العام الثاني لاندلاع ثورة الشعب السوداني يتحفنا بمقدمه الميمون، ونحن نعيش لحظات ترقب وأمل كبيرين لأن يفصح رئيس لجنة التحقيق في جريمة فض اعتصام القيادة العامة المحامي نبيل أديب، عن كشف اسماء جميع مخططي ومدبري ومنفذي هذه المجزرة الشنعاء، نعم جميعهم، لا نستثني منهم أحد مهما علا شأنه أو ارتفع مستوى حسبه ونسبه ومنصبه، فالجريمة المشهودة بكاميرات عوالم السوشيال ميديا والمستترة خلف قناع كتائب الليالي الظلماء، للعدالة فيها طريق ذو اتجاه واحد لا رجعة فيه ولها كفتا ميزان لا ترجّح احداهما الأخرى، ولأولياء الدم ومناصريهم من ثوار هبّة ديسمبر العظيمة عزم أكيد واصرار عنيد لا يلين، فلا الاجندة السياسية ولا تواطوء المتواطئين من اولئك الذين علقت العهود والمواثيق على رقابهم وخانوها، سوف تقف حاجزاً أمام القصاص المستحق من قتلة المعتصمين، فكل ذكرى لهذه المذبحة والمذابح الأخرى لن تاتي لتمر سهلة غير متوقف عندها، فكما سطرت شعوب البلاد من قبل الملاحم الوطنية وصارت معالم في طريق الحرية والانعتاق، ايضاً ستكون هذه المناسبة الحزينة والموجعة لأمهات الشهداء يوماً مخلّداً في الذاكرة الجمعية.
المنظمة الناطقة باسم اسر الشهداء عليها الأبتعاد عن التمحور حول قضية فض الاعتصام لوحدها، وأن تتمدد لتغطي كل جغرافيا البلاد الشاسعة والواسعة، فالشهداء الذين رووا بدمهم الطاهر تراب الوطن في بورتسودان والجنينة وكجبار أرواحهم عزيزة على الوطن، وأمهات وآباء الضحايا جميعهم يستشعرون ألم فقدانهم لفلذاتاكبادهم، وفي هذه الذكرى الثانية لحدوث الجرم المرتكب بحق الأبرياء الأنقياء النائمين تحت خيام الحريّة، ممنين النفس بصباح يوم عيد جديد يختلف عن كل الأعياد المحتفى بها في ظل حكم الطاغية، تغدر بهم آلة البطش المطعمة ببعض بقايا اراذل النظام المباد، بعد أن تطهروا وهيئوا النفس لأداء صلاة عيد ثوري مجيد ارادوه أن يكون بلا مثيل، ما ارتكب من فعل ينافي قيم الدين الحنيف المحرم لدم المسلم على المسلم، فما بالكم بمسلمين ساهموا في إزهاق الباطل واحقاق الحق، ذلك الصباح الذي اعقب ليلة اغتصاب حسناء الثورة السودانية كان صباحاً موشحاً بسحب الدم والهم والغم والحزن والكرب والخيانة وترصد الأنفس البريئة، لا يمكن للذين جلسوا على رقاب الشعب السوداني بعد تلك الكارثةالاجرامية أن يستكينوا ويتحالفوا مع شيطان البائدين ويعملوا على طمس آثار الدم المسفوح امام بوابة القيادة العامة لقوات (الشعب) المسلحة.
كان غريباً أن يكون يوم عيد الثوار هو نفس يوم نحرهم وذبحهم من حدود الأذن اليسرى الى تخوم توأمتها اليمنى، ولكنه ليس بأغرب من مناسبة عيد الفداء الأكبر الذي أرّخ لاعظم حدث في الكون عندما فدى رب الكون النبي اسماعيل، وازاح الحزن الذي صاحب سيدنا ابراهيم العبد المطيع لربه والمنفذ لأوامره المنقذة لعنق ولده، فاحداث التاريخ لا تنفصل ولا تنفك من بعضها البعض، فربما أراد المهندس الأعظم أن يضع حداً لمهزلة الطاغوت المتحكم في مصير هذا الشعب الطيب الكريم المسامح، بذلك الفداء الأكبر الذي قدم فيه الشباب البواسل أروع الأمثلة في عشق التراب، وبلا أدنى شك إنّ ذلك اليوم المدلهم بخطب الخطوب والموثق لأنين الجرحى،والمسجِّل لأصوات سكرات الموت المدوزنة بحشرجات حناجر الشباب المراهق الصغير، سيظل خنجراً مسموماً في صدر كل من خان فخطط ودبر ثم نفّذ وصرّح، فهذه المناسبة الوطنية الثورية الملحمية الخالدة ستكون رمزاً قائماً في النفوس والأمكنة والحوائط المرسوم عليها بريشة الشهيد، ونوصي بأن تبنى على جنبات الطريق المؤدي لباب الجيش منصات اسمنتية رخامية تنحت عليها اسماء وصور شهداء السودان.
التضامن مع قضية الشهداء من اوجب الواجبات الوطنية، على الناس أن يرددوا مع رفاق الشهداء الشعار الذي يقول (إما أن نسترد حقهم وإما أن نموت مثلهم)، الهتاف المرعب الذي يجعل الاكتاف ترتجف لتسقط من سطحها النياشين البلهاء، فالثورة لها أدبها من شعر ونثر ومقال مكتوب وريشة مصلوبة على جدار الرسومات الشهير، على قبائل الاعلاميين والروائيين والتشكيليين والموسيقيين والشعراء والملحنين والمسرحيين، أن تعبيء الذاكرة الوطنية بارث ثورة ديسمبر المجيدة والثرية والغنية بنفيس درر اللوحات البديعة والقصائد السامقة والاهازيج الممتعة، فالأنتصار لمباديء الثورة ليس انتصاراً سياسياً وحسب وليس حصصاً سلطوية تنتهي بوصول الشباب اصحاب السبق الفدائي الى مقاعد برلمان ومجلس وزراء الثورة (الأمر الذي لم يحدث بعد)، وإنّما هو انتصار يصون الموروث المعنوي للملحمة الوطنية الفريدة التي الهمت الرئيس الفرنسي ماكرون ورؤساء آخرين جلسوا على قممحكومات وجمهوريات لها تاريخها العريق في ارساء قيم الديمقراطية.
اسماعيل عبد الله