بقلم عثمان نواى
على مدى ٦٠ عاما منذ استقلال السودان كان الدين محور رئيسي فى السياسة السودانية. ليس فقط عبر الشعارات والخطاب السياسي المحمل بالدين كموجه رئيسي، ولكن أيضا عبر القوى الحاكمة المتمركزة اساسا على أسس دينية فى قاعدة الدعم الجماهيرى، الأمر الذي يعطيها قوتها السياسية الحاشدة. وعلى مستوى الخطاب والفكر الايدلوجى للتجييش والتعبئة العامة ،فإن الدين كان هو الأداة الارخص والاسهل والأكثر إجماعا لصناعة التفاف سياسي بين السودانيين المسلمين بشكل خاص.
فبعد ان تمكن الإسلاميين من الوصول الى السلطة فى السودان وضح تماما ان الجدل حول الفكرة لا مكان له بعد ان فشلت التجربة والتطبيق. الإسلام نفسه كدين لا يحتاج الى حماية من الدولة لانه يمثل هوية فردية لكل مسلم، يمارس هويته أينما كان، بغض النظر عن النظام السياسي الحاكم. فالمسلمين الذين يعيشون كاقليات فى دول أخرى لم يتخلوا عن دينهم بل هم متمسكين به اكثر. فى حين ان فشل مشاريع تديين السياسة من أفغانستان إلى السعوديه إلى إيران الى السودان، لا تؤكد سوى على فشل التجربة والفكرة معا. حيث تضرر الدين من الارتباط بالسياسة، وفشلت الدول لأنها تحولت من إدارة مصالح الشعوب الى مراقبة ضمائرهم. فى عمل يتخطى قدرات الدولة كمؤسسة دنيوية محدودة الامكانيات، وبالتالى فشلت فى أداء مهمتها الرئيسية فى إدارة شئون الناس ومسايسة العالم للوصول الى تفاهمات وتحقيق مصالح الشعب المعين فى عالم متنافس ومتشابك المصالح.
ولذلك عندما يتساءل الناس عن أسباب فشل حكم الكيزان ،لا يجدون ابدا الإجابة فى الدين، ليس لأنهم تخلوا عنه او لأنهم التزموا به. لكن لان الإجابة هى فى انهم مارسوا السياسة عبر وسائل انتهازية بحتة ومن خلال مطامع شخصية وحب للسلطة مفرط ناتج ليس من ارتباطهم بالدين، ولكن من تجاربهم الاجتماعية والنفسية الشخصية المشوهة. فالكيزان اساسا هم ردة فعل على الهيمنة من القيادات القبلية والطائفية على الموارد الاقتصادية والسلطة فى السودان من الحلة او الفريق الى القصر عبر تاريخ السودان من دولة سنار الى الاستعمار . فالكيزان هم المسحوقين من أبناء الحوار والفلاحين الفقراء والرعاة الذين تعرضوا للاضطهاد والفقر داخل المجتمعات التى خرجوا منها نسبة لوضعيتهم فى التراتبية الاجتماعية. فلجاوا للدين كوسيلة تماسك نفسي لهم اولا. فهم ليسوا أبناء شيوخ الحلة او تجار المناطق التى خرجوا منها ولا هم ابناء الاسر الصوفية او الطائفية التى تحظى بالسلطة والثروة في داخل المجتمعات التى خرجوا منها. ولذلك فإن مطامع الكيزان هى كانت تصبو منذ البداية نحو السلطة والثروة وليس نحو تمكين الدين والذى ماكان سوى المطية التى بررت لهؤلاء المحرومين المعقدين نفسيا فى الغالب ارتكاب الجرائم كلها باسم الدين لتحقيق رغائبهم المكتومة والانتقام من الاضطهاد الاجتماعى الذى تعرضوا له.
فالصراع على السلطة والثروة هو فى الحقيقة فى قلب الحركة الإسلامية السودانية فى مكونها الاجتماعى. فمن أين اتى هؤلاء كسؤال، له أهمية خاصة حتى لمعرفة من هم هؤلاء الملثمين الآن الذين يضربون بكل غبينة المتظاهرين ومن هم الذين يقتلون بالتعذيب والاغتصاب ، ومن هم الذين ارتكبوا فظائع الإبادة الجماعية وماهي دوافعهم؟ ان الايدلوجيا وحدها ولا الدين وحده كالية شحن لا يكفى لكل هذا القدر من العنف والقتل. لكن الخلل الكبير الناتج من القهر الاجتماعى والفقر له دور جوهرى و كبير. والكيزان الذين نتحدث عنهم ليسوا القيادات العليا، رغم ان معظمها يقع تحت هذه الدائرة، ولكن القيادات الوسيطة والدنيا بشكل اكبر. خاصة وان المؤتمر الوطني حاليا لا يمثل الإسلاميين المثقفين والمفكرين بقدر ما انه يمثل أصحاب المصلحة الذين وجدوا من خلال الحركة الإسلامية وسيلة للترقى الاجتماعى والاقتصادى لم تكن لتتوفر لهم لولا هذه المطية المسماة الدين. واكبر مثال على ذلك البشير وأسرته الحاكمة. التى لها أشباه كثيرون داخل منظومة الحركة الإسلامية والنظام الحاكم الان. تلك الاسر والمجموعات التى خرجت من قاع التراتُبيات الاجتماعية وصعدت فجأة على ظهر الإنقاذ وثياب الدين ومسمى الكيزان. فتحولت اسر كاملة من الفئات المسحوقة الى أصحاب اموال وسلطة ما كان لهم إليها سبيل لولا الكيزان ونظامهم. وهؤلاء هم الاكثر تمسكا الان ببقاء النظام لأنهم الأكثر خسارة بسقوطه.
وهذا يقودنا مباشرة الى حقيقة ان فكرة أسلمة او تديين السياسة او الدولة، إنما تحول الدين الى حالة دنيوية صراعية وليس الى آلية روحية للخلاص الابدى والسكينة الروحية. ويخرج عن حقيقة فردانية الدين كعلاقة بين العبد وربه وتحويله الى احدى أساليب إدارة النزاعات البشرية حول السلطة والثروة. ولذلك يتم فقد الدين تماما فى هذه العملية. ان الدرس المهم للغاية من تجربة الإسلاميين فى السودان يجب ان يكون هو فساد فكرتهم بالكامل، وان فشل التجربة كانت انعكاس لفشل الفكرة نفسها. ان الخلاص الفردى عبر الدين كتجربة روحانية يحتاج الى قوة روحية ومصداقية عالية مع النفس، لكن الدوافع التى قادت الكيزان فى تجربتهم الذاتية قبل تجربة الحكم ليست دوافع روحية بقدر ما انها دوافع نفسية ناتجة من صراع محموم على السلطة ورغبة فى الخلاص من الدونية الاجتماعية التى يشعر بها معظم الكيزان. هذا هو التحليل الاكثر واقعية فى اطار الحالة السودانية. ولذلك الفشل فى الحكم مرتبط بهذا القدر من التيه الذى يعيشه الكوز فى داخله بين رغبته فى المال والسلطة والترقى الاجتماعى واحداث قطيعة مع الماضي وبين الخطاب الدينى الذى يمارسه سياسيا فى العلن، مما أدى الى فساد غير مسبوق فى السلطة وأدى الي فشلها. حيث ان النهب المنظم لموارد الدولة لصالح جيوب الإفراد كان هو السبب الرئيسي في انهيار الاقتصاد. حيث لم يتحكم هؤلاء المهلوعين فى رغبتهم فى امتلاك كل ما يقع تحت ايديهم مم مال دون اى مراعاة لمسؤوليتهم تجاه إدارة الدولة والمواطنين. ولذلك نهبوا وافشلوا الاقتصاد برغيتهم الشخصية فى تحقيق الأمان الذاتى عبر نهب اموال الدولة لسد عقدهم النفسية وخوف من العودة الى حالة الدونية الاجتماعية والفقر الذي عاشه معظمهم من قبل. ومن هنا يتضح تماما ان الدين او الإيمان الذى يعطى الطمأنينه بان الرزق فى السماء هو ابعد من قلب وعقول هؤلاء المريضة بشكل فظيع.
ومن الواضح جدا ان الثورة التى اشتعلت الان من معاقل انبات الكيزان الاجتماعية من ولاية نهر النيل والشمالية، تؤكد ان الكوز يعمل على نجاته الشخصية وأسرته المقربين، ولكنه لا يسهم ابدا فى تنمية وتحسين حياة اهل منطقته والدليل هو الفقر الذى تعيشه مناطقهم. حيث ان الكوز يرحل الى الخرطوم تاركا خلفه كل الذكريات التى تعيده الى حقيقته وتاريخه الذى يريد الهرب منه الى الامام. الثورة الأخرى على الكيزان التى توضح فشل الفكرة والتجربة اتتهم من داخل بيوتهم ومن أبنائهم الذين لم يكتفوا بالخروج ضد آبائهم وحكومتهم بل بعضهم خرج من الدين نفسه وباعتراف الكيزان أنفسهم بان هناك ازدياد فى الإلحاد غير مسبوق بين أبناء الكيزان أنفسهم . ولذلك فى النهاية فإن فشل الدولة المركزية السودانية هو ما انتج الكيزان وحالة التفاوت فى توزيع الثروة والسلطة والهيمنة من قبل مجموعات قليلة وانعدام العدالة الاجتماعية والتمييز حتى داخل المركز نفسه هو سبب رئيسي فى انتاج الكيزان واستسهال استخدام الدين وسيلة حشد سياسي بدلا عن تقديم مشروع إدارة دولة تدير مصالح المواطنين. ولذلك فإن ضمان عدم انتاج الكيزان يتطلب بناء الدولة على اسس العدالة والمساواة والتنوع. والا فإن كيزان جدد سوف يتم إنتاجهم باستمرار.
[email protected]