إنّ الغلو في الدين و معه الهوس الديني المصحوب بالتشدد والتعصب المذهبي , هو واحدة من الأسباب المباشرة التي أدت إلى إنتشار ظاهرة الالحاد بين الشباب , وظهور اللادينيين في البلدان العربية و الإسلامية , فهذا الإنقلاب الفكري والعقائدي جاء كردة فعل طبيعية لما قدمته هذه الجماعة الإخوانية و مناصروها , من مشروع ديني وسياسي فاشل شوّه صورة دين الإسلام , دين المحبة و الاخاء و التسامح , صائن حقوق المرأة و الطفل والشيخ , فأساؤوا بمشروعهم ذلك إلى جميع المسلمين , الأحياء منهم و الميتين , منذ بعثة نبي الرحمة محمد بن عبد الله (ص) وإلى يومنا هذا , فلقد فتحت جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في السودان , جميع ابواب البلاد وعلى مصاريعها , للعديد من هذه المجموعات المتطرفة والمتعصبة دينياً , فحزم كل طريد امتعته و يمم وجهه صوب بلاد الإسلام في السودان , وولج أرض السمر من اوسع و افسح مداخلها , فقدمت له جميع التسهيلات الإدراية وكل الخدمات الإعلامية , و أخذ على مدى عمر النظام الإخواني يبث افكاره المسمومة في اوساط الشباب و الطلاب , فجند العديد منهم إلى صفوف جماعته لما وجده من خواء في الساحتين الفكرية و الثقافية , و فراغهما من الأصوات الأخرى المعبرة عن منهج التدين الأصيل والحقيقي لأهل البلاد , ألا وهو التصوف , حدث هذا نتيجة لأحادية التوجه الثقافي والسياسي للدولة , فحظي هؤلاء المتشددون بكل ما من شأنه إعانتهم على غسل أدمغة اليافعين من ابنائنا , ومن منكم لا يذكر بدايات هذا العهد المظلم ؟ , عندما تم إستقدام اصحاب العمائم السوداء من شرقي جزيرة العرب , ففتحت لهم المراكز الثقافية في طول البلاد وعرضها , وتمدد معهم في ذات التوقيت أصحاب الجلابيب القصيرة و الشوارب الحليقة , الذين كانوا قلة في ذلك الزمان , اما اليوم فحدث ولا حرج , فقد تكاثر عددهم وغزوا عقول الكثيرين من المراهقين الباحثين عن جديد التجربة , والحالمين بخوض المغامرة أياً كان شكلها , فبحكم تركيبة هذا المجتمع المتنوعة و المتعددة في مشاربها الفكرية والثقافية منذ ما قبل الاستقلال , قد نشطت شريحة أخرى من الشباب في تبني نهج مطلق للتحرر الإجتماعي و العقائدي , وتمردوا على العادات و التقاليد والأعراف , في عملية نقيضة ومعاكسة تماماً لما قامت به جماعات الهوس الديني , والعجيب في الأمر ان هذه الشريحة الشبابية المتحررة , تنتمي لذات الجيل الذي انخرط مع مدرسة المتشددين , و اتبع منهاجية التطرف والأصولية الدينية , في دلالة واضحة على تنوع بنية إرث و وعي المجتمع السوداني , الأمر الذي يؤكد إستحالة غلبة المذاهب الدينية المتشددة الوافدة , أو ترجيح كفة المناهج الدعوية الغريبة والدخيلة على حياة مثل هذا المجتمع , مهما طال الزمان.
الناظر للحروب المذهبية الطاحنة والدائرة حول الإقليم , في الشرق الأوسط الذي يجاورنا , يلحظ أن مبعث هذه الصراعات هو التنافس التنافس الإقتصادي فيما بين هذه الدول , حول الموارد الطبيعية والنفوذ السلطوي , و دائماً ما تجد أن ضحايا هذه الحروب هم مواطنون أصيلون في بلدانهم , وعلى حين غرّةٍ , عصفت بمصيرهم وبمستقبل اطفالهم رياح هذه الحروب العبثية اللعينة والحمقاء , ففي جميع هذه البلدان المحترقة حرباً يكون المعتدي فيها هو صاحب المشروع المذهبي الدخيل وليس العكس , وترى ان المذهب الديني الغالب لسكان هذه الديار هو المستهدف من قبل هؤلاء المعتدين الآثمين , فيقع مواطنو هذه الدول أسرى وقتلى وجرحى ومشردون , ويكونون ثمناً لتحقيق مشاريع سياسية وأطماع إقتصادية ليس لهم فيها ناقة ولا بعير , وسرعان ما يتضح من بعد خراب ودمار المدن و تحويلها إلى منازل مهجورة وبيوت للأشباح , أن العملية في مجملها ما هي إلا صراعات يقودها أفراد يحسبون في اصابع اليد الواحدة , من أجل إشباع رغائبهم وشهواتهم الدنيوية الزائلة , وأن الأمر لا تربطه أية علاقة أو صلة بمصير الناس بعد الممات , وليس له جامع يجمعه مع نعيم الآخرة المقيم , لأن الذين يزجون بالأبرياء في أتون مثل هذه الحروب ويغررون بهم , لا يتوقفون عن اللهاث وراء بهرج الدنيا المزخرف الجميل , ولا يرتوون من الاستزادة من سلسبيل هذا النعيم الدنيوي اللذيذ , فكما يقول احد الفلاسفة , إنّ قيم ومعاني الوطنية متروكة للبؤساء والمساكين والفقراء , لكي يعتنقونها ويموتوا من أجلها , أما الوطن وما حوى من ثروات فهو للساسة و الحكام و الامراء.
إنّ غالب أهل السودان هم من المتصوفة , هؤلاء الأنقياء المنغمسة روحهم في قيم التسامح , و الذين يمتاز سلوكهم بالأدب والمحبة و الصدق في روابط الأخوة وصون وشائج الإخاء , فمنذ قرون مضت , رسخت معاني هذه القيم النبيلة سلوكاً في تعاملات الانسان السوداني في شرقه وشماله و غربه وجنوبه , فكانت بمثابة القوة الدافعة لبروز أقوى الثورات الشعبية والوطنية التي ثارت في وجه الطغيان والغزو الأجنبي , ولو لا متانة تجذر روح التصوف في وجدان هذه المجتمعات , لما وجد الإمام محمد احمد المهدي المناصرة منها , فهذه المشاعر الروحية الشفيفة لا يخبو لهيبها , لمجرد قيام الدولة الإخوانية بعمليات إستيراد الافكار المعلبة و الجاهزة من خارج الحدود , ذلك لأن العظم الفقري للتدين في مجتمعاتنا السودانية مصقول بالحب و التسامح , ولا يمكنه التعايش مع الكراهية و البغضاء و التشنج والهيستريا , فالسودانيون المتصوفون يقتدون بالمنهج الصحيح للمصطفى عليه افضل الصلوات واتم التسليم , سلوكاً و تطبيقاً عملياً لكثير من صفات وطرائق خير البرية في التعامل مع الناس , وقبوله للآخر مهما كان اختلافه مع هذا الآخر , بل حتى ولو كان هذا الإختلاف من شاكلة تلك الإختلافات التي يمكن ان ان تصل حد الكُفر البواح لهذا الآخر , فمشائخنا في طرق صوفية كثيرة مثل السمانية و البرهانية والادريسية و القادرية والتجانية و الدسوقية و الشاذلية , يستقبلون مخالفيهم في الرأي بمدأ الحديث الشريف (تبسمك في وجه أخيك صدقة) , ويباشرون الناس في مجالسهم بمنهاج أبي القاسم الرحمة المهداة , في قوله :(لا تحقرن من المعروف شيئاً , ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) , فلم يكن تجهم الوجه وعبوثه يوماً صفة من صفاتهم , كما هو ماثل أمامنا اليوم من تجهم وعبوث وجوه هؤلاء المتطرفين المتطاير من أعينهم الشرر , المزعجين والصائحين والصارخين و الصاخبين بأصواتهم العالية , في الأسواق ينفرون ولا يبشرون , و في الأحياء يرهّبون ولا يرغّبون , في مخالفة صريحة للمحجة البيضاء التي تركنا عليها النبي الكريم , فحبيبنا المصطفى ليس ببذيء اللسان , وحاشاه أن يكون طعاناً أو لعاناً , ولا يشبه هؤلاء المتشددين في بؤس خطابهم الديني والدعوي الناشز الذي يستحقر النساء و يصفهن بــــ (الشمطاوات) , بل نجد رسولنا الرحيم يصفهن بأنهن شقائق للرجال , وكذلك لا صلة تجمعه (ص) بذلك الكوميديان و السينمائي البارع , الذي ضل طريقه إلى منابر المساجد , والذي يكثر من تكرار لفظة (تف) في أحاديثه الساخرة و المستهزئة , هذه اللفظة (تف) التي لا ورود لها في قاموس وأدبيات خطباء المساجد ونبهاء الدعوة , بل تجد أن أكثر الذين يرددونها هم الممثلون و الممثلات , في الافلام السينمائية و المسلسلات الاجنبية بهوليوود مركز صناعة الأفلام الأمريكية.
لقد سارت الدول ذات السيادة مسافةً طويلة في سباقها وحربها ضد التطرف بكل اشكاله , سواءٌ كان دينياً أو شعوبياً , في حملات توعوية و إجراءات دستورية وقانونية وإدارية حادّة من توسع نشاط هذه الجماعات , و المدهش في الأمر ان البلدان التي نشأ و تطور وأستوطن فيها هذا الفكر المتشدد , هي من بادر وقاد الحملات المستهدفة والمكافحة لهذا الشر المستطير , وأما نحن في بلادنا … يا لسذاجتنا !! , فلقد فتحنا أذرعنا و احتضنا هذه الأفاعي , فكان جزاؤنا أن نكتوي بلدغاتها الفاتكة , ثم ومن بعد ذلك نتجرع سمها الزعاف.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com