ستنفرد صوت الهامش خلال الايام القادمة بنشر بعض فصول كتاب ( السودان : من العنصرية الى التطهير الاثنى) للكاتب الاستاذ عثمان نواى والذى سينشر قريبا عن دار النخبة فى القاهرة. وهنا نلقى الضؤ على الباب الثالث فى الكتاب الذى يحلل تناقضات مفاهيم الوطنية السودانية منذ نشاة الحركة الوطنية فى مواجهة الحكام الاجانب منذ القرن التاسع عشر. وسننشر فى الايام التالية اجزاء من تاريخ الحركة الوطنية السوداء التى قادها السودانيون فى المناطق المهمشة منذ عهد التركية.
…
رغم ان الوطنية السودانية بشكل الانتماء للارض او الثقافة الموحدة لم تكن ايضا امرا واضحا لدى المجموعات الافريقية السوداء فى السودان او الغير عربية, الا ان هناك نازعا قويا نحو حالة من الاستقلال والحرية لدى هذه المجموعات جعلت عمليات قمعها واخضاعها من قبل القوى الغازية للسودان امرا صعبا ومكلفا على المستوى المادى والفترات الزمنية ايضا. هذا التمنع والروح الاستقلالية المرتبطة بالروح الحرة المرتبطة بالطبيعة المفتوحة والغنية بالموارد, جعلت هذه المجموعات تميل الى نظم اجتماعية اكثر تفضيلا للاستقلالية, لكن نظمها الاخلاقية لا تزال مرتبطة بما يحقق الخيرالعام للانسان داخل مجتمعه . لذلك نجد ان المكونات الافريقية داخل السودان لم تخضع بسهولة للغزاة الاجانب, وقاومت بشدة اشكال الحكم الدخيل التى حاولت فرض نفسها عليها بالقوة. وهذا الارث له جذوره العميقة فى التاريخ المتعلق بهذه الارض التى تسمى الدولة السودانية الان. فمنذ عهد الفراعنة فان السودان او دولة النوبة وقتها كانت تعيش فى حالة من الاستقلال عن ارض مصر , وحتى عندما حدث اختلاط عبر الهجرات من مصر او انتقال الحكام النوبة لحكم مصر نفسها فى الاسرة الخامسة والعشرين, ظلت هناك سمة متفردة للكيان النوبى السودانى وطابع مستقل لهذا الكيان. هذا الطابع الاستقلالى امتد عبر دخول المسيحية الى النوبة , التى اخذت ايضا وقتا طويلا لكى تصبح دينا منتشرا بين العامة. كما ان دولة النوبة ودولة البجة فى الشرق ظلتا من خلال حالتهما المستقلة تلك تمارسان ضغوطا مستمرة, عبر الاغارة على جنوب مصر, حيث اكدت تلك التحركات على استقلالية كبيرة بل وتهديد للجوار المصرى. اما التحدى الاكبر للكيان السودانى وللنوبة كدولة وقتها كان دخول العرب والمسلمين, والذين لم يبدوا اهمية كبرى لدخول السودان فى السنين الاولى, لكن مع انهزام الامويين امام العباسيين بدات القبائل العربية تتوافد على النوبة. وقامت النوبة بمقاومة دامت 700 عام ضد المد العربى والاسلامى فى السودان.
و اثناء حكم دولة الفونج لم تتمكن العروبة والاسلام من التحكم و السيطرة على كل السودان. فقد ظلت دارفور رغم اسلامها دولة مستقلة, كما ان الجنوب لم يتم فتحه بشكل كامل الا على يد الاتراك قبل مائتى عام, وذلك لاسباب طبيعية بالدرجة الكبرى متعلقة بطبيعة المنطقة الوعرة. اما جبال النوبة الجبلية فقد قاومت بشدة التاثير العربى رغم احاطته بها من كل الجوانب, كما قاومت التاثير العربى على مستوى الاختلاط العرقى ايضا, واعتصم النوبة فى جبالهم رغم غارات اصطياد الرقيق التى لم تتوقف لخمسة قرون. وهذه القدرة على المقاومة والنجاة من الغزو والعنف المستمر المرتبط بغزوات الرقيق, ومحاولات الاخضاع, تلك المقاومة لها جوانبها المهمة المرتبطة بجذور هذه المجموعات الثقافية ونظرتها الاستقلالية لنفسها. ففى عهد المهدية يشهد القس اورهويل على الهجمات التى كانت تشنها قوات المهدية بقيادة ابو عنجة, اضافة الى الجلابة من تجار الرقيق. ويروى مدى الشجاعة التى كان يواجه بها النوبة الغزاة على ارضهم وكفاحهم ابان المهدية من اجل البقاء فى اراضيهم. ويوثق للهزائم الكبيرة التى تلقاها الانصار على يد النوبة, حيث فى احد الغزوات قتل النوبة 400 من الانصار فى هجوم واحد , الامر الذى اجبر حمدان ابو عنجة التراجع مسرعا وغاضبا من تلك الهزيمة. ويقول القس اورهويل ان الهجمات المتتالية والهزائم المتتالية على يد الانصار ارهقت الانصار , على الرغم من وحشيتهم فى حرق القطاطى والقرى الخاصة بالنوبة. وعن مجاهدات النوبة ومعاناتهم فى مقاومة الانصار يقول اورهويل:” يمكننى ان اقضى وقتا طويلا فى سرد جميع الفظائع التى عانى منها النوبة المساكين على يد الانصار, ولكن لماذا هذه المعاناة؟ فقط لان النوبة حاولوا ان يستعيدوا حريتهم وان يدافعوا عن ارض ابائهم ورفضوا اتباع المدعو المهدى لحصار الخرطوم.” ويواصل ليروى اهمية الحرية بالنسبة للنوبة قائلا:” ان احد الرجال المأسورين فى الزريبة هو واطفاله قام باتخاذ قرار مؤسف, فقد حضن اطفاله ثم قام باستلال سكين وقتل اطفاله وزوجته حتى لا يصبحوا عبيدا.” فالموت افضل من حياة العبودية. هذه القصة ان صحت او لا فهى تعبر عن الرغبة القوية لدى النوبة فى الحرية والاستقلال, وعدم الاستسلام والخضوع بسهولة, وتفضيل الموت على حياة الرق ومعاناة الاستعباد. ويقول القس اورهويل :” ان الحرب استمرت فى جبل الداير لفترة طويلة والنوبة حاربوا بشجاعة متناهية , فقد كنت اسمع عن شجاعتهم من الانصار الذين كانوا ياتون لبيت السيد الذى كنت فى عهدته.”
هذه الشجاعة التى اقر بها العدو هى انبل انواع الشجاعة فى الزود عن الوطن والارض والعرض. ولم تتمكن الدولة المهدية ولا الدولة التركية من الاخضاع الفعلى لقبائل جبال النوبة, فقد كانوا فى حالة مقاومة مستمرة. خاصة مع القوة المفرطة المستعملة ضدهم من قبل تجار الرقيق وغزوات اصطياد الرقيق التابعة لكل من الاتراك او الانصار. والتفوق فى السلاح والعتاد جعل الخسائر البشرية للنوبة والجنوبيين ايضا فى مقاومتهم للاسترقاق خسائر فادحة خاصة فى الرجال. و قادت الى نقص حاد فى اعداد السكان, فالخارطة السكانية للبلاد تغيرت واضطرت قبائل باكملها للفرار من اراضيها. ويصف احد الرحالة وضع الدينكا فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فى محاولتهم الدفاع عن اراضيهم فى مواجهة العرب وتجار الرقيق قائلا:” انه من بين قوة 400 رجل من افضل رجال الدينكا ذهبوا للدفاع عن قراهم ضد العرب الغازين عاد منهم 50 فقط واغلبهم كانوا جرحى.” كما هو ملحوظ فان الدفاع عن الوطن والارض كان مقترنا بالدفاع عن الحرية وضمانها. فقد كانت اهداف الغزاة على اراضى السود فى جبال النوبة وجنوب السودان, كانت دائما تتجه الى صيد الرقيق. ولذلك فان الحفاظ على الارض وحمايتها من الغزاة كان يعنى ايضا الحفاظ على حرية الفرد والمجتمع ككل, وحمايتهم من التعرض للاسترقاق, لذلك كانت التضحيات جسيمة نسبة لازدواجية الهدف.