الغني الذي يظن نفسه فقيراً فقراً مدقعاً هو السودان، الكتب والنشرات التي اصدرها اقتصاديون سودانيون حول معالجة المشكلة الاقتصادية كثيرة، والمؤتمرات والورش التي انعقدت لحل ازمات المال والاعمال لا حصر لها، فقد تحولت هذه الازمات والمشكلات الى انهيارات داوية في كل مناحي القطاعات المرتبطة بانشطة التجارة والمصارف وبيوتات الاستثمار وغرف التخطيط الاقتصادي، ما يدلل على وجود اسباب هيكلية وجوهرية للفشل الاقتصادي الكبير الذي صاحب الحكومات، فوقفت هذه الاسباب حائلاً امام احداث النقلة النوعية المنقذة للبلاد المسماة (سلة غذاء العالم)، كل الاجيال التي ابصرت النور بعد خمسينيات القرن الفائت ادمنت العيش تحت وطأة ظروف عدم الاستقرار الاقتصادي، حتى اصبح غالب الناس فاقد لأي امل في الاصلاح وركن جلهم للاستسلام والبحث عن سلوك تعويضي يجبرون به الضرر النفسي الذي استوطنهم، وذلك باللجوء الى التحليل الميتافيزيقي للأوضاع المعيشية المتردية والمتراكمة منذ عهود، وعلينا ان لا نستغرب، فهذا الاحتماء بالغيبيات يعتبر خلاصة منطقية لكل المجتمعات المتصببة عرقاً، من وقع سياط الحكام الجلادين والمرابين والعملاء المتاجرين باقوات شعوبهم، فلم يتركوا للبؤساء سوى الله يحتمون بسدرة منتهاه.
الحكومات السودانية دون استثناء مثلها مثل السفيه الذي يصرف ماله في غير منفعته ولا من اجل عائلته، ففي هذه الحالة يكون الحل بالحجر على مال هذا السفيه ومنعه من التصرف فيه، بل تتولى السلطات القضائية تدبير اولويات الاستنفاع من ثروة هذا الطائش، وفي حالة الحكومات لابد من وجود حكومة وطنية شريفة تكون بديلاً لسرب الحكومات السفيهة المتعاقبة، لتقوم بواجبها العدلي والقانوني والقضائي الذي يضع المفسدين في السجون ويحاكمهم المحاكمات القاطعة لوريد نمو رأس المال الطفيلي، الذي لا يخضع للمحاسبة ولا يدعم المشاريع الوطنية الحقيقية التي تعود بالفائدة على المواطن بصورة مباشرة، فوصف طفيلي هذا اصدق الاوصاف التي تبيّن للناس ماهية الاقتصاديات الناشئة خارج دولاب المؤسسية، والآكلة من لحم الشعب والشاربة من دمه الحلال، ولا يمكن للاقتصاد الوطني ان يتعافى مالم يقوم بفصل هذا الحبل السري المتمدد والمتجذر منذ سالف العصور، ومصطلح الهبوط الناعم الذي طفح على سطح الحياة السياسية الآن ليس بجديد، فقد سبقته مقولة (عفا الله عما سلف) التي اوصلتنا الى هذا الوضع المتفاقم من الزلازل والاخفاقات المالية والتجارية والمعيشية.
المنتجون في السودان هم الاكثر فقراً وتعرضاً للأمراض والاوبئة، وهم وقود الحروب وضحاياها، اما المترفون فهم الاصحاء الاقوياء العاطلون الذين يلعبون دور الوسيط بين المنتج والمستهلك دون عناء ولا عرق (يخر)، تجدهم مكدسين في اسواق المدن الكبيرة ومتواجدين بين ردهات المكاتب الحكومية المختصة في اصدار الوثائق المسهلة لعمليات بيع وشراء السلع الاستراتيجية، يجلسون على عتبات الدكاكين وامام بائعات الشاي، يتحدثون في كل انواع البضائع والعملات الاجنبية ويقنعونك بجاهزيتهم لتوفير هذه السلع، وقد حدث ذات مرة ان اخبرني صديق صدوق بوجود واحد من امثال هؤلاء، يمتلك شركة للطيران دون مقر مكاني ويقوم بادارتها عبر هاتفه النقال، لقد صدق من وصف هذه الطبقة الغريبة المنبت والمنشأ بالطفيليات، فهي تملك حق رفع سعر العملة وخفضه وهي التي تتدخل في شراء بواخر القمح لمصلحة الحكومات كي تسد بها رمق الجياع، بل تقوم بمساومة مثل هذه الحكومات وحجز بواخر الوقود في عرض البحر، ولا تفك الحجز اذا لم ترضخ وتستجيب (حكومة السجم والرماد) لابتزازها، فالمصيبة يا عزيزي القاريء لا علاقة لها بالانتاج، لأن منتجي المحاصيل الزراعية ورعاة الثروات الحيوانية ومنقبي المعادن النفيسة لا تقوم الحكومات بانشاء بنوك لدعمهم، انهم يعتمدون على المتاح من الممكنات والمعينات البسيطة التي بسببها وبفضل واهب الارزاق تنفتح عليهم بركات السماء والارض.
للخروج من ذلة ومسكنة التحويلات المليارية المتفضل بها علينا والعابرة للقارات، علينا وعليكم، حكومة وشعب، توحيد مستودع اموال السودان – المستردة والمحولة – وذلك بحسم ازدواجية الخزائن، شركات قابضة لها صناديقها من جانب وخزائن للمال فارغة من الجانب الآخر، وشركات متكتم عليها وبعيدة عن ولاية الوزير المختص، ما هكذا تورد الابل المحملة بثروات البلاد الطيب اهلها، لتحقيق العزة والكرامة لهذه الشعوب المنكوبة اودعوا اموالها في خزينتها المركزية الواحدة واجعلوا لها حرّاس من هؤلاء الغبش الميامين، فالمال العام حق عام ولا يحق لأحد من العوام اوالحكّام كائن من كان، أن يتضجر او يستاء من الاصوات المطالبة بالشفافية والمحاسبة والمحاكمة، وتجريد الفاسدين من الاصول العامة التي اكتنزوها باستغلال النفوذ والسلطة المغتصبة اصلاً، وعلينا وعليكم تطبيق القاعدة الاخلاقية لحديث سيّدنا النبي (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فبناء على هذا الواجب الاخلاقي والوطني والديني يتحتم علينا وعليكم بتر ايدي القطط السمان ان لم تكن رقابها، هذه الكائنات الغريبة التي تطفلت على مال الشعب، وان حققنا استكمال الدورة الاقتصادية الايجابية، وقنّنا اجراءات دخول ايرادات صادر الذهب والماشية والصمغ العربي الى بيت مال السودانيين، لا صف من صفوف الذل والهوان سيمكث طويلا.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
11 فبراير 2021