ألجبهة الثورية دخلت ديوان السلطة الإنتقالية بعد تضمين إتفاق سلام جوبا بالوثيقة الدستورية، وبذلك يكون هذا التحالف الوطني العريض قد انتقل من خانة المعارضة إلى ميدان الحكم وشئون السلطة، والفرق بين الميدانين كبير من حيث المسؤوليات والتحديات الحاضرة، المعارضون السياسيون يتمتعون بمساحات مريحة في المناورة والمحفاظة على صورتهم بيضاء ناصعة من غير سوء، أما الحاكم ورجل الدولة فترمى على كتفه كل شكاوى المواطنين وتوضع على عاتقه جميع طلبات الأفراد ومطالبات الجماعات، ومن خصائص المواطن السوداني التململ واستعجال النتائج، وأول ما سيواجه به الطاقم الحكومي من اللاعبين الجدد هو أزمات الخبز والمحروقات، وسرعان ما نسمع عن الهمهمات المتبرمة الراجية والمتساءلة عمّا سيقدمه القادمون من باب مسودة جوبا، فالناس لا يستطعمون كلاماً ولايمكن أن تسقيهم حديثاً منمقاً أمام كاميرات التلفزيون، فلو كان حلو الحديث يسمن من جوع ما ذهب الطاغية تحت ذل الشعار الذي هتفت به الجماهير الناشدة للحرية والسلام والعدالة، ومن الصعوبة بمكان أن يتفهم الناس الشروحات الطويلة والعميقة التي أدلى بها وزير المالية والأقتصاد السابق ابراهيم البدوي، المفسرة لتشوهات الاقتصاد الكلي وأثرها في المدى الذي طال واستطال على معاش ناس، والتي أورثتهم الحالة الراهنة المسماة بالإنهيار الكامل للاقتصاد الوطني.
ألمواطن السوداني البسيط في أركان البلاد الأربعة لا يعير أدنى اهتمام للمصطلحات المعقدة والمتداولة بين فطاحلة علماء الأقتصاد وأبطال السياسة ورموز الثقافة، فهو لا يتوقف كثيراً عند مدلولات الراديكالية والعلمانية والليبرالية والماركسية وكل المفردات والجمل الفخيمة الغارقة في مترفات الفكر ورفاه الأيدلوجيا، كل ما يشغل رأس محمد احمد المسكين هو حل أزمات المواصلات والغلاء الطاحن للسلع الاستهلاكية، حينها ينتفي صراع المركز والهامش بتلقائية مدهشة ويزول الجدل البيزنطي الدائر بين علمانية الدولة ودينيتها، فالنجاحات السياسية في عالم اليوم تقودها الحلول الاقتصادية المستدامة، ورجل السياسة المعتمد على فنون الخطابة لا تصمد كارزماه أمام الضوائق المعيشية المشجعة على رفع الشعارات الاحتجاجية، وليس أدل على ذلك من أصوات الجماهير الهادرة الجائعة بأمواجها الكاسحة التي جرفت إمبراطورية الدكتاتور، وما عاد السودانيون يقيمون وزناً لذلك النمط القديم من الحزبيين الذين ينتمون للعهود البائدة، أولئك الذين يتبارون في ميادين الأدب والنصوص ورصانة الكلمة المنطوقة زمان المحجوب وأزهري، إنّهم فقط ينشدون الاستجابات الفورية لرجل الدولة الهميم الزائر لهم في المحن والإحن باسطاً يده بالخير المادي ولا يقدم الاطراء المعنوي.
ألتحديان اللذان يواجهان الجبهة الثورية بعد أن أمست شريكاً في الحكم إثنان، أحدهما مركزي والآخر إقليمي يخص الأقاليم التي انطلقت منها المقاومة المسلحة – دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الزرق، فالتحدي الأول يتمحور حول مشاركة عموم أهل السودان في الخروج بالوطن الأم من أزمتي الخبز والدواء، والثاني يستهدف تحقيق العدالة وتقسيم النسب المئوية للاستحقاق الدستوري الذي جاءت به إتفاقية سلام جوبا، فإذا أخذنا في الأعتبار مستحقات مسار دارفور من الكوتة تجتر ذاكرة أهل الإقليم ما حدث لمخرجات إتفاقيتي أبوجا والدوحة السابقتين، ويستدرك الناس الكيفية التي أدار بها قادة الحركات المسلحة الموقعة على تلكما الوثيقتين دولاب الحكم الإقليمي، حينما طغت المناطقية والقبلية وسط أبطال إتفاقيتي السلام، فعندما دخل عرّابو أبوجا دهاليز المؤسسة الحاكمة تشرذموا قبلياً ومناطقياً ولاذ عدد غفير من صفوة الإقليم بالصمت والحياد السلبي، نفس التحدي مازال ماثلاً للعيان الآن والمراقب ينصب كاميرته ليرصد تحرك ونشاط رموز الحراك السلمي والمدني لقطار السلام، وهو تحدي ملء الشواغر التي أتى بها الأستحقاق الدستوري للأتفاق وبالأخص حقيبة حاكم الأقليم الموحد.
ألمرحلة الإنتقالية أيامها قليلة جداً حتى فيما بعد التمديد المستند على الإلزام الدستوري للأتفاق، ولا يمكن لعاقل أن يتوقع معالجة جذرية لجميع قضايا الوطن الموروثة من النظم البائدة وأولها الإقتصاد المنهار، لكنها تعتبر (فلترة) ومصفاة لتنقية الشوائب من بعض رموز السياسة المتبطلين والعاطلين عن الموهبة والعاجزين عن الأبتكار، وستكون اختبار وامتحان لكشف الزيف على خشبة مسرح الانتقال، و مقياس لتحديد ما ينفع الناس وما يمكث في أرض السودان، وكنس وفرز الأكوام المكومة من الزبد الذي سيذهب جفاء إلى مزبلة التاريخ، وهذه الأشهر الفاصلة بمثابة الحياة الدنيا التي هي مقر للعمل وأرض لزارعة الطيبات من الأعمال، فمن أحسن الغرس حصد المحصول، ومن أضاع الوقت وبدد الجهد في سفاسف الأمور التي تمور بها القلوب، لن يجد مكاناً آمناً في قلوب الملايين بعد انقضاء أجل الانتقال، وقتها ستنصب الخيام وتدق بداخلها أوتاد صناديق الأقتراع المحروسة وغير المخجوجة، تلك الخزائن المحكمة الإغلاق والمحددة للحاكمين الجدد القادمين عبر أقوى تفويض شعبي ورسمي وشرعي يمكن أن تشهده البلاد، على الجبهة الثورية أن تعود لميثاق الفجر الجديد إن أرادت لمستقبلها ألقاً، وعليها أن تنصهر بجميع مكوناتها داخل وعاء واحد لحزب قومي ووطني جامع، يقف بصلابة وجماهيرية أمام ما تبقى من بقايا الأحزاب القديمة.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
20 نوفمبر 2020