لا شك ان القبيلة تمثل وحدة ادارية مساهمة في تذليل الصعاب و العقبات في كثير من البلدان الافريقية و الشرق اوسطية , فالقبيلة مؤسسة اجتماعية تؤدي دورها كعامل مساعد للدولة , في تصريف شئونها الخدمية و الادارية التي تستهدف المواطن في الارياف و الاقاليم , و ما أدل على اهميتها من حرص المستعمر وابقائه عليها , بل و دعمها مما خفف عنه عبء الانفاق المالي على الموظفين والاداريين , الذين كان يجب عليه انتدابهم وتوظيفهم للقيام بمثل هذه المسؤوليات المؤسساتية , فلولا وجود هذا الارث الاداري الاهلي في السودان لكانت الاعباء الادارية على سلطة الاحتلال اكثر بكثير مما جرى , فهذا النظام الاهلي يعتبر نموذج من نماذج طرائق الحكم الفاعلة في المجتمعات الافريقية و العربية منذ قديم الزمان , وفي سوداننا الحبيب نجد مثل هذه الادارات الاهلية قد عكست هذا الدور بكل جدارة , في الفترة التي سبقت قرار الرئيس نميري بحلها , واعتماده على النظام الاداري و التنفيذي المأخوذ من علم الادارة , ومن اكثر اقاليم السودان تضرراً من ذلك القرار هو اقليم دارفور , لأن النظام الاداري الاهلي فيه كان متطوراً جداً , فكانت عملية الاستغناء عن ذلك النظام التقليدي بمثابة قاصمة الظهر , التي انفرط بعدها عقد الامن و الاستقرار في الاقليم , فتلك كانت واحدة من سلبيات نظام حكم جعفر نميري الذي عرف بالتخبط وارتجال القرارات المصيرية , وما زال اقليم دارفور يدفع ثمن ذلك الخطأ الاداري المميت , فالناظر الى الرجل الانجليزي الذي دخل البلاد غازياً , يراه اكثر واقعية و عقلانية من الحكام الوطنيين من ابناء السودان , في تطبيقه لمنهج الادارة و شئون الحكم , ذلك لانه اعتمد على استخدام النظام الاداري التقليدي , الذي وجده قائماً على هياكله وقواعده الراسخة , فكان ايجابياً في تعامله مع ذلك النظام الاهلي , فلم يقم بهدمه و لم يدّعي النباهة و حسن البصيرة , في شأن وخصيصة مجتمعية اثبتت جدواها وصلاحيتها , فالبريطانيون يحترمون التجارب الانسانية و لا يرمون بها في سلة المهملات , لقد كانت ادارتهم لمستعمراتهم غير متجاوزة لاعراف وتقاليد تلك المجتمعات , بعكس الفرنسيين الذين استمرأوا استهداف تقاليد واعراف وثقافات الشعوب التي احتلوا بلدانها , ومن امثلة هذا التخريب المجتمعي الذي مارسه الفرنسيون بحق الشعوب التي غزوها , هو ما تلاحظه من سلوك ظاهر في الحياة اليومية لمجتمعات تلك الدول الفرانكفونية.
لا اكون مبالغاً لو قلت ان الانقاذ هي أكثر نظام حكم اساء الى رمزية القبيلة في السودان , واستغلها ابشع استغلال في تنفيذ اجندته للبقاء و الاستمرار في الحكم , فعندما يقوم النظام بمطالبة القبائل للاحتشاد في بهو قاعة الصداقة , ويكون افراد هذه القبائل ورموزها رافعين لشعارات , تعبر بصراحة صارخة عن مبايعتهم لرأس النظام , تكون تلك هي النقطة الفاصلة و المعلنة لبداية مرحلة من السلوك الغريب والشاذ على نظام الدولة السودانية الحديثة , الا وهو تسييس القبائل , و استقطابها لان تكون اما مع او ضد التوجه السياسي للنظام , ما يمثل بحق وحقيقة جرم فتك وما يزال يفتك بتماسك فسيفساء النسيج الاجتماعي , فالولاءات السياسية يجب ان تعبر عنها المواقف الفردانية للاشخاص , لا ان يزج بالكيانات الاجتماعية مثل القبائل و الطرق الصوفية و الروابط الاجتماعية و الرياضية والثقافية فيها , فعندما تسيس القبيلة فانه من الطبيعي ان يحدث الفصام و الانقسام و الاصطفاف القبلي , مثلما شهده اقليم دارفور من تصنيف سياسي للقبائل , فلأول مرة في تاريخ السودان السياسي توضع قبيلة بعينها في قفص الاتهام , وتوصف بانها تعمل و تخطط لتغيير و قلب نظام الحكم , الامر الذي لا يقبله العقل ولا المنطق , و بذلك تكون الدولة ونظام حكمها قد دخلت كطرف شريك في هذا الصراع المجتمعي , فبدلاً من ان تكون فازعة لنجدة شعبها تجدها تتحول الى آلة موجعة لتعميق جراحات مواطنيها , فيصبح خطابها السياسي عدائي واقصائي من الدرجة الاولى , فتستشعر قطاعات واسعة من سكانها سياسة الكيل بمكيالين هذه ليحدث بعد ذلك الامتعاض و التذمر , فتثور و تتمرد هذه القطاعات المجتمعية على ولي الامر , الذي مارس التمييز بين ابنائه و فاضل فيما بين بعضهم بعضا.
لقد تابعنا ارهاصات التغيير الذي تم هذا الشهر لكابينة قيادة مؤسسة الحزب والنظام الانقاذي , فشممنا رائحة الاستقطاب القبلي و الجهوي الذي حدد ملامح هذا التغيير , ما يؤكد استمرار المنظومة الانقاذية في عملية الاستثمار في القبيلة والتمادي في تقطيع اوصال اللحمة السودانية , وهذه المرة نقلت الانقاذ هذا الداء بعد ان استشرى في قبائل الاطراف البعيدة , الى القبائل المركزية في وسط البلاد , فالي وقت قريب ظلت القبائل المركزية تحاول محاصرة النزعات القبلية والعرقية في اطار الدراما والنكتة المحكية , لكن يبدو ان المنظومة الانقاذية لا تريد لاي جهة في السودان الا وان تكون والغة في هذا الاناء الآسن بمياه القبائلية و العشائرية , فادخلت عنصر الانتماء القبلي ضمن الشروط الواجب توفرها لاستحقاق المنصب الدستوري , فمن يريد الاستوزار ما عليه الا ان يحشد قبيله وعشيره ويتقدم به كرصيد للتكسب السياسي , فالانقاذ عادت بنا الى عصر سوق عكاظ الجاهلي , حيث كان التباهي بالقبيلة هو الحافز الاوحد للترقي في السلم الاجتماعي و السياسي , فاصبحت الانساب و الاحساب هي العوامل الحاسمة في تقييم العطاء السياسي لمنسوبي الانقاذ , والا لما تم تهميش ابنائها النجباء من امثال الدكتورين غازي صلاح الدين و علي الحاج محمد , فلو عقدت مقارنة بين الجالسين اليوم على المقاعد الدستورية التي تعتبر مفصلية في سلطة الانقاذ وبين هذين الرجلين , لوجدتهما يفوقان الكثيرين من هؤلاء الانقاذيين , من حيث الاقدمية التنظيمية في الحزب , وكذلك في جانب الخبرة و الحنكة السياسية و المقدرات الفكرية , فقد مورست بحقهما عملية تجريدية متعمدة حرمتهما الترقي السياسي و الدستوري , ذلك لمجرد خلفيتهما القبلية والعرقية و الجهوية , فلم يشفع لهما تنظيمهما الذي قضيا فيه ربيع وخريف عمريهما السياسي , فاصطدمت طموحاتهما السياسية والتنظيمية بهذه الصخرة الصلدة التي تسمى القبيلة و العشيرة.
ان من ضرورات التغيير بعد زوال الدويلة الانقاذية , ان تعمل القوى السياسية على تفكيك هذا الارث العشائري الذي تغلغل في مؤسسات الدولة السودانية , بل واصبح عرفاً وتقليداً اجتاح عقول وادمغة الكثيرين من ابناء وبنات جيل اليوم , فالبناء الحقيقي للدولة الحديثة يتطلب النأي بالنفس عن استصحاب المفاهيم العشائرية في عملية البناء و الترميم هذه , ووجوب عودة دور القبيلة الى سابق عهده , و حصره في السياق الاداري , لتصبح القبيلة عبارة عن وحدة ادارية متممة للهيكل الكلي لهرم الدولة ومؤسساتها , منوط بها تسهيل وتفعيل الخدمات الصحية و التعليمية وغيرها , و المساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة بقطاعاتها المختلفة , من ثروات حيوانية وزراعية و صناعية.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com