ستنفرد صوت الهامش خلال الايام القادمة بنشر بعض فصول كتاب ( السودان : من العنصرية الى التطهير الاثنى) للكاتب الاستاذ عثمان نواى والذى سينشر قريبا عن دار النخبة فى القاهرة. وهنا نلقى الضؤ على الباب الثالث فى الكتاب الذى يحلل تناقضات مفاهيم الوطنية السودانية منذ نشاة الحركة الوطنية فى مواجهة الحكام الاجانب منذ القرن التاسع عشر. وسننشر فى الايام التالية اجزاء من تاريخ الحركة الوطنية السوداء التى قادها السودانيون فى المناطق المهمشة منذ عهد التركية.
…
هذه الروح القتالية امتدت الى الجنود من الرقيق الذين استخدمهم محمد على باشا باعداد كبيرة كقوات رئيسية فى السودان وفى مصر ايضا. ومن اشهر الثورات التى قام بها هؤلاء الجنود الذين اشتهروا باسم ” الجهادية” كانت ثورة الجهادية فى كسلا والتى استمرت لعام كامل. وقد برزت فيها شجاعة كبيرة للجهادية فى الدفاع عن حقوقهم , والانتفاض من اجل كرامتهم التى شعروا بانها تمت اهانتها المرة بعد الاخرى. فقد اهينوا عبر مناوارات خططها الاتراك مع الاعيان المحليين فى كسلا بينهم السيد الميرغنى زعيم الختمية , وكانت نتيجة تلك المؤامرات هى اشعال الثورة لفترة اطول, وسفك المزيد من الدماء. وانتهت الثورة بمجزرة كبيرة للجهادية وبطريقة وحشية ولا انسانية ولكن بعد مقاومة استمرت لعام كامل. وتلك الثورة كشفت عن الوجه القبيح للعنصرية تجاه هؤلاء المقاتلين الذين كانوا يفدون الخديوى وحكومته بأرواحهم. وقد كان الخديوى يدعى انه يعامل الجهادية من جنوده كأحرار
, لانه يعطيهم مرتبات ويسمح لهم بالزواج من اهل البلد ويدعى ان لهم حقوق كاملة. ولكن المعاملة التى تلقاها الجهادية فى كسلا , ومحاولات بيعهم كرقيق للقبائل العربية فى الشرق, تثبت ان الجهادية بالنسبة للاتراك والدولة الخديوية والاهم بالنسبة للسودانيين الشماليين الذين كانوا جنودا وضباطا وساهموا فى قمع وقتل الجهادية فى ثورتهم , لم يكن الجهادية لكل هؤلاء سوى رقيق يباع ويشترى وليس جنود لهم احترامهم وتضحياتهم. فاثناء ثورة الجهادية كان هناك ضباط من الشايقية واورطة كاملة من الجنود الشايقية المسمين الباشبوزق وساهموا مع الاتراك فى قمع تمرد الجهادية. ولم يكن دور الميرغنى سوى داعما لمخططات الاتراك للتخلص من الجهادية بقتلهم او بيعهم للاعراب من القبائل المجاورة, واتفقوا مع تلك القبائل بان يرسل الجهادية الى اراضيهم لجمع الضرائب, على ان يقوم الاعراب باسرهم واسترقاقهم. ولكن الجهادية فطنوا لهذه المؤامرة , مما زاد غضبهم واشعل لهيب ثورتهم.
وقد كرر الجهادية الذين استسلموا للمهدية وتركهم الاتراك من خلفهم الثورة ضد الدولة المهدية, فقد كان الانصار كما يشهد القس اورهويل يعاملون الجهادية معاملة دونية, اذ يقول :” لقد كان هناك شعور بالغبن بين السود تجاه الانصار , لان الانصار كانوا دائما يضعون السود فى المقدمة اثناء المعارك والقتال.” هذا التمييز وهذه العنصرية فى التعامل لم يحتملها الجنود السود, الذين كانوا من الجهادية فى غالبهم والرقيق الذين جندهم الانصار, او اتوا تبعا لسادتهم من امراء الانصار الذين كانوا تجارا للرقيق من امثال النور عنقرة. وفى المرحلة التى تحدث عنها القس, فان هذا الغضب كان يتم ربما التعبير عنه فى شكل تذمر , اذ ان هذه الملاحظة كانت قبل فتح الخرطوم واثناء اقامة المهدى فى الرهد فى طريقه لامدرمان. ولكن هذا التذمر ليس فقط من المعاملة السيئة , ولكن من المهدية كسلطة قمع, ظهر جليا من خلال ثورة الجهادية فى الابيض. والتى بدأت منذ بداية تثبيت الدولة المهدية لاقدامها فى عام . 1885وقد اشتعلت الثورة ب 200 رجل من الجنود القدامى فى الجيش المصرى التركى, والذين قتلوا الحاكم فى الابيض وانتشروا الى جبال النوبة القريبة جغرافيا والتى من المرجح ان بعضهم كان اصولهم منها. واستمرت الثورة لعامين ولم تنتهى الا مع بداية عام 1887, وقتل فيها العديد من الانصار اهمهم القائد الانصارى من الاشراف محمود عبد القادر. والذى قتل على يد الجهادية عام 1885 حينما اصر على مطاردتهم الى جبال النوبة حيث قتل هناك.
وحسب نعوم شقير فان الامير محمود عبد القادر قاتل الجهادية فى جبل الجنمج ومعه الف رجل. ولكن القس اوهولويل يقول ان الامير محمدود تحرك لقتال الجهادية بما ياقرب ال 8 الاف رجل . وحين وصل عبد القادر الى مناطق الجهادية المحتمين بالجبال , قرب مناطق الغلفان طلب منهم الطاعة فرفضوا طاعته فنشبت المعركة , وانتصر الجهادية وقتلوا 100 رجل من الانصار والبقية فروا عندما علموا بمقتل الامير. وقد قام الجهادية باخذ جثمان الامير ودفنه بطريقة مشرفة احتراما لشجاعته فى اصراره على مواجهتهم. ان شهادة القس اوروهويل على الحدث كانت مثيرة للاهتمام, لانه هو شخصيا كان ماسورا لدى الانصار فى الابيض, وكان فى نفس الزريبة التى انطلقت منها عمليات الثورة الاولى. حيث ان الزريبة كانت تاوى العبيد التابعين لبيت المال والاسرى الذين كان من بينهم القس نفسه واعداد من الرقيق من النساء والاطفال والرجال. ويقول القس انه فى منتصف النهار بدا يسمع صوت اطلاق الرصاص وحينما خرج ليرى ما يحدث وجد الزريبة فارغة تماما , فلا الجنود الجهادية ولا بقية الرقيق و اسرهم كانوا موجودين. و يقول القس انه حتى الرقيق الذين كانوا مربوطين بالقيود قد تم تحريرهم, وخرجوا من الزريبة فى هدوء لم يشعر به. ويروى ان اول ما استولى عليه جنود الجهادية هو مصنع تعبئة الذخيرة , وقد استولوا على جميع الذخيرة والاسلحة الموجودة والتى كانوا هم افضل من يجيد استخدامها لانهم تدربوا عليها كجنود ضمن الجيش المصرى, على عكس الانصار الذين لم يكونوا معتادين على استخدام السلاح النارى , على الاقل ليس بذات الخبرة. ولذلك كانت الغلبة السريعة جدا فى السيطرة على الوضع فى الابيض فى يد الجهادية المنظمين عسكريا , والذين سيطروا على المخزن ثم هاجموا المديرية, وجرى قتال شديد بينهم وبين الانصار استمر حتى المساء.
ويضيف القس ان الرقيق المملوكين لدى السكان فى الابيض, هربوا من سادتهم وانضموا الى الثوار . وبدات فى الليل احتفالات صاخبة من الغناء والرقص, وشرب الجنود الخمر الذى كانت تحرمه عليهم قوانين الدولة المهدية. وغنت النساء واصبحوا يغيظون الانصار ويدعونهم للانضمام اليهم فى الرقص والغناء والشرب. تلاحظ يوشيكو كوريات ان هذه الثورة كانت تحمل تعبيرا قويا على رفض القوانين الاسلامية الصارمة التى فرضتها المهدية , حيث كان العقاب بالجلد ينفذ فى كل من يشرب الخمرو ولذلك جزءا من تحدى هؤلاء الجنود للسلطة هو ممارستهم للشرب على العلن. والغناء والرقص الذى هو جزء اصيل موروثهم الثقافى الافريقى , والذى لم تحرمه التعاليم الاسلامية الصوفية الاكثر تسامحا التى كانت سائدة فى السودان وفى مصر ايضا. فلا شك ان هؤلاء الجهادية كانوا مسلمين فى معظمهم على الاقل على المستوى الثقافى والاحتكاك مع المسلمين من سادتهم المصريين او الاتراك , ولكن كان الاسلام الذى تعاملوا معه يختلف عن هذه الصورة المتعصبة التى تبنتها الدولة المهدية.
يواصل القس ليروى احداث الثورة, ويؤكد على اسفه لحقيقة ان الثوار لم تكن لديهم قيادة اكثر طموحا من الرغبة فى التحرر من قيود الرق وتعصب الدولة المهدية واحتفار الانصار لهم. فيقول انهم فى الصباح التالى “اقاموا طابورا عسكريا شديد التنظيم وادوا التحية للخديوية , وتواجهوا مع الانصار لكن الجهادية كانوا قد افرغوا مخزن الذخيرة وصبوا ما تبقى من البارود فى الابار وتخلصوا منه, وضمنوا تفوقهم العسكرى وامانهم , مما ادى الى ان يخسر الانصار اكثر من 500 قتيل بينما خسر الجهادية 5 فقط وجدت قبورهم فى داخر مخزن الذخيرة. وفى العصر قام الجهادية ومن رافقهم من الرقيق من مدينة الابيض بالسير فى نظام تتقدمهم النساء والفرقة الموسيقية مع الاطفال. وعندما حاول الانصار اللحاق بهم قتلوا من الانصار 50 اخرين, ويقدر القس ان الجهادية الخارجين من المدينة والرقيق الفارين معهم وصل عددهم الى الف رجل. اتجه الجهادية ومن معهم من الرقيق الفارين, اولا الى الدلنج ومنها الى جبال الجنمج, ثم الى جبال الغلفان, وتمت كما ذكرنا مواجهة عنيفة بينهم وبين الامير عبد القادر وجنوده فى اثناء تنقلهم.
وظلت جنود الانصار بقيادة حمدان ابو عنجة ومن بعده عبد الله ابراهيم والذين اصبحوا يطاردون الجهادية فى جبال النوبة متجهين جنوبا حتى قتل زعيم الجهادية على يوسف على يد عبد الله ابراهيم , وقطع رأس على يوسف مع اثنين من الزعماء وارسل الى ابو عنجة فى الابيض ومنها الى امدرمان الى الخليفة والذى وضع الرؤووس معلقة فى السوق لايام عديدة حسبما يروى نعوم شقير. هذه الحملات ضد الجهادية كانت ايضا حملات متوحشة قتل فيها المواطنين وحرقت القرى وتم سبى العشرات بل المئات من النساء والرجال من اهل جبال النوبة. يروى نعوم شقير ان عبد الله ابراهيم كان قد هجم على جبال النوبة قبل هذا الهجوم على الجهادية فى يونيو 1886, حيث ان الهجوم على الجهادية كان كان فى نوفمبر من نفس العام . وفى هجومه الاول يقول نعوم شقير ان عبد الله ابرهيم : ” غزا جبل كودور والكافير فى اوائل يونيو 1886 فغنم 400 راس رقيق و200 بقرة و55 بندقية. ثم غزا جبل الداير فنكل بحلتى كملة وسدرة وغنم 409 رؤوس رقيق و601 بقرة وقتل الملك الباجى وتسعة من اعيانه. ثم بعد قتل الجهادية اواخر سنة 1886 وبداية 1887 زحف ابو عنجة بالجيش كله فغزا جبال انبرى وتقوى ورشاد والكدرو وغنم منها اشياء كثيرة .”
ان ثورة الجهادية فى الابيض تحمل فى ثناياها الكثير من الاشارات التى تتوجه نحو فهم حركات المقاومة للسود وخاصة الجهادية. فيلاحظ انهم قد ادوا التحية للخديوى, والذى كان سيدا عليهم ولم تكن معاملة الاتراك لهم على ذلك القدر من الاحترام, ولكن يبدو ان تلك التحية لها دافعها السياسى وهو اعلان عدم الاعتراف بسلطة المهدية والغاء شرعيتها عبر اداء تلك التحية . كما ان للارتباط بالجيش عامل اخر مهم, يتعلق بالمكانة التى كان يحظى بها الرقيق المجندين والتى ترتبط بالرتبة العسكرية وامكانيات الترقى , فقد وصل بعضهم لمرتبة الضباط مع حصولهم على مرتبات بشكل اوباخر. مما جعل وضعيتهم الاجتماعية, خاصة لاولئك الذين خدموا فى مصر, افضل بكثير من وضعيتهم كرقيق لملاك سودانيين. ولذلك كان العديد من الرقيق يهربون من اسيادهم للانضمام للجهادية فى عهد الاتراك, وفى عهد المهدية ايضا, بحثا عن مكانة اجتماعية افضل وحرية اكبر. ولذلك كان لدى الجهادية حسا اكبر بالانتماء للخديوية من انتمائهم للمهدية, اذ ان الانصار كما ذكرنا كان بعض قادتهم من تجار الرقيق, كما ان معاملتهم للجهادية يبدو انها كانت سيئة بقدر كبير مما اوضحت شهادة القس اورهويل, مما راكم الغبن فى نفوس الجهادية. هذا رغم ان الجهادية كانوا القوة الوحيدة المدربة على استخدام السلاح النارى, ” ولكنهم دفعوا فى معظم الحالات على الوقوف الى جانب المهدية بالقوة (كأسرى), وكانوا يوضعون فى المقدمة بينما يبقى العرب فى المؤخرة”
من ناحية اخرى نجد ان استمرار القتال خاصة فى مناطق الجهادية الاصلية مثل جبال النوبة, واستمرار سبى الرقيق ربما كان دافعا ايضا للثورة, خاصة مع اتجاه الثوار للاحتماء بمواقع انتمائهم الاصلية فى داخل جبال النوبة. كما ان ما قاموا به من اطلاق الرقيق الموجودين فى بيت المال حتى المقيدين منهم, وانهم اخذوا معهم النساء والاطفال من الرقيق فى الابيض الذين فروا من سادتهم, يجعل ثورة الجهادية فى الابيض هى ثورة ضد الرق بامتياز. فقد كانت ثورة مناهضة للرق وبجميع اشكاله, سواء الرق المستخدم من قبل الدولة او المجتمع. كما ان انتقال الثورة الى مصدر سبى الرقيق فى جبال النوبة, وارتكاز المقاومة هناك لاكثر من عام يدل على ان الجهادية قد وجدوا دعما من النوبة الذين كانوا اصلا فى حالة قتال مستمر ودفاع عن النفس ضد غزوات الانصار المستمرة بغرض سبى الرقيق. وهذا يؤكده ما رواه شقير عن غزوات ابو عنجة وعبد الله ابراهيم المتعددة للجبال وسبيهم لاعداد كبيرة من الرقيق ونهبهم للمواشى والممتلكات. وبالتالى كانت ثورة الجهادية ثورة وحراك متعدد الابعاد فله بعده السياسى المرتبط برفض سلطة الدولة المهدية, وله بعده الاجتماعى والاخلاقى المرتبط بتحرير الرقيق, وله بعده الوطنى المرتبط بعودة الجهادية الى جبال النوبة والمشاركة فى الدفاع عنها وترابطهم مع الاهالى هناك لاجل هذا الغرض. حيث اقاموا دولة عسكرية اعترف بها السكان المحليين وقدموا لها الدعم المادى من غذاء وماشية. وقد اوحت ثورة الابيض للجهادية فى دنقلا بالثورة , ولكنها قمعت سريعا ولكنها اتخذت نفس النهج فى محاولة تنصيب احد القادة كباشا.