لم يكن انفصال جنوب السودان 2011، إلا تجليًا لواقع انقشع عنه الغطاء، فالانفصال السياسي والجغرافي كان قد سبقه انفصال اجتماعي نتج عن تراكمات سببها الحرب، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. اختيار مجموعة، تشكِّل ثلث سكان البلاد، الانصراف عن كل دعاوى العيش المشترك والتاريخ الواحد؛ حالة غربة عاشها مواطنو جنوب السودان في وطنهم، وليس ثمة أكثر بؤسًا من أن تعيش غريبًا داخل وطنك.
تصف الغربة حالة الانسلاخ من المجتمع وعدم المقدرة على التلاؤم مع الأوضاع السائدة، مع إحساس دائم بالحنين إلى الماضي وترقب لمستقبل زاهر ما، يولِّد عدم استقرار يعيش فيه المتغرب حالة لا ثبات دائمة وقلقًا مستمرًا، بافتراض أن أي لحظة تشكل لحظة رحيل محتمل، أو لحظة تغيير الوضع إلى أفضل، ولذلك يغيب عن تفكيره التخطيط لمشاريع بعيدة المدى، ويكون رهنًا للمتغيرات الآنية، كما تتميز حالات الغربة بتدمير وتمزيق مشاعر الانتماء إلى الجماعة. ولئن تعددت أسباب الغربة وأنواعها، فإن الحروب تشكل عاملًا يهيئ لنشوء الكثير من حالاتها، بل هي سبب مباشر في الغربة المكانية، بما تسببه من نزوح وهجرة. أسوأ ما في الحرب أنها تصنع غرباء أبديين. تتكسر رويدًا روابط الانتماء إلى الوطن، وتتقطع خيوط الارتباط بالمجتمع، وصولًا إلى حالة اللا انتماء واللامبالاة، وحينها، تفقد الوحدة معناها الجوهري، حيث لا تفيد الجغرافيا ولا التاريخ المشترك، ولا الأواصر الاجتماعية التي لا تتعدى، في هذه الحالة، كونها غمدًا يغطي سيفًا مكسورًا.
لربما يرى البعض أن فقدان الأقارب هو أسوأ ما بالحرب، ولكن الحقيقة هي أن الإنسان بمقدوره تقبل فقد الآخرين، لوجود إيمان مسبق بعدم خلود الإنسان، ولكن الحنين إلى الأرض يدوم، فالشخص، مهما ابتعد، فإن أرضه تظل موجودة، ويظل يحنّ إليها طالما كان حيًا، وفي السودان، يعيش اليوم الملايين غربة مكانية قسرية، يتوزع نازحو الحرب بين أطراف مدن توفر لسكانها خدمات لا ترتقي إلى الحد الأدنى لمعيشة الإنسان، ويتناثر آخرون بين معسكرات نزوح لا تتوافر فيها أدنى متطلبات الحياة، وبين هذه المنافي القسرية، ينازع السودانيون الغربة بأنواعها المختلفة.
أهم ما يميز الغربة المكانية هو أن الإنسان فيها لا يحس بالاستقرار، فالكثير من سكان أطراف المدن السودانية من النازحين، ورغم تطاول فترات سكنهم وتوالد أجيال بها، إلا أنهم لا يرون في مساكنهم سوى ملاجئ مؤقتة، سيتم الانتقال منها ريثما تصلح الأحوال، فالنازح لا يحس، أبدًا، بالانتماء إلى ملجئه، مهما كان آمنًا؛ فلا المكان مكانه ولا البيئة بيئته، ولا ما يؤديه من عمل هو عمله، ورويدًا تتخذ الغربة بعدًا وجوديًا، حيث يبدو المتغرِّب تائهًا عن ذاته، وتبدو كل أفعاله ونشاطاته متعارضة مع رغباته ومقدراته، بل حتى مصالحه. المزارع الذي كان يحصد قوت عامه في موسم زراعي واحد، والراعي الذي كان يملك قطيعًا من المواشي، كلاهما قد يضطر في غربته إلى امتهان مهن هامشية هي أبعد ما تكون عن إمكاناته، والبعض تضطره الظروف إلى الانضمام إلى قوات نظامية والعودة إلى ما فرّ منه، جنديًا حتى وإن لم تكن له مصلحة في الحرب، وحتى لو كانت ضد مبادئه. في هذه الأمثلة، تتجلى الغربة في أسوأ حالاتها، حيث إن الإنسان يعيش لتلبية حاجاته الأولية فقط، وهي النقطة التي يكون فيها أبعد ما يكون عن ذاته أو أغرب ما يكون عنها.
حالة الغربة عن المكان هي حالة أبدية؛ فالإنسان حين يبتعد زمانًا عن مكان، فهو يظل غريبًا وإن عاد، حتى وإن لم يتغير المكان؛ فإن الفجوة الزمانية التي يصنعها الغياب لا يمكن ملؤها مطلقًا، إضافة إلى أن الإنسان في غيابه يبدو إنسانًا آخر، يتفاعل مع بيئة مختلفة وإن لم يصل إلى حالة الإحساس بالانتماء إلى البيئة الجديدة، ولكن عودته، في كل حال، تشكل تغرُّبًا آخر، ولو بدرجة أقلّ.
تؤدي عمليات النزوح والهجرة إلى فك الارتباط بين الإنسان وبيئته، وطالما أن الثقافة هي نتاج التفاعل بين الإنسان وبيئته، فإن وضع الإنسان في بيئة مغايرة يؤدي إلى خلق ارتباك في طبيعة تفاعله مع البيئة، بحيث تؤدي محاولات التوافق والتفاعل مع البيئة الجديدة إلى تشويه الفعل الثقافي، بإفقاده تلقائيته، فالعادات والتقاليد المرتبطة وثيقًا بالبيئة، تفقد الأرضية التي تستند عليها، ففي جبال النوبة، مثلًا، ترتبط عادة “السِّبر”، وما يصاحبها من طقوس، بمواسم الزرع والحصاد والمناسبات الاجتماعية، ومثلها كرنفالات المصارعة والرقص التي ترتبط، أيضًا، بمواسم وظروف معينة. في ظل الغربة المكانية، ونتاج الحنين الدائم إلى الماضي، ومحاولات الحفاظ على عقد الثقافة من الانفراط والذوبان في ما حولها من الثقافات، تحاول المجموعات النازحة، بقدر ما تستطيع، أن تحافظ على عاداتها وثقافاتها، بممارستها في معزل عن بيئتها الأصلية، وذلك بتنظيم المهرجانات الموسمية والكرنفالات ذات الطابع الاحتفالي، بجهود شعبية وأحيانًا بمساعدة الآلة الحكومية التي من مصلحتها تثبيت حالة الغربة هذه، لتظهر كما لو أنها طبيعية. لا تنتج المحاولات هذه إلا مسخًا ثقافيًا خاليًا من الروح، وفي النهاية، يتم حبس الإنتاج الثقافي للمجموعات المتأثرة بالحرب داخل سوح المهرجانات الثقافية، والبرامج التلفزيونية التي لا تخلو من حالة تهافت بيّن، هذا بالإضافة إلى الاستخدام الدعائي لهذه المظاهر، باعتبارها تعبيرًا عن السلام والتعايش وقبول الآخر، وترسيخًا للوحدة الظاهرية، في وقت الذي تتم فيه الممارسات كهروب من حالة اللا انتماء وحنينًا إلى الموطن، تعبيرًا عن حالة قلق يعيشه المتغربون، وكيف يكون سلام إن لم ينبع من الداخل؟
في ظل هذا الوضع، ينشأ صراع ثقافي بين جيلي الآباء والأبناء. فالآباء، في ظل إحساسهم بالغربة، يحاولون توريث مشاعر الانتماء للموطن الأصل إلى الأبناء، بمحاولة غرس القيم التي تم توارثها من الأجداد في المجتمع القديم، في منافسة مع قيم المجتمع الذي يعيشون فيه؛ فيعيش الأبناء حالة فصام تربوي بين البيت والشارع، وفي النهاية يتمّ توريثهم حالة الغربة ذاتها؛ فيعيشون بلا انتماء كامل للمكان الذي ولدوا ونشأوا فيه، حتى لو كان داخل الوطن، كما أنهم يكونون أكثر غربة عن موطن آبائهم، فلن تستطيع الأجيال الجديدة، إن حدث السلام، أن تظهر رغبة وحماس الآباء في العودة إلى القرى والمدن التي فروا منها بسبب الحرب، وبالنظر إلى هذه الحقائق، يمكننا تخيُّل الارتباك الذي عاشه العديد من الجنوبيين ممن ولدوا في ظل النزوح القسري، وعاشوا الغربة المورثة، ثم اضطروا، بواقع الانفصال، للعودة إلى قرى ومدن لم يروها قبلًا ولم يسمعوا عنها إلا في أخبار الحرب وحكايات الجدات. هي رحلة من غربة إلى غربة أخرى، ثم، وفي مستهل محاولاتهم وصراعهم من أجل خلق ارتباطات جديدة بالبيئة، وتكوين شبكة علاقات اجتماعية ترسخ للانتماء الجغرافي والسياسي الجديد، تنشأ حرب أخرى أكثر عبثية، فيلملم البعض أغراضه هربًا إلى أرض الغربة الأولى ذاتها، ولكنه يعود غريبًا، بل يعود أغرب.
لابد من أن يوضع في الاعتبار أن بعض الآليات الثقافية، كاللغة والدين، تمّ استخدامها في الحرب كرأسمال رمزي للسلطات أحادية التوجه، وبنت معظم حركات التمرد برامجها السياسية على معارضة التوجه الثقافي للدولة، وكان للحرب الثقافية تأثير مباشر في بناء جدار عازل بين الوطن الاعتباري، وبعض المكونات التي تنتمي إليه جغرافيًا وتاريخيًا، فالرئيس إبراهيم عبود، مثلًا، وفي العام 1962، قام في خطة محاربته للتمرد، حينها، بطرد الإرساليات المسيحية، وحاول فرض اللغة العربية وتغيير أيام العطلات لتتماشى مع ثقافة الدولة، وكان نتاج ذلك أن نشطت حركة التمرد وتأجج الصراع المحتدم أصلًا، ولكن الحكومة الإسلامية كانت الأكثر وضوحًا في استخدام الدين تحديدًا في حربها التي حولتها إلى جهاد، ثمّ كرّست لثقافة أحادية أخرجت الكثير من مواطنيها من جلباب المواطنة. يحس الكثير من غير المسلمين السودانيين، بأن الدولة لا تفي بما عليها من حقوق لهم كمواطنين. على سبيل المثال، ومنذ انفصال الجنوب، لا تعتبر الدولة يوم عيد الميلاد المجيد عطلة رسمية، وهذا يعني أن طلاب المدارس والجامعات المسيحيين، عليهم الاختيار بين مواصلة دراستهم أو تحمل تبعات تغيبهم عنها، وقد لا يستطيع بعضهم التغيُّب إن صادف تاريخ العيد فترة الامتحانات.
أما اللغة، فإنها تتعدى أهمية كونها معبِّرًا عن الهوية وحاملًا للثقافة، إلى كونها أداة للحصول على الموارد الثقافية والمادية، بحسب اليونسيف، وهي تشكل عاملًا مهمًا في النزاعات. وإسقاطًا على الحالة السودانية؛ فقد لعبت اللغة دورًا كبيرًا في تعزيز شعور الغربة بين مواطنيها، خاصة ممن يملكون لغات تخاطب محلية خاصة بهم، ومن المعروف أن الحرب تركّزت في مناطق ذات تعدد لغوي، مثل جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور. وتظهر دراسات وجود ارتباط وثيق بين قدرة الأطفال والشباب على الوصول إلى مستويات متقدمة من النجاح، واللغة المستخدمة في تعليمهم، يقوم على وجوب تعليم الأطفال اللغة الأم في سن مبكرة، ومن ثم إضافة لغات أخرى في سنوات لاحقة، مما يعني أن إجبار الأطفال الصغار على تعلم لغات غير لغاتهم الأصلية في مراحل دراستهم الابتدائية يؤثر على مقدراتهم الاستيعابية لاحقًا، وتشجع اليونسكو على اعتماد التعليم متعدد اللغات، القائم على اللغة الأم في الدول ذات الإثنيات المتعددة، نسبة للتأثير الجيد الذي يتركه على الأطفال، بل إن إجادة اللغة الأم يزيد من المقدرة على اكتساب لغة ثانية، ويؤدي التعليم أحادي اللغة إلى نشوء جيل فاقد للهوية اللغوية.
يؤدي النزوح إلى فصل المتأثرين عن بيئتهم اللغوية، حيث تحد عمليات الانتقال هذه من مقدرة المتأثرين في الحصول على وظائف مناسبة دون الإلمام الكافي باللغة في المجتمع الجديد، كما تؤثر على مقدرة الأطفال على التحصيل في ظل معاملتهم بالتساوي مع أطفال تعد اللغة العربية لغتهم الأم. عانى الطلاب الجنوبيون، خاصة ممن لم يولدوا في شمال السودان، من الدراسة باللغة العربية، ولربما تتشابه معاناة كل الأطفال السودانيين ممن ينتمون إلى إثنيات لا تعد العربية لغتها الأولى، ولكن عمليات النزوح تفاقم من المعاناة، حيث إنه، وفي الحالة الطبيعية، فإن المعلمين، في أي منطقة من مناطق السودان، ينحدرون، غالبًا، من المجموعات الإثنية التي تقطنها، ومن ثم يتمكنون، إلى درجة ما، من التعامل مع الصعوبات اللغوية التي تواجه الأطفال الذين يدرسون بلغة تختلف عن لغتهم الأم.
تظهر معضلة الارتباط بين الحرب والثقافة ودور التعليم، في صناعة جيل متغرِّب في منطقة جبال النوبة، حيث إن الحركة الشعبية، المسيطرة على بعض المناطق في عمق الجبال، تمنع استخدام المنهج الحكومي الذي تراه أحاديًا ولا يعبر عن التنوع الثقافي في السودان، كما أنها تمنع استخدام اللغة العربية في التدريس، ونسبة لعدم وجود منهج للتدريس في تلك المناطق، فقد تمت الاستعاضة عن المنهج الحكومي بمناهج من شرق ووسط أفريقيا، ومعلمين أوغنديين وكينيين من أجل سد النقص في المعلمين بمناطق الحرب، تلك الأجيال التي تربت على مناهج أجنبية انفصلت تدريجيًا عن الوطن، وهي ليست بأسوأ حالًا ممن تربوا على المنهج الحكومي الذي وإن كان سودانيًا، إلا أنه يفاقم حالة الغربة بأحاديته. القصور في المنهج التعليمي، في كل حال، يساعد في تعزيز حالة الاغتراب بين المتأثرين بالحرب، سواء تلقوا تعليمًا حكوميًا أم أجنبيًا.
تعكس الغربة حالة عجز عن كل شيء، عن الاندماج في المجتمع، وعن التخطيط للمستقبل، وعجز عن الاستقرار، وفي النهاية فهي تنتج كائنات هشة في تفاعلها مع ذواتها والبيئة المحيطة بها، وتمثل الغربة أسوأ ما يمكن أن تتسبب فيه الحرب من تخريب لا رجوعي، فالرصاصة التي تنطلق مرة واحدة تسبب ضررًا أبديًا لا يمكن التعافي منه إلا بالموت، إذ لا علاج لحالة الحرب سوى ألّا تقوم.