شكل من أشكال العنصرية يتميز بطبيعته المؤسسية والرسمية، إذ يُضمّن في القوانين والنظم المعمول بها وتجعله الدولة أساسا للسياسات العمومية في مختلف مناحي الحياة علنا وبلا مداراة، حتى إنها لا تتحرج من الحديث عن شعبين مختلفين ومساريْ تنمية متباينين. طبق في جنوب أفريقيا لعقود قبل نهايته عام 1991.
فقد ساد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بين 1948 و1991، وحكمت من خلاله الأقلية البيضاء الأغلبية السوداء وفق منهج إقصائي يُحافظ على المصالح والبنيات التجارية والاقتصادية التي أقامها البيض في ثلاثة قرون من الاستعمار.
الأصل اللغوي
تعني كلمة أبارتايد (Apartheid) في لغة الأفريكانو (وَضَعه جانبا، أو نبذهُ) مع ما يحمله ذلك من معاني النبذ والتهميش والإلغاء وحتى الاحتقار. وساد هذا المفهوم أدبيات الحياة السياسية في جنوب أفريقيا في أواسط عقد أربعينيات القرن العشرين.
وتصدر الحزب الوطني المتطرف التبشير والدعاية لأنموذج الحكم هذا، تدفعه إلى ذلك مرجعيته الأيديولوجية القائمة على الدفاع عن الوجود الأبيض في جنوب أفريقيا، وحماية مصالح البيض ومكاسبهم الاقتصادية الكبيرة التي بنوها على مدى ثلاثة قرون من الاستعمار، وعلى حساب الأغلبية السوداء.
النشأة
أُقر نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا منذ 1948 ولم ينته إلا عام 1991، وحكمت من خلاله الأقلية البيضاء -المنحدرة من أصول أوروبية والتي تمثل ما بين 15 و20% فقط من السكان- الأغلبية السوداء ذات الأصول الأفريقية والهندية.
مهد لظهور نظام الفصل العنصري فوز الحزب الوطني المتطرف في تشريعيات 1948، حيث بدأ هذا الحزب تنفيذ مشروعه السياسي بقانون سُمي “سجل السكان” أُقر في 1950، وقسّم سكان البلاد رسميا إلى مجموعات عرقية حدد أماكن وجودها في أماكن معينة من البلاد. ومهد هذا القانون لتفرقة شاملة أنتجت مجتمعين يتباينان في كل شيء ويسلكان مساريْ تنمية مختلفين تماما.
التفرقة في الخدمات
طالت سياسات الفصل العنصري كذلك مجال التعليم، فخصصت مدارس للسود تتركز في الضواحي وتتسم بالاكتظاظ وضعف الإمكانات المادية ونقص الأطر التربوية، وفي المقابل كان البيض يتمتعون بمدارس أفضل تتركز في الأحياء الراقية بالحواضر الكبرى للبلاد.
وفي السنوات اللاحقة، سنت قوانين جسّدت التمييز بين المجموعات السالفة في الخدمات فقسّمت المجالات الحضرية إلى أحياء هامشية فقيرة يقطنها السود، وأخرى راقية يسكنها البيض مع إعطاء البيض حق التنقل بحرية، بينما مُنع على السود ولوج بعض المناطق السياحية والحساسة.
القبضة الأمنية
بموازاة الإجراءات المؤسسية المكرسة لإقصاء السود، شدَّد نظام الأبارتايد قبضته الأمنية، فاضطهد مناوئيه بلا تردد وألقى بزعامات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في السجون، وتصدى لكل الحركات الاحتجاجية بالقمع والقتل، فكانت مجازر سويتو وغيرها من الانتهاكات التي هزت الرأي العام العالمي.
لكن سياسات الميز العنصري بدأت تأتي بنتائج عكسية، وكشفت محدودية نظام بريتوريا وعدم قدرته على الحياة دون إصلاحات جذرية تُعيد البلد إلى حياة سياسية واجتماعية طبيعية، وتُنصف الأغلبية السوداء، وتساير المتغيرات الهائلة المتساقطة في المحيط الإقليمي (استقلال الدول الأفريقية وتعبئتها لقضية شعب جنوب أفريقيا)، والدولي أي سقوط جدار برلين الذي جاء مصداقا لمؤشرات سابقة على قرب سقوط المعسكر الشرقي ونهاية القطبية الثنائية.
السياق التاريخي للمصالحة
مع بوادر قرب سقوط المعسكر الشرقي في أواسط ثمانينيات القرن العشرين، وتنامي تعاطف الرأي العام الدولي مع شعب جنوب أفريقيا، اقتنع رئيس النظام العنصري بجنوب أفريقيا فريديرك دوكليرك بحتمية المصالحة وإلغاء نظام الفصل العنصري نهائيا، فباشر إجراء اتصالات سرية مع نلسون مانديلا في معتقله بجزيرة نيو آيلند.
وفي نهاية عقد الثمانينيات، كان نظام الأبارتايد يحتضر جراء حصار دولي خانق، وتعبئة شعبية أفريقية وعالمية ضدَّه جعلت أهم حلفائه (الحكومة البريطانية) عاجزة عن مساعدته.
وفي خضم إرهاصات انتهاء الحرب الباردة، أجرت سلطات بريتوريا اتصالات سرية بالزعيم نلسون مانديلا وزعامات المؤتمر الوطني، لكن مانديلا رفض التفاوض وهو سجين.
وبعد سنوات من الاتصالات، خرج مانديلا ورفاقه من السجن في 11 فبراير/شباط 1990، ليُطلق الجانبان مفاوضات سياسية تُوجت بإلغاء الفصل العنصري والدعوة لتنظيم انتخابات تعددية هي الأولى في تاريخ البلاد. وقد جرت في عام 1994 وفاز بها المؤتمر الوطني الأفريقي وزعيمه نلسون مانديلا. وقبلها حصل دوكليرك ونلسون مانديلا مناصفة على جائزة نوبل للسلام عام 1993 .