم نفسها ذاتيا ودون قيادة معينة والخروج بأعداد ضخمة لتابينه والقيام بأنشطة اجتماعية باسم الحواتة إجلالا لأحد ايقونات هذا الجيل. أما جماهير الألتراس لفريق الهلال فهي أيضا ذات قيادة ذاتية ومستقلة وتحتشد لتعبر دون خوف بكل الأساليب التي تريد.
هذه المجموعات هي فقط أمثلة على تجاوز قطاعات واسعة من الشعب السوداني لكل القوى السياسية والنخب ومقاومتها ورفضها الشامل ليس فقط للإنقاذ بل لكل ما كان سببا تاريخيا في إنتاج الإنقاذ وكل ما سمح لها بالبقاء. ان هناك مجتمعا آخر على أرض الواقع تختار النخب عدم رؤيته، وهذا المجتمع هو الذي تجاوز تلك النخب وكل ماتحمله من أفكار ورؤي عن سودان لم يعد موجودا واخر لن يكون ابدا. ان هذا الإنفصال التام عن أهم القوي الشعبية و المقاومة الحقيقية والثورية بطبيعة صراعها اليومي للبقاء، إنما هو السبب الرئيس لفشل القوي السياسية في السودان في تحريك الشارع وصناعة التغيير. فاصحاب المصلحة في هذا التغيير هم خارج دائرة اهتمام النخب والقوى السياسية. وتعبترهم ظواهر عابرة في حين أنهم هم القوى الحية التي لا تشكل فقط قاعدة جماهيرية وانتخابية بل هي تشكل اهم قطاعات الشعب. فالشباب السوداني خارج أركان نقاش الجامعات والعضوية الهزيلة العدد للأحزاب ، لن يهتم ابدا بالخطاب السياسي الحالي البعيد تماما عنه من ناحية اللغة والمضمون ولمس القضايا الأساسية التي تهم هذه الفئة . في الوقت الذي يستجيب فيه الآلاف لأي حراك تحت شعار الحواتة أو ألتراس الهلال او حفل دي جي أو حفل موسيقى الزنق .
على النخب والقوي السياسة السودانية التوقف طويلا وسؤال نفسها، اي شعب واي جماهير تريد أن تخاطب، تلك الجماهير المتوهمة في خيالهم ام هذه الموجودة على أرض الواقع. ان هذه المجموعات التي تقاوم النظام وتصارعه وتنتزع كل يوم منه حقها في الحياة، لا تعترف سوى بتجربتها في هذا الصراع اليومي المرير الذي تخوضه وحدها بلا دعم ولا قيادة. وهي مستعدة للاستمرار في مقاومتها وصنع خيارات بديلة لن يكون لهذه النخب والقوى السياسية فيها مكان، ببساطة لأن هذه الجماهير لا تعترف بهم كقيادة مثلما هم لا يعترفون بها كشعب . فكيف للقوى السياسية أن تقود من تحتقرهم وتستعلي عليهم؟
ان هذه القطاعات الواسعة من ألشعب السوداني خبرت الكيزان وخبرت منازلتهم وتعلم كافة حيلهم. وهي مستعدة لايجاد وسائل تضعف قبضة هذا النظام، ولكنها غير مستعدة ابدا للتعامل مع المجهول المبهم والمتوهم في خطاب النخب السياسية، هذا الخطاب القادم من تاريخ لم يعد له أي تأثير على الواقع. لذلك وجب إعادة النظر مليا، فعلى القوى السياسية والنخب التي من خلفها مراجعة مواقفها من الكثير من قطاعات المجتمع السوداني . فإن أمام هذه النخب السياسية خيار واحد وهو الاعتراف والعمل مع هذا الواقع وهذه الفئات الاجتماعية. والا فهذه النخب السياسية والثقافية ستري مدي فشلها بشكل حاسم وأنها لا مكان لها في مستقبل ألسودان مهما كان جيدا أو سيئا. وما يخشى منه البعض من الصوملة والعنف، فإنه مصير ربما لا يمكن تخطي احتمالاته مالم تحدث مراجعة شاملة وتوقف عن حالة الاستعلاء والانغلاق وبدء حوار وتواصل شامل مع كل قطاعات المجتمع السوداني الحقيقي وليس المتوهم.